ســلامة منهـج الداعيـة
مطلب: الكمال في القرآن.
مطلب: الإخراج من التيه.
مطلب: يسروا ولا تعسروا.
مطلب: رحمة عامة شاملة.
مطلب: شعب الإيمان تحدد المسار.
مطلب: يحمل هذا العلم عدوله.
إن سلامة المنهج شرط أساسي للصواب، وكم من مناهج قارفها الزلل ابتداءً فلم يكن من ورائها طائل، بل سببت سلبيات وربما كوارث على الدعوة والدعاة، ونحاول هنا تلمس ملامح أساسية في سلامة المنهج :
1- الكمال في القرآن : إن الدارس للقرآن الكريم يجد أنه مامن ظرف ولاحالة ولاإشكال ولامحنة قد يمر بها الداعية إلا وبُينت له منارات التوجه السليم فيها .
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)1. وخصصت سور كاملة لتروي تجارب أنبياء الله الكرام . (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)2. فكتاب الله مَعِينُ الداعية أبدا، وفيه كافة التجارب اللازمة للهداية ورد الناس إليه تعالى.
إن أساليب الدعوة كما وردت في القرآن الكريم، هي الأساليب الشرعية التي لاينبغي العدول عنها (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)3، وقد زكاها الله في كتابه، وأثنى على حملتها فقال : (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)4.
2- الإخراج من التيه : (إن سيئة واحدة إذا ألقاها واحد منا في ساحة هذا الوجود، يوشك أن تصبح بعد سنوات من الزمن جريمة لاتنسب إلى فرد معين ولاتنحصر في شخص، بل تنصبغ بها ملايين من النفوس الإسلامية، وستكشف لكم الأيام والأعوام القادمة عن أمثلة كثيرة لصدق هذه الحقيقة )5، ومن المؤسف أن هذا الأمر لاينتبه له العديد من الدعاة، والتعصب الشديد يأخذ ببعضهم، ويصبح الحط من قدر الآخرين ديدنهم، حتى أن المسلم الجديد يكاد يضيع، ويروي أحدهم تجربته العملية في ذلك بين الجماعات المختلفة: (وكنت أشعر في بعض الأحيان أن كلاً منها كان يحاول جذبي إلى صفوفهم؛ ففي كثير من الأحيان كان بعضهم يأخذني جانباً ويهمس في أذني محذراً بالقول : ألاّ أقترب كثيراً من هؤلاء الإخوة. وكانت كل فرقة تخبرني أن الفرقة الأخرى ضالة عن الإسلام، وعند ذلك في الواقع لم أكن قادراً على تحديد موقفي … وفي كل مرة كانت كل مجموعة تسألني عما قالته المجموعة الأخرى، ثم تقوم بتصحيح بعض الأشياء التي تعلمتها من تلك المجموعة، وسرعان ماتولد لدي انطباع وهو أنه بالرغم من أن الإسلام ينهى عن الغيبة والنميمة فإن المسلمين نمامون ومغتابون بالعادة ، وأن ذلك هو الشغل الشاغل للجالية الإسلامية)6.
3- يسروا ولا تعسروا وبشروا ولاتنفروا : يغلب على بعض الدعاة نوع من التشدد في طرح بعض الأمور، وهذا المنهج بحاجة للمراجعة على هدي الكتاب والسنة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)7، ويبين الله تعالى منهجه القويم: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ8 .
لم يكن فقه التعسير أبداً بسديد، والتشدد يحسنه كل أحد، والصلابة إنما ينبغي أن تكون في الثوابت القطعية لا الظنيات، وقول الله تعالى لنبيه: (طَهَ * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى)9 هو خطاب لكل مسلم.
لقد منيت الدعوة بخسائر فادحة جداً من وراء التعسير والذي وراءه التنفير، ولقد عقب الإمام ابن حجر العسقلاني على حديث سلمان رضي الله عنه إذ يطلب من أبي الدرداء رضي الله عنه يعطي كل ذي حق حقه ؛ بقوله: (وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن يفضي ذلك إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور10 .
أفما من حق للإسلام والدعوة وفقه التيسير، ذلك إن كان الأمر مستحباً ؛ فكيف بالمرجوح والمفضول ؛ وكيف بما يؤدي إلى فتنة في الدين وازدراء بالمسلمين ، والتعسير بدل التيسير ، والتنفير بدل التبشير؟ .
4- رحمة عامة شاملة : لقد قال تعالى في حق رسوله الكريم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)11، وبكى عليه الصلاة والسلام وقام الليل مفتقراً إلى الله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)12.
لاينبغي لبعض الظروف والمآسي التي يتعرض لها المسلمون أن تصرفهم عن أصل رسالتهم، وواجبهم في القيام بعمل الأنبياء.
إن البشرية تئن حقيقة وتتألم وهي بحاجة لمن يمد لها يد الرحمة فلقد طحنها المفسدون في الأرض ومحوا كرامتها ولابد من منقذ، فمن تراه يكون غير المؤمنين المصلحين الرحماء.
5- شُعَبُ الإيمان تحدد المسار: إن شعب الإيمان قد انحسر العديد منها عملياً في حياة بعض المسلمين، فـ ((الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة: فأفضلها قول لاإله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان))13.
في أحيان عديدة فإن إعطاء بعض الأمور أكثر من أهميتها أوأقل يؤدي إلى اختلالات في فقه الإسلام، وإن العجز عن رؤية الصورة الكلية أوحملها بالشكل الصحيح أدى إى مناهج ضيقة وتشويهات مريعة يدفع الإسلام ثمناً مرهقاً لها؛ (فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذاً صورت صورة مثمرة. وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما أي دليل كان عفواً وأولياً، وإن كان ثم مايعارضه من كلي أوجزئي ؛ فكأن العضو الواحد لايعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً؛ فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به)14.
أكثر الثغرات الملاحظة في ساحة العمل الدعوي هو الفقه الاجتزائي، وعدم إدراك علاقة الفروع بالأصول، وانفصال المبدأ عن السلوك، والتركيز غير المتوازن، وانقلاب أحجام الأحكام الشرعية، وإذا ترافق ذلك مع سذاجة واعتداد بالنفس فإن عجزاً معيباً سيطوق حركتنا، ولا مخرج من ذلك إلا بإعادة التفقه بشعب الإيمان.
6- يحمل هذا العلم عدوله : هناك خلط عند عوام الدعاة بين قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)15، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((بلغوا عني ولو آية))16، ولقد ذكر الإمام العسقلاني في شرح الحديث عن المعافى النهرواني في كتاب الجليس أن (الآية في اللغة تطلق على ثلاثة معانٍ: العلامة الفاصلة، والأعجوبة الحاصلة، والبلية النازلة …. ويجمع بين هذه المعاني الثلاثة أنه قيل لها: آية لدلالتها وفصلها وإبانتها ؛ وقال في الحديث (ولوآية) أي واحدة ليسارع كل سامعٍ إلى تبليغ ماوقع له من الآي ولوقل ليتصل بذلك نقل جميع ماجاء به محمد عليه الصلاة والسلام)17؛ فما نراه من مسارعة البعض إلى الفتيا الجازمة في كل أمر مع ضيق العطن وقلة العلم وانتفاخ الأوداج وضعف الفهم مستدلين بالحديث الشريف السابق فليس من البلاغ في شيء، فإن التبليغ إنما يكون في الأمور القطعية التي لايُعذر بجهلها الناس فتقوم الحجة على الجميع لإبلاغها ورفع الجهالة عمن لابسته.
أما دقائق الأمور وغوامضها ومايتصل بغيره من الأمور ومايتعلق بظروف وأحوال خاصة فالأمر فيه موكول إلى أهل العلم بلا خلاف امتثالاً للآية الكريمة، ووقد نقل القاسمي عن القاشاني في تفسير سورة التوبة – الآية 122 مايلي: (فالمراد من التفقه علم راسخ في القلب؛ ضارب بعروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح؛ بحيث لايمكن صاحبه ارتكاب مايخالف ذلك العلم وإلا لم يكن عالماً)18.
العامي من الدعاة لايطيق أن يرى له مخالفاً، وربما وصمه بالبدعة لأية مخالفة لما هو عليه، ولم يفرق بين بدعة اللغة وبدعة الدين، ولو فرَّقَ لجزم بحبوط عمل مخالفه، وأن مصيره جهنم بلا خلاف، وكل ذلك قمعاً للبدعة وظناً أنه يُبلغ الآية التي يعلمها، أما ابن تيمية فيقول: (وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلقٌ كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين؛ وهو خير من أن يكونوا كفارا)19، ومن لطائف مانقل عن العلماء أن الخليفة المأمون [رغم تعصبه] كان رجلاً عالماً وعنده صفات تليق بالدعاة ، (وقد كان يرد على الملحدين وأهل الأهواء، وإذا قال لمرتد كان أسلم على يديه: أخبرني مالذي أوحشك مما كنت به آنساً من ديننا؟ وقال له المرتد غير هياب ولا وجل: أوحشني منكم مارأيت من الاختلاف في دينكم، لم يتنكر له المأمون، وإنما كان يرد عليه فلا يزال يخرج من حجة إلى حجة حتى يرجع به إلى الإسلام)20، فرحم الله من قال: إذا سكت من لايعلم سقط الخلاف.
————————
1- سورة هود ، آية 120.
2- سورة يوسف ، آية 111.
3- سورة الشورى ، آية 15.
4- سورة يوسف ، آية 108.
5- سعيد النورسي (بديع الزمان) ، الخطبة الشامية (سلسلة رسائل النور) ، ترجمة محمد سعيد رمضان البوطي ، دم ، دن ، دت ، ص21. [وقد ألقى النورسي خطبته الشهيرة أثناء زيارته لدمشق عام 1911م]
6- جيفري لانغ ، حتى الملائكة تسأل (رحلة إلى الإسلام في أميركا) ، بيروت-دمشق/دار الفكرالمعاصر-دار الفكر ، 1422هـ/2001م ، ص282-283.
7- سورة الأحزاب ، ص21.
8- سورة البقرة ، ص 185.
9- سورة طه ، الآيات 1-2.
10- ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، كتاب الصوم ، باب من أقسم على أخيه ليفطر، الحديث (1968).
11-سورة الأنبياء ، ص107.
12- سورة المائدة ، ص 118.
13- يحيى بن شرف النووي (676هـ/1277م) ، شرح صحيح مسلم ، دم ، المطبعة الكستلية ، 1283هـ ، كتاب الإيمان ، باب بيان عدد شعب الإيمان ، ، 1 ، ص 126.
14- إبراهيم بن موسى الشاطبي (790هـ/1388م) ، الاعتصام ، القاهرة ، المكتبة التجارية الكبرى ، دت ، ص 245.
15- سورة النحل ، ص 43.
16- ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب ماذكر عن بني إسرائيل ، الحديث (3461) .
17- ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، 6،575.
18- جمال الدين القاسمي ، محاسن التأويل ، مرجع سابق ، 8 ، 3300.
19- عبد الكريم بكار ، فصول في التفكير الموضوعي ، دمشق ، دار القلم ، 1413هـ/1993م ، ص120.
20- شفيق جبري ، الجاحظ معلم العقل والأدب ، دمشق ، دار البشائر ، ط2، 1422هـ/2001م ، ص 83.