الزائر الجديد
قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
شتان ما بين معلم الناس الخير ، وبين من نصَّب نفسه داعيًا إلى النار ، هاديًا إلى الضلال ، دالاً الناس على طريق المغضوب عليهم أو الضالين ، ممن ذمهم الله في كتابه الكريم .
وحكيم بن محمود ، فيه خصلة من النوع الثاني .. ولعله لم يتلقَّ في صغره ما يمنعه من الانزلاق إلى مهاوي الرذيلة في كبره !
قال : والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجر من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .. كما جاء في الحديث .
قال أبو العرفان وفي إحدى الأمسيات ، وبعد صلاة المغرب .. التقى هؤلاء في بيت الجارية ، فلما اكتمل الجمع ، سأل أبو محمود :
- أين الخادم ؟
قال سعيد بن منصور :
- لقد علمت أنه ترك الخدمة ..
فقاطعه حبيب بن مسعود وقال :
- إنه تاب .. إنه لم يرض لنفسه هذا العمل !
وصرخ حكيم بن محمود وهو ينهض غاضبًا :
- هل تريد أن تنغِّص علينا ليلتنا يا حبيب ؟
فهز حبيب رأسه ، وأجابه بصوت هادئ :
- كلا .. إنما تكلمت بما علمت .. ودونك سرشير فاسألها ..
قال سعيد :
- من الأفضل أن نعيده إلى خدمتها ، سنغريه بالمال ..
فضحك حبيب وقال :
- إنك لن تجده ، ولن يأتي ..
وقبل أن يسأله واحد منهم مضى يقول :
- إنه ترك بغداد .. ولا أحد يدري إلى أين ذهب ، لقد أراد أن يذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد .. أراد أن يبدأ حياة جديدة بيضاء ..
فهتف سعيد مؤيدًا :
- لقد أحسن والله صنعًا ..
وسأل أبو محمود :
- وما يدريك أنه قد ذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ؟
قال حبيب مؤكدًا :
- رأيته عشية اليوم الذي ترك فيه هذا البيت ، فاستوقفته وسألته أين يريد .. فأجابني بأنه يريد التفرغ للعبادة ، يريد أن يبدأ حياة جديدة لا تشوبها معصية .
فضحك أبو محمود وقال باستخفاف :
سيعود إلينا .. سوف يندم .
فأجابه سعيد .
- لا يا أبا محمود .. إنه لا يعود ..
فضرب أبو محمود بقبضة يده على المائدة ، وقال مؤكدًا :
- بل يعود .. وسوف ينحني على أيدينا يقبِّلها يسألنا أن نعفو عنه .
فرفع حسَّان بن معيقيب رأسه ، وكان قد ظل صامتًا طول الوقت ، ونظر إلى حيكم وقال :
- لا أظن ذلك .
وضحك أبو محمود ، وقال وهو يحوِّل وجهة الحديث :
- ليذهب .. لا حاجة لنا به .
ثم نظر وجه حبيب ، وأدنى رأسه وقال بصوت خفيض وكأنه يريد أن يبوح بسر خطير :
- سوف يأتينا من هو خير منه .
وهتف سعيد بن منصور :
- من هو ؟
أما حبيب بن مسعود ، فقد خشي أن يتكلم ، لئلا يكون ..
ونظر أبو محمود في وجه حبيب وهو يقول :
- من تظنه يا حبيب ؟
أما هذا ، فقد روعته لهجة حكيم ، وبقي صامتًا جامدًا ينظر إليه . لعل الشيطان قد عملها ..
ونقر أبو محمود على المائدة بإصبعه وهو يقول :
- قد وقع صاحبك يا حبيب ؟
ولم يصدق حبيب ما سمع ، وقال بكل ثقة وهو يردُّ عليه .. ولم يكن قد علم بما جرى من الأمور :
- هيهات ..
قال أبو محمود ، وهو ينقر على المائدة بشكلٍ رتيب :
- إنه سيأتي ..
فرفع حبيب يده اليمنى ، وقال وهو يحرِّك إصبعه في وجه حكيم :
- هذا محال .. إن يسارًا لا يقع ، إنه كالنسر لا يحلق إلا عاليًا .
وضحك أبو محمود وهو يقول متحديًا :
- وإذا جاء هذه الليلة ؟
قال حبيب جازمًا :
- إنه لن يأتي ..
وعاد أبو محمود يستثيره ، وينقر على المائدة ويقول :
- وإذا حضر ؟
- إنه لن يحضر .
ولم يعلِّق حسَّان بن معيقيب ، أما سعيد بن منصور فقد هزَّ رأسه وقال :
- لننتظر .
وقال حبيب بانفعال :
- إن يسارًا لا يقع .. أنتم لا تعلمون أي رجل هو ..
وراح يتحدث عن يسار :
- كان يصوم يومين في الأسبوع ، عدا رمضان ، وكان يقوم كل ليلة .. إنه يعيش في هذه الدنيا ومع الناس ، ولكن قلبه ، ولكن روحه لا تعيش إلا في السماء ..
من مثل يسار ..
وتنهَّد وهو ينظر إلى القناديل التي أضاءت المكان ، وقال وكأنه يخاطب نفيه :
- من في الدنيا مثل يسار ..
وضحك أبو محمود بتهكُّم وقال :
- كذلك كنت أن يا حبيب .
وأجاب حبيب بصوت كأنه الهمس ، وقال بأسف وندم :
- كلا .. لم أكن مثل يسار .. ولا نصفه .. ومع ذلك فأنت السبب ، وعليك الوزر .
وصاح أبو محمود وهو يتصنَّع الغضب :
- اذهب يا أخي .. اذهب إلى صلاتك وعبادتك وزهدك ..
وتنهَّد حسان بتوجع ، وقد أثارته كلمة زهد .. وراح يردد وهو يتطلع في وجه حكيم :
- نداء دعا زهدًا فخف له قلبي ..
ثم نكس رأسه وراح يدمدم مع نفسه بصوت خفيف لا يتبينه أحد . وكان سعيد ينظر إلى حسَّان ويتألم لحاله ..
وقال حبيب ، وكأنه يخاطب نفسه :
- لا يا أبا محمود .. ليس كما قلت .. لقد كنت أنت السبب في كل ما نحن عليه الآن .. أنت تعلم أنني لا أستطيع أن أترككم .. لأني تلوثت معكم .
وضحك أبو محمود ، وقد سرَّه ما رأى من حال حبيب وقال :
- لماذا لا تعود إلى سابق عهدك ؟
قال حبيب وقد أطرق مفكرًا :
- قلت لك لا أستطيع ..
وقبل أن ينتهي حبيب من جملته الأخيرة ، طرق الباب طرقًا خفيفًا فانبسطت أسارير حكيم ، ونهض مزهوًا وهو يشير إلى حبيب ويقول :
- هذا هو صاحبك قد حضر .
وخرج من الغرفة .. ولم يصدق حبيب ، وبقي معلقًا نظره بالباب ، وانفرج فم سعيد بن منصور عن ابتسامة حائرة ، وتعلقت العيون بالباب تنظر من القادم ..
وعاد أبو محمود وهو يجر وراءه شابًا تطوق وجهه لحية سوداء وتسبقه رائحة عطر زكي ..
وهتف أبو محمود بسرور :
- أقدِّم لكم ضيفنا الجديد .. يسار .
وشهق حبيب بن مسعود ، ولم يصدق عينه ما ترى ، ونهض سعيد وقد مد يده مرحـبًا .. أما حسَّان بن معيقيب ، فقد بقي في مكانه تحيط بفمه ابتسامة حزينة .
ودخل يسار مطرقًا خجلاًا ، ولم يرفع نظره إلى أحد من الحاضرين .. وجلس دون أن يتحرك ..
ومضى حكيم يدير الحديث ، وينثر الدعابة والنكتة ، فيضج الجميع بالضحك ، ما عدا حبيبًا الذي أخذ بما رأى .. وما عدا يسارًا أيضًا .. الذي لم يشارك إلا بابتسامة حيية تمر على شفتيه .
ولم يشعر يسار بوجود حبيب .. ومضى أبو محمود وقد أطربه ما أحرزه من ظفر لم يكن يتوقعه ، واجتاحته موجة من السرور أفقدته رشده .
وانحنى على يسار يسأله عن حاله ..
فأجاب يسار بهمس :
- إنني في أسوأ حال ..
وضحك أبو محمود وهو يقول :
- إنه الحب يا أخي ..
وأطرق يسار ، وقد التهب وجهه بحمرة الخجل .. ثم همس في أذن حكيم :
- إنني لم أرها منذ مدة ..
فنهض أبو محمود وقد استخفَّه الطرق وقال :
- ستراها اليوم .. إنها ستأتي .
ولم يصبر حبيب ، فصرخ محتجًّا :
- هذا محال .. إن هذا لا يكون ..
والتفت يسار فرآه !
وكاد يذوب خجلاً ..
إنه يحتج ..
حبيب بن مسعود يحتج ..
وعلى من ؟
على يسار .. الذي طالما نصح حبيبًا بالإقلاع عمَّا هو فيه ، وكان يذكره ويقص عليه كثيرًا من أخبار المتقدمين ، وكان حبيب يشعر بالندم ، وقد يبكي .. إن حبيبًا هو الذي يحتج . إنه يلتقي معه في المكان الذي كان يحذره منه !
وصرخ حبيب مرة أخرى :
- ما الذي جاء بك يا يسار ؟
ونهض أبو محمود فدفعه زاجرًا :
- وأنت ما الذي جاء بك ؟
وتنهَّد يسار ، وشعر بالامتنان العظيم لحكيم ، لقد أنقذه في الوقت المناسب . ولكن هذا صرخ مرة أخرى :
- إن هذا ليس مكانك يا يسار .. إن هذا لا يليق بك .. أنت لا تنزل إلى هذا المنحدر .
وكاد يهب حكيم وسعيد في وجهه ، لولا أن طرق الباب طرقًا عنيفًا . فسكت الجميع ، ولم يتحرك أحد منهم ، وتعلَّقت الأنظار بحكيم ، فهزَّ هذا رأسه وهو يقول :
- لا أدري من الطارق ، سوف تفتحه هي ..
وكانت الجارية في الداخل ، فأسرعت تفتح الباب .. ولما رأت القادم هتفت بكل جوارحها :
- مريد .. أنت عدت يا مريد ..
وأفسحت له وهي تقول :
- لقد كان قلبي يحدثني بأنك ستعود .. تفضَّل .
وسكتت ريثما تلتقط أنفاسها وقالت :
- إن مثلك لا يفرِّط في الأمانة .. لقد كانت ثقة أبي رحمه الله في محلها ..
فأجاب مريد دون أن يتحرك من مكانه :
- جئت أدعوك للعودة إلى الهند .
وبينما وقفت تنظر إليه وعلامات التعجُّب والاستفهام على وجهها ، مضى يقول :
- جمعتني القافلة برجل رحَّالة قادم من هناك .. وأخبرني ..
فقاطعته مستعجلة :
- ماذا أخبرك ؟
قال :
- أخبرني بأن السلطان عبدالحليم قد جهَّز جيشًا كبيرًا ، استطاع أن يدحر جيوش الممالك الوثنية التي خفت لنجدة الوزير الغادر ..
وأعاد السلطان محمود على مملكته في منداو .
وهتفت فرحة ومستبشرة :
- أتراه صادقًا فيما قال ؟
فأجاب مؤكدًا :
- كل الصدق .. لقد رأى ذلك بعينيه ، وأخبرني بأن كثيرًا من الذين هربوا قد عادوا إلى منداو ، وعادت لهم أملاكهم .
واستبد بها الفرح ، فأرادت أن تجذبه من يده لكي يدخل ويحدثها بكل شيء .. لكنها تذكرت .. أنه إذا رأى هؤلاء القوم مرة أخرى فسوف يغضب ، وربما يذهب ويتركها ولا يعود إليها بعد ذلك .
وسألته قائلة :
- متى تريد أن نذهب ؟
فأجاب :
- غدًا صباحًا .. إن شاء الله .
ثم أضاف قائلاً :
- نذهب أولاً في قارب من بغداد إلى البصرة ، ومن هناك تركب البحر في سفينة إلى الهند ..
قالت ، وقد غمرتها الفرحة ، فتنفست ملء صدرها وقالت :
- الله .. كم كنت أتمنى أن أرى البحر ، وأن أشمَّ نسيمه .
قال ، وكأنه يريد أن ينصرف :
- سأمر عليك غدًا صباحًا بعد ارتفاع الشمس فلا تتأخري .
قالت وهي تحاول إرضاءه :
- كما تشاء .. ولكن أين ستنام هذه الليلة ؟
فأجاب وهو يتنفس بارتياح :
- في المسجد ..
وسكت قليلاً ، وكأنه يريد أن يستحضر شيئًا غاب عنه وقال :
- إنه خير مكان يجد فيه المرء الراحة لنفسه وقلبه .
ثم ودَّعها وهو يقول :
- أرجو أن تكوني على استعداد .. غدًا صباحًا .
فلوَّحت بيدها وهي تقول :
- سأكون في انتظارك .
وقبل أن ترد الباب ، رفعت رأسها إلى السماء ، فرأت سربًا من الطيور محلقًا ، عائدًا إلى عشه ، يتغنى بصوت فيه معنى الحث والاستعجال لبلوغ المكان قبل أن يرخي الليل سدوله .
وخيَّمت عليها موجة من الحزن ..
إنها ستعود إلى الهند ..
ستكون وحيدة .. بلا أب ولا أم ..
حتى مريد .. ربما سيرى من واجبه أن يوصلها فقط ، ثم يتركها ويذهب إلى إحدى التكايا التي يتعبد فيها الزهاد . إنه يبدو وكأنه طلَّق الدنيا ثلاثًا .. نفضها من قلبه ، فلا يعود إليها ، ولا يسمح لها بالعودة إليه ، مهما أغرته بمباهجها .
يقال إن البحر واسع واسع أوسع من دجلة ، وأوسع من أي نهر رأته في حياتها ..
أصحيح أنها ستذهب في البحر .. في الطريق الذي سلكه السندباد في رحلاته السبع .. وهل سترسو السفينة على جزيرة تقف على ظهر سمكة !!
لابد أنها سترى من عجائب الدنيا أكثر مما قرأته في قصة السندباد .
ومريد .. هذا الأسود الذي يحاكي الليل في سواده ، إنه يحمل قلبًا أشد بياضًا من النهار .. مع نقاء سريرة وصفاء ذهن وإخلاص ليس له مثيل .
وردَّت الباب ثم عادت لتأخذ زينتها ، ثم تقضي بقية الليل مع القوم الذين حضروا .