إني صائم
قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
لم تتساقط الأقفال كلها كما ذكر الشيخ أبو العرفان ، فقد استمر يسار يقاوم مقاومة الأبطال ، ولكن أنَّى له الثبات ، وهو الفتى الذي لم يجرب حيل النساء !!
قال أبو العرفان : وانقطع عن الذهاب إلى المسجد الذي يصلي فيه صلاة الفجر ، ولم يعد يحضر حديث الشيخ ، وتلقفه حكيم بن محمود ، وحشى أذنه بخيالات وأوهام وحكايات ، أقل ما فيها يقسي القلب ولا يذكر بالرب .
قال أبو الحسن الورَّاق : وكان أبو محمود هذا ، واسع الحيلة عظيم المكر ، شديد الدهاء ، وكان يجد في ألاعيبه هذه لذة وتسلية لا يجدها في غيرها .. ومن ألاعيبه أنه استطاع أن ينتزع سعيد بن منصور من بيته ويضمه إلى فرقته !!
فقد نشأ سعيد في بيت علم وتقى ، وأبو الشيخ رحمه الله ، كان عـالمًا فاضلاً ، تفجر ينبوع الحكمة على لسانه .. إلا أنه لم يكن به ميل إلى التأليف .
في هذا البيت الكريم نشأ سعيد ، وكان يُضرب به المثل في السلوك الحسن . وقبل سنتين أصيب بمرض ألزمه الفراش عددًا من الشهور ، فأخذ حكيم هذا يتردد عليه ، ويتودد إليه ، وصار يقص عليه حكايات أهل الفسق والمجون ، حتى توطَّدت العلاقة بينهما ، وازداد تعلق سعيد بحكيم .. وعندما نفض عن ثوب المرض ، صار لا يخرج إلا معه ، ولا يجد الراحة إلا بمجالسته .
قال : وظني الذي أكاد أقطع به ، أنه لا يستمر معه طويلاً وسيأتي اليوم الذي يحن فيه إلى منازله الأولى ، وقد ترك له أبوه رحمه الله وصية ، ولكنه لم يلق عليها نظرة إلى يومنا هذا .!
قال أبو العرفان : ولم يذهب يسار إلى بيت الجارية كما وعد ، فقد استيقظ في اليوم التالي بعد أذان الفجر بمدة طويلة .. وسابق قرص الشمس في الصلاة ، فاعتبر هذا دليل الهبوط في إيمانه ، وجعله يعيد النظر في نفسه ..
أتكون الجارية قد خدعته ؟!
ربما .. بل من المحتمل جدًا .
ولكنه سمعها تئن .. وتتأوه .
لقد رآها تتلوى من الألم ..
تتساقط الدموع على خديها .
وتمثلت له كأنها تنظر في عينيه وتقول :
- هل تريدني أن أعيش ..
ثم وهي تقول :
- أنت تحبني أليس كذلك ؟
لاشك أنه تسرع ، وتسرع كثيرًا ..
أيكون قد كتب عليه أن يمتحن بهذه الجارية ؟!
وعادت قصة يوسف الصديق تتمثل أمامه .. كما سمعها من فم الشيخ .. شاب ، في عز قوته وفتوته وجماله ..
تدعوه امرأة .. نبيلة عزيزة جميلة ..
فيقول لها بكل إباء :
- لا ..
ويسجل القرآن موقفه هذا بحروف من نور ، ترددها الأجيال إلى قيام الساعة ، وكلما استجدت حادثة مثلها ، أو قريبً منها : } إنه كان من عبادنا المخلصين { .
وصرخ يسار وه يكاد يتمزق من الألم :
- أنا أبلغ مرتبة الإخلاص ؟!
كيف استطاع يوسف أن يصبر ..
وكل شيء .. كل شيء ..
حتى الجدران الأربعة ، والأبواب الموصدة ، المرأة العاشقة ، تبذل له كل شيء ..
تتودد إليه .. تتوسل ..
تتمرغ على قدميه ..
ولكنه قال كلمته : لا ..
أي قوة إيمانية كان يتمتع بها ؟
لابد أن يكون ما قام في قلبه ، أعظم وأجل مما تستطيع امرأة مهما بلغت من الحسن والحيلة والدهاء ، أن تصل إليه وتنال منه !!
لقد غسل قلبه من هذه المرأة .. وملأه بمعان أخرى ، مادتها من نور ، ومصدرها السماء ، فهو دائم التحليق عاليًا عاليًا ولا ينزل إلى الأرض إلا بمقدار ما يتناول منها ما يعينه على الصعود والصمود ..
وتنهَّد يسار وهو يردد بصوت مسموع :
- ذلك مثل ضربه الله للفتية المؤمنين : } إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين { .
إن المؤمن ليمتحن بالغنى والفقر والمرض والسجن ..
ولكن هذا الامتحان ..
آه يا ربي ..
لا أستطيع .. لا أستطيع يا رب .
ومر يوم ، ويوم ، ويوم .. وبعد صلاة العصر من أحد الأيام ، رأى يسار أن يذهب إلى المقبرة ، يستمد من صمت القبور حديثًا بليغًا يعينه على مواصلة السير ..
كيف وصل العارفون إلى ما وصلوا إليه ؟
إنه يتذكر عندما ذهب مرة ، وقرأ بعض ما كتب على القبور ، لقد أمدته تلك الزيارة بطاقة إيمانية دفعته إلى مضاعفة الجهد ومواصلة السير .. لاسيما عندما التفت إلى صاحبه يسأله :
- لماذا ترتفع المقبرة عن الأرض المحيطة بها ؟
فأجابه أبو الحسين وهو يتنهَّد :
- رب قبر قد صار قبرًا مرارًا ..
مستشهدًا بقول الشاعر ، دون أن يأتي على الشطر الثاني من البيت .
ليذهب هذا اليوم .. فلعل هذه الزيارة تستطيع أن تغسل من قلبه صورة الفتاة ..
الفتاة ..
الفتاة ..
المريضة المسكينة التي كانت تتألم ، تتوجع ، تئن ..
وعادت الصور تعرض في مخيلته ..
لم تكن تقوى على النهوض ، كانت تنظر إليه بعينيها الجميلتين وكأنها تستغيث ودمعة متوسلة من عصارة القلب تدحرجت على خدها ..
لقد أحب تلك الليلة .. أحب كل ما فيها ..
أحب الرذاذ المتساقط الذي أرسلته السماء برفق كأنها تخشى أن توقظ الأرض النائمة ..
والخادم الذي لم يرد أن يغادر دون أن يصحبه إليها ..
حتى جدران الغرفة ، والسرير القرطبي الذي يقال أن أميرات الأندلس يستعملنه ، والقناديل المتألقة .. والقدح الذي تناولت منه الدواء ..
ولم يشعر إلا وهو يقف على باب بيتها في نهاية سوق الخبازين ، وكان الوقت قد قارب المغرب ..
ورفع يده يهم بطرق الباب ..
ولكنه توقف ..
وأخذت يده تهبط بهدوء ، حتى استقرت إلى جانبه .
ثم استدار عائدًا .. من حيث أتى ..
ومشى خطوات ..
بطيئة ، ثقيلة ، متمهلة ..
ثم وقف ..
لقد شعر بشيء خفي يشده إلى الخلف .. إلى بيت الجارية ، فالتفت ينظر إلى الدار ..
هذه نخلة باسقة تقف أمام الباب باعتزاز ، وقد تعلَّقت الشمس بجدائلها .. كيـف لم يرهـا من قبل ؟!
وهناك أطفال يلعبون بكرات من الصوف يتقاذفون بها بأرجلهم .. وصبية صغيرة ترتدي ثوبًا أزرق تنتشر عليه خطوط بيضاء ، تسير إلى جانب أمها وهي تنظر إلى الأطفال وتضحك .
وطفل أشقر أطل من النافذة وقد أرسل تفاحة ربطها بخيط وأخذ يؤرجحها فهو يتسلى بهذه اللعبة ..
السماء تبدو صافية ..
كان كل شيء في هذه المحلة يبدو لعينيه جميلاً ومحببًا ..
البيوت المتلاصقة على الجانبين ..
والزهور التي تطل من الشرفات ..
والدكان القديم الذي يقع في نهاية الشارع .
وأطفال المحلة ..
والناس الذين يتكلمون بهمس .
وبيت الجارية ..
إنه يضم أجمل فتاة في الدنيا ..
وعاد مرة أخرى ، وقد عزم على أن يطرق الباب ، لقد أيقظت هذه الأحلام مشاعره ، وازدادت رغبته ، وملأت حواسه فأقبل ملهوفًا يريد أن يطرق الباب ..
ولكنه قبل أن يتقدم إلى الخطوة الثالثة تذكر ..
تذكر حديث الشيخ في آخر مرة حضر فيها إلى المسجد ، كان يتحدث وعيناه تتألقان بالنور ، ونظراته تنفذ إلى الأعماق .. وعبدالله بن الشيخ إبراهيم ، ومحمد الذهب ، وأبو الحسن علي بن حسين ، وعبود وسلمان النجدي ، وغيرهم . كلهم يستمعون إليه .. أما هو فقد استطاع أن يتحاشى النظر إلى الشيخ طول الوقت لئلا يفتضح ..
وتذكر كيف ضرب الشيخ مثلاً للسائرين إلى الله ..
ترى أين مكانه ؟
هل هو في حال المتحرج من الجبل ؟!
وإلى أين وصل ؟
أتقف هذه المرأة في طريقه ؟
وغضب يسار وهو يرى أنه قد أهين بجره إلى هذا الطريق .. وعزم على أن يقابل الجارية ليرى ماذا كانت تريد أن تقوله .. ولكي يصرخ في وجهها ، سيقول لها صراحة :
- أنا أكرهك .
سوف يتخلص منها بلا ريب ..
وأسرع الخطو ..
وطرق الباب ..
وانتظر ..
انتظر طويلاً .. فلم يفتح الباب !
وطرق مرة أخرى .. وتمنى لو سمع صوتًا .. أي صوت .. فلم يسمع إلا شقشقة العصافير على النخلة الباسقة التي تجاوزت في ارتفاعها سطح الدار .. وأراد أن يعود .. ولكن ..
وتذكر أن الطرق المسموح به ثلاث مرات ، وقد طرق مرتين .. ورفع يده ..
قال أبو العرفان : أخبرني من أثق به ، أن الجارية كانت قد أبصرت بيسار عندما أقبل ، وإنها كنت تقف وراء الباب تنظر إليه من ثقب صغير .. قال : فلما طرق الثالثة ، انتظرت حتى هم بالانصراف ، ثم فتحت الباب .. وبدت له بشعرها الطويل الأسود اللامع الذي أرسلته على كتفيها ، وعينيها الكحيلتين ، وأنفها الصغير المستقيم ، ووجهها الذي عادت إليه العافية فأكسبته بهاءً ورواءً .
ورحبت به بابتسامة غمرت كل أعضائها ، وبصوت كالهمس قالت :
- تفضل ..
وقبل أن يتعذر ، رآها تترك الباب مفتوحًا ، وتتقدمه إلى غرفة الاستقبال .. ولم يشعر إلا وهو هناك ، والجارية تشير إليه بكل رقة وتدعوه للجلوس . ثم تركت الغرفة ، وعادت بعد قليل وقد زيَّنت شعرها بوردة بيضاء ، وحلمت إليه في صينية مستديرة قدحًا من عصير الرمان .
وأمام هذا نسي حديث الشيخ ونسي نفسه ، ونسي كل شيء وعاد لا يعيش إلا هذه اللحظة .. ولا يدري كيف امتدت يده إلى القدح الذي يحاكي لونه لون شفتيها ، وهل كان ينظر إلى القدح أم إليها ! كان ينظر إليها كالمسحور ، ولم ينتبه إلا على صوتها وهي تصبح :
- انتبه يا سيدي .. العصير ..
كانت يده قد مالت بالقدح ، وكاد العصير يتبدد على ثوبه .
ونسي يسار الغرض الذي جاء من أجله .. ولم يشعر إلا وهو يقول لها بصوت خافت متقطع :
- كيف حالك ؟
قالت وهي تنظر في عينيه ، وكأنها تريد أن تنفذ إلى قلبه :
- الحمد لله .
قال :
- أنت أحسن حالاً .. أليس كذلك ؟
فاهتزت الوردة التي تزين شعرها ، وقالت :
- بفضلك يا سيدي .
قال وكأنه يهمس في أذنها التي يزينها القرط اللؤلؤي :
- الفضل لله وحده .
قالت وابتسامة السرور تملأ وجهها :
- أنت ناولتني الدواء .. وكان فيه الشفاء .
وغض بصره .. وبقي صامتًا لحظات .. والقلوب تتحدث بدقَّاتها الرتيبة .. ثم نظر إليها كالولهان وقال :
- لم أعد أصبر يا سرشير ..
وأجابته وعطر أنفاسها يلامس وجهه :
- ولا أنا ..
وكان لا يزال يحمل القدح بيده عندما قالت :
- لقد صنعته لك ..
قال بنفس الصوت الخافت الحالم :
- وما يدريك أنني سأجيء ؟
قالت وهي تشير بأطراف أناملها الخضبة :
- قلبي حدثني ..
ورفع القدح إلى فمه ..
والتقت العيون في عناق طويل ..
وأدنت كرسيها وهي تقول :
- اشرب .. أنا صنعته .. بيدي ..
ومدت يدها .. تريد أن تسقيه .
واقتربت من يده ..
ولم تبق إلا مسافة قصيرة .. قصيرة ..
وارتفع صوت المؤذن لصلاة المغرب ..
الله أكبر ..
الله أكبر ..
فألقى يسار بالقدح وكأنه أصيب بلذع .. ونهض وهو يقول :
- إني صائم ..
قالت :
إنه أذان المغرب .
ولكنه أسرع نحو الباب وهو يقول :
- يجب أن أنصرف .
وخرج يسار ، والدنيا تميد به ، ولا يدري كيف قادته قدماه إلى هنا .. إلى بيت الجارية ..!
قال أبو الحسن الورَّاق : ومنذ ذلك اليوم تغيَّر يسار ..
لم يعد كما كان .. لم يعد ذلك العابد الزاهد الذي تملأ عليه العبادة أقطار حياته .
قال الشيخ جواد : قد يعزف الرجل عن نساء الدنيا كلها ، ولكن امرأة واحدة تستطيع أن تتسلل إلى قلبه وتحتل مكانًا فيه فلا تغادره .