الجزء الأول من وهم الحقيقة وجوائز الترضية
\”يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمرحتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته \” ، هذه العبارات الفاصلة التي قالها سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم لعمه أبي طالب نحفظها جميعاً ولكني بدأت أفهم شموليتها منذ فترة قريبة ، وأحس بحاجة الأمة إلى إعادة وعيها ، وضرورة أن يبقى الحق كاملاً غير منقوص ، ولا تستبدل به أي جائزة ترضية كانت ، في زمن أصبحت به جوائز الترضية هي الأساس في أعمال أقوام نعيذهم بالله ونعوذ به معهم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
إن الله لايكلف نفساً إلا وسعها ، فإذا ضاق الوسع بقي الأصل ناراً تحرق وروحاً تمور وقد لانستطيع أن نجهر بالحق في كل صعيد ، ولكن علينا أن نبقي الحق متأججاً في كل نَفَسٍ يخرج منا وخفقة قلب وقطرة دم وتردد روح في جنباتنا.
ولكن ذلك الحق تعترضه آفات ثلاث :
الآفة الأولى : وهم الحقيقة الكلية في جزئياتها : هذا الدين دين عالمي شامل أدت ظروف ضعفه إلى الكلل عن إدراك استيعابه لكل مجال ، فنهض ببعض أجزائه رجال وفاتت أجزاء أخرى فإذا بالثغرات تأتي فلا يُفطن لها بل نحاول سدها بطرق جانبها السداد فنفتح ثغرات أخرى .
تكاد المرحلية تكون السمة العامة للحراك الإسلامي المعاصر والبناء البعيد نادر وحتى شديد الصعوبة، والضغوط اليومية تستهلكنا، وقلة أولئك الذين أدركوا مقاصد الإسلام البعيدة وسيره مع الفطر النقية فلم يغرق في المرحلية؛ ألم يكن مرحلياً التفكير بقتل ابن أبي سلول، و ألم يكن نظر النبي الهاديصلى الله عليه وآله وسلم أبعد غوراً فلم يأذن بقتله وقال كما جاء في الصحيحين: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ومثلما يفعل التجار الماكرون عندما يواسون الخاسر في منافساتهم فيعطونه جائزة ترضية، فكذلك يفعل ذوو النظر الضيق مع فارق أنهم هم الذين يطلبون جوائز الترضية من أصحاب النفوذ ثم يفرون بها منتشين وكأن الدنيا قد حيزت لهم!
بعض جوائز الترضية أمرها هين ورغم الغبن فيها إلا أن وبالها يقع على فرد يعشقها ، أما الخطير في الأمر فهو عندما تتحول جوائز الترضية لتبتسر جزءاً من شمول الدعوة ومعاقد القوة في الأمة .
من أخطر الأمثلة على ذلك ماشاع بين الأمة من أن المسلم ليس له وطن ، وأن جنسية المسلم عقيدته ، ووطني وقومي حيث يدعى إلهيا ، وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددته عين أوطاني ، وهذا الكلام يتحدث عن حق بين وصواب ليس فيه شك ، فإن الله تعالى يقول : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة-24. ويقول القرطبي في الآية : وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب.
وهذه الآية لاتنفي باقي المحبوبات بل تؤكدها ، والإشكال يحصل إن قدم المسلم أياً من محبوباته على محبة الله ورسوله ، ويقول العلامة القاضي فيصل مولوي: (فالله تعالى لم ينكر علينا هذه الروابط وماينشأ عنها من حب ، ولكنه أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبنا لله ورسوله … وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبه لله والتزامه بأحكام شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى) .
إن هناك إشكالاً خفياً وهو أن يُظن أن انعدام تلك المحبوبات إنما هو عين التوفيق والصواب.
تقديم أي أمر على محبة الله ورسوله هو عين الضلال والخسران المبين ، ولكن محو المحبوبات الأخرى (والتي تأتي في ظلال محبة الله ورسوله) سبب خلل عظيم .
وإنني أزعم أن من أسباب استبداد الظالمين بالديار قلة حب الوطن في نفوس البعض ، وربما اعتقادهم أن فيه شيئاً لا يتفق مع الإسلام! وأخشى أن يظن البعض أن حب الأوطان بدعة غليظة وأن يكون فقه من لاوطن له قد طغى على فقه من له وطن.
لا أعرف أحداً قرأ ماكتبه علامة الشام الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته عن دمشق إلا وتأثر بذلك تأثراً شديداً ، ومن تابع فقرأ كتابه: دمشق ، صور من جمالها وعبر من نضالها ، فلن يملك عينيه من البكاء شوقاً إلى تلك الديار .
إن الأنظمة الثورية التي حكمت بعض دول العرب والمسلمين أتت لقيطة التاريخ مجهولة النسب فخنقت عن قصد كل نسب عريق في الأمة ، وجهلت الناس ببلادهم بل كرهتهم إياها ، فتركوها هجرة أو إهمالاً ، فتحس كأن جيشاً من المغول ، وجحافلاً من الجراد قد نزلت بها ، وعَلَكَت تلك الأنظمة كلمة الوطن والوطنية عَلْكاً فذهب الحس الوطني من الناس …
ياشام إن جراحي لاضفاف لها فمسِّحي عن جبيني الحُزن والتعبا
إن بعض الملتزمين من الشباب لم يذوقوا من الوطنية شيئاً ، بسبب أنه نشأ وربي في عهود محقت فيها الوطنية محقاً ، وتعمدت تلك الأنظمة أن تحطم في الناس مرجعياتهم بعد أن استولت على المرجعية السياسية بالحديد والنار وبانتخابات يعلم الكل كيف تدار وكيف تخرج نتائجها العجائبية، فصادرت المؤسسة الشرعية وصارت هي التي تعين من يتكلم بهواها ، بعد أن كان العلماء هم الذين يقدمون الصدور فيهم ، وصادرت المرجعية المهنية فوضعت يدها على كل نقابة وحرفة (كان في دمشق في العهد العثماني حوالي مائتي نقابة وزعيمها جميعاً نقيب النقباء وهو نقيب السادة أشراف أهل البيت ولم يكن حتى السلطان نفسه يستطيع خلعه) ، وصادرت المرجعية الاجتماعية فخلطت السكان خلطاً عجيباً وأصدرت قوانين أدخلت الحابل بالنابل فأصبح الناس غرباء في حيهم ، ولا كبير يجمعهم ، ثم أعانها البعض دون أن يدري في تفتيت المرجعية الأخيرة وهي المرجعية العائلية ، والتي لها الكثير من القوة ، فامتنع الكثيرون عن عميق الصلة مع أرحامهم ، بحجة أن هذا قليل التزام وذلك فيه طرف من ضعف ، وآخر امرأته سافرة ، ورابعهم شوهد يدخن ، فانفض سامر الأمة ، وتقطعت مزقاً ونتفاً ، ومادامت العقول لم تدرك الأثر الخطير لتفتت تلك المرجعيات فإنها بالتالي لم تفطن إلى أثر ذلك إلى أمر أعظم وهو انحسار الوطنية وقلة الغيرة على البلاد ، وفشو روح الإهمال والانتهازية بين الناس ، ونهبهم أموال بعض وكثرة شكاياتهم ضد بعضهم ، وملئهم المحاكم يرفعون فيها الظلم الصغير بالشكوى إلى ظالم أكبر.
لا أيها الإخوة والشباب ، ليس ذلك بالإنصاف إن لم ندر أغوار الأمور وعلاقة الأسباب بالنتائج ، فإن فقه التبسيط في عظائم الأمور ، وفقه التهويل في صغائرها أصاب الأمة أوكاد يصيبها بمقتل مفجع.
ولمن يريد الدليل على أن المؤمن يحب وطنه ، وأن الوطنية فيه لاتخبو ، تلك الأدلة التي اقتصرنا فيها على القليل ومن أراد الزيادة فليبحث:
- جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا) … وفي رواية حميد: (حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا ).
وقال المصنف ماخلاصته : قوله دَرَجَات (جمع درجة) أي طرقها المرتفعة، وللمستملي : دَوحات ، جمع دوحة وهي الشجرة العظيمة
وفي رواية جُدُرات وهو جمع جُدُر بضمتين جمع جدار … قال صاحب المطالع: جدرات أرجح من دوحات ومن درجات
قوله: (أوضع) أي أسرع السير
(من حبها) وهو يتعلق بقوله حركها أي حرك دابته بسبب حبه المدينة.
قال الإمام ابن حجر: وفي الحديث دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه!
- جاء في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، باب رقية النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا وَرِيقَةُ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا) قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم وضعها على التراب فعلق به شيء منه ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح، قال القرطبي: فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كأن أمرا فاشيا معلوما بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية.
وقال القرطبي أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله، وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة.
وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك.
وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة خاصة لبركتها، وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا ، وفيه نظر.
- جاء في فتح الباري ، كتاب الحدود ، باب المحاربين من أهل الردة :
قول الله تعالى :(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ)
….. وقد قرنت مفارقة الوطن بالقتل قال تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم).
وقال الشافعي: يكفيه مفارقة الوطن والعشيرة خذلانا وذلا.
- جاء في فتح الباري ، كتاب التعبير ، باب أول مابدئ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي :
( … فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ فَقَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا).
وخلاصة ماذكره ابن حجر : قوله (أو مخرجي هم) ؟ .. قال السهيلي: يؤخذ منه شدة مفارقة الوطن على النفس فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة أنهم يؤذونه ويكذبونه فلم يظهر منه انزعاج لذلك فلما ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك لحب الوطن وإلفه فقال ” أو مخرجي هم “؟ قال ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه فأشعر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع، ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله وجوار بيته وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام ، [وتلك البقاع ولا شك من أعز البقاع على المسلم ].
- جاء في فيض القدير : حرف الهمزة : (إذا قضى أحدكم) أي أتم (حجه) أو نحوه من سفر طاعة كغزو (فليعجل) أي فليسرع ندباً (الرجوع إلى أهله) أي وطنه وإن لم يكن له أهل (فإنه أعظم لأجره) لما يدخله على أهله وأصحابه من السرور بقدومه لأن الإقامة بالوطن يسهل معها القيام بوظائف العبادات أكثر من غيرها، وإذا كان هذا في الحج الذي هو أحد دعائم الإسلام فطلب ذلك في غيره من الأسفار المندوبة والمباحة أولى. ومنه أخذ أبو حنيفة كراهة المجاورة بمكة وخالفه صاحباه كالشافعي. وفيه ترجيح الإقامة على السفر غير الواجب.
…. قال الذهبي في المهذب سنده قوي.
- وننقل خلاصة ماذكره العجلوني في كشف الخفاء ، حرف الحاء المهملة. الحديث رقم: 1102 : ( حب الوطن من الإيمان) : قال الصغاني موضوع ، ومعناه صحيح، ورد القاري قوله ومعناه صحيح بأنه عجيب، قال إذ لا تلازم بين حب الوطن وبين الإيمان، قال ورد أيضا بقوله تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم – الآية) فإنها دلت على حبهم وطنهم، مع عدم تلبسهم بالإيمان، إذ ضمير عليهم للمنافقين، لكن انتصر له بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان انتهى.
كذا نقله القاري ثم عقـّبه بقوله ولا يخفى أن معنى الحديث : حب الوطن من علامة الإيمان وهي لا تكون إلا إذا كان الحب مختصا بالمؤمن، فإذا وجد فيه وفي غيره لا يصلح أن يكون علامة، قوله ومعناه صحيح نظرا إلى قوله تعالى حكاية عن المؤمنين (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا) فصحت معارضته بقوله تعالى (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا – الآية) ثم التحقيق أنه لا يلزم من كون الشيء علامة له اختصاصه به مطلقا، بل يكفي غالبا ألا ترى إلى حديث : (حسن العهد من الإيمان) وهو حديث صحيح .. مع أن حسن العهد يوجد حتى في الكافرين .
- ذكر ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر ، والخطابي في غريب الحديث قال قدم أُصيل - بالتصغير - الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت له عائشة كيف تركت مكة؟ قال اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها - الحديث، وروي أنه عليه الصلاو والسلام قال : حسبك يا أصيل لا تحزني، وفي رواية: ويهاً يا أصيل! تدع القلوب تقر
- في صحيح البخاري، باب: كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة :
عن عائشة رضي الله عنها : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وقال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة). قالت: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، قالت: فكان بطحان يجري نجلا، تعني ماء آجنا.
قال الإمام ابن حجر : وقوله: ” كما أخرجونا ” أي أخرجهم من رحمتك كما أخرجونا من وطننا.
وهناك سبب آخر لذهاب الوطنية هو مناهج ضيقة لا تتسع لغير حاملها جردت الأمة (ولو بحسن نية) من كثير من معاقد قوتها زاعمة التجرد والإخلاص ، وفاتها أن الإسلام دين للعالم وليس لبقعة من الأرض ضيقة ولا تنحشر رايته في مذهب بعينه ، ولو أن المسلمين في أي بلد قطنوه رفعوا رايتهم وسبقوا الناس في رعاية أوطانهم لكان من وراء ذلك خير عميم.
اقرؤوا ياشباب الإسلام وبناته لوعات القاضي الشهيد محمد محمود الزبيري:
حَطِّميني ياريحُ ثم انثري أشلاءَ روحي في جوِّ تلكَ الجِنانِ
وزعيني في كل حقل على الأزهارِ بين القدودِ والأغصانِ
زفَراتي طوفي سماءَ بلادي وانهلي من شُعاعها الرَّيان
أطفئي لوعتي بها واغمسي روحي فيها وبرِّدي ألحاني
وصِلي جيرتي وأهلي وأحبابي وقُصي عليهِمو مادهاني
وانثري في ثَراهمو قبلاتي واملئي رَحبَ أفقهِم من جِناني
وسليهم ماتصنعُ الروضةُ الغنَّا وأدواحُها الطِّوالُ الدواني
هل رثاني هَزارها هل بكاني وُرقَها هل شَجاهُ ماقد شجاني
ليتَ للروضِ مُهجةٌ فلعل الدَّهرَ يُبكيهِ مثلَ ما أبكاني
وعش مع الأستاذ عصام العطار في غربته وحنينه إلى وطنه :
غريبٌ يقلبهُ الحنينُ على الغَضى ويُرمضُه شوقاً إلى كل شائقِ
تناءت به دارٌ وأوحشَ مَنزلٌ وظلَّلَهُ هَمٌّ مَديد السُرادِقِ
فلا راحةٌ حتى ولو لان مَضجَعٌ ولا رَوحَ حتى في ظلال البواسِقِ
ألامحُ من خلفِ الحدودِ منازلاً تلوحُ كما لاح الشِّراعُ لغارِقِ
وعرج على شجون الأستاذ سليم عبد القادر:
ومانسيتُ بلادي ، مازهدتُ بها يوماً ولا أبتغي من دونها بَلدا
ولست أمضي إلى أرض أغايرها شوقاً ودرباً وآمالاً ومُعتقدا
أرضي ستبقى بلادي رَغم من جَحَدوا حَقّي بها وسيُخزي اللهُ من جَحَدا
فيها من الذكرياتِ الخُضرِ حَقلُ هُدى في الرُّوح مُنطبعٌ لا ينمحي أبدا
مازالَ حُبي لها يشتَدُّ ، دافقةً عيونه ولهيبُ الوجد مابَردا
قالوا: جِراحُ النوى في القلبِ غائرةٌ ما يُبرِئُ الجُّرحَ أو ما يمسحُ الكَمدا
فقلتُ: يومانِ : في حمصَ وفي حلبٍ ورشفتانِ : من العاصي ومِن بَردى
روى الأصمعي : إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه.
العينُ بعدَ فراقِها الوطنا لا ساكِنا ألِفَتْ ولا سَكَنا
ليت الذينَ أحِبُّهُمْ علموُا وهم هنالِكَ ما لقيتُ هُنا
إِن الغريبَ مُعَذبٌ أبداً إِن حَلَّ لم ينعمْ وإِن ظَعنا
لقد كانت بعض الجمعيات الإسلامية في سورية تحتفل بيوم الجلاء إذ كان لأهل العلم والدين القدح المعلى في طرد الفرنسيين ، وجولة المحدث الأكبر وتلميذيه الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب للتحريض على الثورة شيء لايمحوه الزمان! بل إن أستاذ التاريخ الفاضل الدكتور شوقي ابو خليل وضع كتاباً كاملاً عن الإسلام وحركات التحرر العربية ، وقد منعت الطبعة الأولى من أن تكون عليها صورة للإمام المجاهد عز الدين القسام يحمل بندقية ليبقى الجيل الجديد قابعاً في المساجد ، غارقاً في الأحلام لا يحرر وطناً ، ولا يتوق إلى استقلال ، يرضى بقليل الدين عن واسع آفاقه.
يوم الجلاء في أي بلد مسلم يوم يجب أن نلقن فيه أولادنا معاني الكرامة والاستقلال ، وينبغي أن نوقد فيهم طباع الأحرار وعزة الإيمان .. كما ينبغي الانتباه والتأكيد على أن لانقع في مأزقين: مأزق الضن بالوقت والدم والمال والروح في سبيل الأوطان ، ومأزق التفكير المحدود باعتقاد أنه ببذل الدم وحده تنتصر الأمم ، بل إن حب الأمة والصدق في الانتماء إليها يوجب فتح بوابات الحياة لها ، وهو أمر أصعب بكثير من صد غارات الموت عنها ، أو بذل الدم في سبيلها ، والعمل لاقتلاع نظام سياسي مستبد من جذوره أجدى بكثير من دفقات دم يجود بها من لم يعد يطيق العمل الطويل… ومصعب بن عمير ربما لم يدرك كثيرون حتى الآن أنه كان السبب في حياة الدولة المسلمة الأولى ففي صمت عمل لها ، وأسس وبنى ….. كل ذلك أدوار حضارية كلها تؤدي الى أدوار استشهادية في المحصلة ان كان هناك فهم إيماني حضاري لما يقومون به..
وأعيد هنا ذكر قصة رويتها للناس في خطبة جمعة قبل أن يعزلني الظالمون عن المنابر تعبر عن روح حب الوطن والحكمة ضالتنا ولا يضرنا من أي وعاء خرجت : في إحدى دول العالم الواقعة على البحار شيدت سدود حجرية تصد البحر عن السكان الذين طالما عانوا من الأمواج وهجمات المياه وكان التفقد الدائم للسدود وسد أية ثغرة تحصل فيها مهمة أساسية لا يفرط بها بحال وإلا فهو الهلاك.. وفي أحد الأيام كان هناك طفل صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره يتمشى قبل الغروب عند أحد السدود ولاحظ أن هناك تسربا للماء من فتحة صغيرة.. ونظر الطفل حوله.. كان الظلام قد بدأ بالانتشار ولم يكن هناك أحد يسمعه.. واستيقظ حس الطفل للحفاظ على أمته وشعر بالخطر الجسيم الذي ربما سيحصل لو أن هذه الفتحة قد توسعت وتدفق منها الماء.. وربما كان الأمر أبسط مما تصوره الصغير ولكن روح الالتزام بحفظ أمته وبلاده وأرضه وشعبه أبت عليه مغادرة المكان.. واحتار الصغير ماذا يفعل وخيم الظلام.. وخطرت بباله فكرة.. مد يده تجاه الفتحة التي يتدفق منها الماء.. كانت الفتحة في حجم قبضته الصغيرة تماما.. ومد يده الى داخلها قدر استطاعته وتوقف تدفق الماء وابتسم الصغير وغمرت قلبه سعادة غامرة بأنه يشارك في الدفاع عن أمته ضد خطر الأمواج والغرق.. وتكور الطفل على نفسه والبرد يزداد ويزداد ويده تتجمد بالتدريج بسبب برودة المياه وبرودة الجو.. ومضت الساعات والطفل في موقعه.. كان البرد شديدا فلم يمر بالموقع أحد لتفقده.. وقلق أهل الطفل عليه.. ومع خيوط الفجر.. وجد حرس الشاطىء طفلا صغيرا وقد دفع بيده وذراعه بأقصى مايستطيع في فتحة كانت تتسرب منها المياه.. لم تكن هناك قطرة بإمكانها أن تمر .. وذهل الحراس لوجه الطفل البارد الشاحب.. وعندما وضع أحدهم يده على الطفل ارتد مذعورا لقد كان متجمدا من البرد وقد انطفأت فيه شعلة الحياة.. ولكن كانت ترتسم على وجهه أمارات الرضا والسعادة.. وتزينه ابتسامة وديعة تقول لمن بعده : لقد مت من أجل أن أهب لبلادي الحياة.
فيامسلم ويامسلمة.. أين دور الاستشهاد الحضاري لديكم ، والله تعالى يقول”فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”..
لقد استقلت هذه البلاد منذ مايقارب نصف قرن وانتهى الاحتلال العسكري فوق أراضيها ثم تحررت بلاد عربية وإسلامية كثيرة.. إلى أن عاد معسكر الكفر بحملة شرسة.. ماكان هدفها التراب اليوم بل هدفها النفط والماء والسيطرة على الجو والفضاء.. عاد معسكر الكفر.. يريد الاحتلال بالسياسة والاقتصاد وفرض الهيمنة الدخيلة في الفكر والثقافة والحياة الاجتماعية عاد معسكر الكفر.. يصول ويجول..
ويادعاة الهدى والحق معذرة فيم التفرق والطاغوت متحــد
إن كان من سبب واه لفرقتنـا فألف دعوة حق تهتف اتحــدوا
إن فرقتنا حدود لا بقاء لها يظل يجمعنا في الله معتقـــد
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين” (آل عمران 139).. نريد منكم معنويات مرتفعة.. ثباتا دائما.. حيوية متدفقة.. وعملاً طويل النفس لاتقنعه جوائز الترضية بل يبحث عن اليقين .
يا ابن الإسلام ويا ابنة الإسلام.. إن يوم الجلاء القادم ينبغي أن يكون لكل أمة العرب والمسلمين.. وعندما كنت صغيرا كان عندنا في المدرسة الابتدائية درس للنشيد وكنا في كل أسبوع نتعلم نشيدا مؤثرا يحرك الجبال.. فمن نشيد ثورة الجزائر إلى نشيد المقاومة المصرية ضد العدوان الثلاثي.. الى الكلمات المؤثرة للنشيد السوري.. تتحدث عن علم للحرية مرفوع :
أما فيه من كل عين سـواد ومن دم كل شهيد مــداد
من حق الأبطال من صنعوا فجر الاستقلال أن تتذكرهم الأمة.. وأن تعد العدة للاستقلال الأكبر ورفع الراية الكبرى راية الإسلام العظيم لتكون هدية منا إلى القائد الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذكرى ميلاده الأغر الأنور الذي به افتتح للإيمان الدرب واستقل به النور عن ظلمة الجاهلية.
تحية إلى رجالات سورية من كل أبناء الأمة الذين صنعوا الثورة التي طردت الفرنسي البغيض.. ألف رحمة للمجاهدين الذين قاتلوا عن ديار العرب والمسلمين في كل وقت وحين.. تحية الى أمة الاسلام تردد في كل وقت وحين نشيدها القرآني العظيم “ان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” (الأنبياء 92)..
وللحديث بقية في العدد القادم