طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد
عبد الرحمن الكواكبي
الاستبداد والدين
تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب. والفريقان مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل؛ ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي. وليس من العذر شيء أن يقولوا: نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبدِّيهم بالدين.
يقول هؤلاء المحررون: إن التعاليم الدينية، ومنها الكتب السماوية تدعو البشر إلى خشية قوة عظيِمة هائلة لا تدرك العقول كنهها، قوة تتهدَّد الإنسان بكل مصيبة في الحياة فقط، كما عند البوذية واليهودية، أو في الحياة وبعد الممات، كما عند النصارى والإسلام، تهديداً ترتعد منه الفرائص فتخور القوى، وتنذهل منه العقول فتستسلم للخبل والخمول، ثم تفتح هذه التعليمات أبواباً للنجاة من تلك المخاوف, نجاة وراءها نعيم مقيم, ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة (البراهمة: طبقة أو فئة رجال الدين عند الهندوس) والكهنة والقسوسة (قس: رتبة دينية مسيحية هي في الأصل بين الأسقف والشماس وتعتمدها البروتستانتية لكل من تكون له رتبة دينية عندها) وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظِّموهم مع التذلل والصَّغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران, حتى إن أولئك الحجاب, في بعض الأديان, يحجزون فيما يزعمون لقاء الأرواح بربِّها ما لم يأخذوا عنها مكوس (مكوس: مال يأخذه من يتولون السلطة على الأسواق، أشبه بضريبة أو رسم يُجبى) المرور إلى القبور وفدية الخلاص من مطهر الأعراف. وهؤلاء المهيمنون على الأديان كم يرهبون الناس من غضب اللّه وينذرونهم بحلول مصائبه وعذابه عليهم, ثم يرشدونهم إلى أن لا خلاص ولا مناص لهم إِلاَّ بالالتجاء إِلى سكان القبور الذين لهم دالة بل سطوة على اللّه فيحمونهم من غضبه.
ويقولون إن السياسيين يبنون, كذلك, استبدادهم على أساس من هذا القبيل, فهم يسترهبون الناس بالتعالي الشخصي والتشامخ الحسِّي, ويذللونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلوهم خاضعين لهم, عاملين لأجلهم, يتمتعون بهم كأنهم نوع من الأنعام التي يشربون ألبانها ويأكلون لحومها ويركبون ظهورها وبها يتفاخرون.
ويرون أن هذا التشاكل في بناء ونتائج الاستبدادين, الديني والسياسي, جعلهما في مثل فرنسا خارج باريس مشتركين في العمل كأنهما يدان متعاونتان, وجعلهما في مثل روسيا مشتبكين في الوظيفة كأنهما اللوح والقلم يسجلان الشقاء على الأمم.
ويقررون أن هذا التشاكل بين القوتين ينجرُّ بعوام البشر, وهم السواد الأعظم, إِلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق وبين المستبد المطاع بالقهر, فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد من التعظيم, والرفعة عن السؤال وعدم المؤاخذة على الأفعال, بناء عليه لا يرون لأنفسهم حقاً في مراقبة المستبد لانتفاء النسبة بين عظمته ودناءتهم, وبعبارة أُخرى يجد العوام معبودهم وجبَّارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات, وهم هم, ليس من شأنهم أن يفرِّقوا مثلاً بين (الفعال المطلق), والحاكم بأمره, وبين (لا يُسأل عمَّا يفعل) وغير مسؤول, وبين (المنعم) وولي النعم, وبين (جلَّ شأنه) وبين جليل الشأن. بناء عليه يعظمون الجبابرة تعظيمهم للّه, ويزيدون تعظيمهم على التعظيم للّه لأنه حليم كريم ولأن عذابه آجل غائب, وأما انتقام الجبابرة فعاجل حاضر. والعوام, كما يقال, عقولهم في عيونهم, يكاد لا يتجاوز فعلهم المحسوس المشاهد, حتى يصحَّ أن يقال فيهم: لولا رجاؤهم باللّه وخوفهم منه فيما يتعلق بحياتهم الدنيا لما صلوا ولا صاموا, ولولا أملهم العاجل لما رجحوا قراءة الدلائل والأوراد على قراءة القرآن, ولا رجحوا اليمين بالأولياء المقربين كما يعتقدون على اليمين باللّه.
وهذه الحال هي التي سهلت, في الأمم الغابرة المنحطة, دعوى بعض المستبدين الألوهية على مراتب مختلفة حسب استعداد أذهان الرعية, حتى يقال إنه ما من مستبدٍّ سياسي إِلى الآن إِلاَّ ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها اللّه, أو تعطيه مقام ذي علاقة مع اللّه, ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمة الذين يعينونه على ظلم الناس باسم اللّه, وأقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إِلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضاً, فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو للاستبداد ليبيض ويفرِّخ, وهذه سياسة الإنكليز في المستعمرات لا يؤيدها شيء مثل انقسام الأهالي على أنفسهم وإفنائهم بأسهم بينهم بسبب اختلافهم في الأديان والمذاهب.
ويعللون أن قيام المستبد من أمثال (أبناء داود) و(قسطنطين) في نشر الدين بين رعاياهم, وانتصار مثل (فيليب الثاني) الإسباني و(هنري الثامن) الإنكليزي للدين حتى بتشكيل مجالس (إنكيزيسيون) وقيام الحاكم الفاطمي والسلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية وبنائهم لهم التكايا, لم يكن إِلاَّ بقصد الاستعانة بممسوخ الدين وببعض أهله المغفلين على ظلم المساكين, وأعظم ما يلائم مصلحة المستبد ويؤيدها أن الناس يتلقون قواعدَه وأحكامَه بإذعان بدون بحث أَو جدال, فيودون تأليف الأمة على تلقي أوامرهم بمثل ذلك, ولهذا القصد عينه كثيراً ما يحاولون بناء أوامرهم أَو تفريعها على شيء من قواعد الدين.
ويحكمون بأن بين الاستبدادين, السياسي والديني, مقارنةً لا تنفك متى وُجد أحدهما في أمة جرَّ الآخر إليه, أَو متى زال زال رفيقه, وإن صلح, أي ضعف أحدهما, صلح, أي ضعف الثاني. ويقولون إن شواهد ذلك كثيرة جداً لا يخلو منها زمان ولا مكان. ويبرهنون على أن الدين أقوى تأثيراً من السياسة إصلاحاً وإفساداً, ويمثلون بالسكسون, أي الإنكليز والهولنديين والأميركان والألمان, الذين قبلوا البروتستينية, فأثر التحرير الديني في الإصلاح السياسي والأخلاق أكثر من تأثير الحرية المطلقة السياسية في جمهور اللاتين, أي الفرنسيين والطليان والإسبانيول والبرتغال. وقد أجمع الكتاب السياسيون المدقِّقون, بالاستناد على التاريخ والاستقراء, من أن ما مِِن أمة أَو عائلة أَو شخص تنطَّع في الدين, أي تشدد فيه, إلاَّ واختل نظام دنياه وخسر أولاه وعقباه.
والحاصل أن كل المدققين السياسيين يرون أن السياسة والدين يمشيان متكاتفين, ويعتبرون أن إصلاح الدين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السياسي.
وربما كان أول من سلك هذا المسلك, أي استخدم الدين في الإصلاح السياسي, هم حكماء اليونان, حيث تحيَّلوا على ملوكهم المستبدين في حملهم على قبول الاشتراك في السياسة بإحيائهم عقيدة الاشتراك في الألوهية, أخذوها عن الآشوريين ومزجوها بأساطير المصريين بصورة تخصيص العدالة بإله والحرب بإله والأمطار بإله, إلى غير ذلك من التوزيع, وجعلوا لإله الآلهة حقَّ النظارة عليهم, وحق الترجيح عند وقوع الاختلاف بينهم. ثم بعد تمكن هذه العقيدة في الأذهان, بما أُلبست من جلالة المظاهر وسحر البيان, سهل على أولئك الحكماء دفعهم الناس إِلى مطالبة جبابرتهم بالنزول من مقام الانفراد, وبأن تكون إِدارة الأرض كإدارة السماء؛ فانصاع ملوكهم إلى ذلك مكرهين. وهذه هي الوسيلة العظمى التي مكنت اليونان أخيراً من إقامة جمهوريات أثينا وأسبارطة، وكذلك فعل الرومان، وهذا الأصل لم يزل المثال القديم لأصول توزيع الإدارة في الحكومات الملكية والجمهوريات على أنواعها إِلى هذا العهد.
إنما هذه الوسيلة, إي التشريك, فضلاً عن كونها باطلة في ذاتها, نتج عنها أخيراً ردُّ فعل أضرَّ كثيراً, وذلك أنها فتحت للمشعوذين, من سائر طبقات الناس, باباً واسعاً لدعوى شيء من خصائص الألوهية كالصفات القدسية والتصرفات الروحية, وكان قبل ذلك لا يتهجم على مثلها غيرُ أفراد من الجبابرة كنمرود إبراهيم وفرعون موسى ثم صار يدَّعيها البرهمي والبادري والصوفي. ولملائمة هذه المفسدة لطباع البشر في وجوه كثيرة, وليس بحثنا هذا محلها, انتشرت وعمت وجندت جيشاً عرمرماً يخدم المستبدين.
وقد جاءت التوراة بالنشاط، فخلصتهم من خمول الاتكال بعد أن بلغ فيهم أن يكلِّفوا الله ونبيه يقاتلان عنهم, وجاءتهم بالنظام بعد فوضى الأحلام, ورفعت عقيدة التشريك مستبدلة مثلاً أسماء الآلهة المتعددة بالملائكة, ولكن لم يرضَ ملوك آل كوهين بالتوحيد فأفسدوه. ثم جاء الإنجيل بسلسبيل الدعة والحِلْم فصادف أفئدة محروقة بنار القسوة والاستبداد, وكان أيضاً مؤيداً لناموس التوحيد, ولكن لم يقوَ دعاته الأولون على تفهيم تلك الأقوام المنحطة, الذين بادروا لقبول النصرانية قبل الأمم المترقية, أن الأبوة والبنوة صفتان مجازيتان يعبَّر بهما عن معنى لا يقبله العقل إِلا تسليماً؛ كمسألة القدر تلك التي ورثت الإسلامية التفلسف فيها عن أديان الهنود وأوهام اليونان. ولهذا تلقت تلك الأمم الأبوة والبنوة بمعنى توالد حقيقي لأنه أقرب إِلى مداركهم البسيطة التي يصعب عليها تناول ما فوق المحسوسات, ولأنهم كانوا قد ألفوا الاعتقاد في بعض جبابرتهم الأولين أنهم أبناء الله, فكبر عليهم أن يعتقدوا في عيسى عليه السلام صفة هي دون مقام أولئك الملوك. ثم لما انتشرت النصرانية ودخلها أقوام مختلفون, تلبَّست ثوباً غير ثوبها, كما هو شأن سائر الأديان التي سلفتها, فتوسعت برسائل بولس ونحوها فامتزجت بأزياء وشعائر وثنية للرومان والمصريين مضافة على شعائر الإسرائيليين وأشياء من الأساطير وغيرها, وأشياء من مظاهر الملوك ونحوها. وهكذا صارت النصرانية تعظِّم رجال الكهنوت إِلى درجة اعتقاد النيابة عن الله والعصمة عن الخطأ وقوة التشريع, ونحو ذلك مما رفضه أخيراً البروتستان, أي الراجعون في الأحكام لأصل الإنجيل.
ثم جاء الإسلام مهذِّباً لليهوديَّة والنصرانيَّة, مؤسَّساً على الحكمة والعزم, هادماً للتشريك بالكلية, ومحكِماً لقواعد الحرية السياسية المتوسطة بين الديموقراطية والأريستقراطية؛ فأسَّس التوحيد, ونزع كل سلطة دينية أَو تغلبيَّة تتحكم في النفوس أَو في الأجسام, ووضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان, وأوجد مدنيَّة فطريَّة سامية, وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر حتى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف؛ إِلاَّ بعض شواذ كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد. فإن هؤلاء الخلفاء الراشدين فهموا معنى ومغزى القرآن النازل بلغتهم وعملوا به واتخذوه إماماً, فأنشؤوا حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها, وأحدثوا في المسلمين عواطف أخوة وروابط هيئة اجتماعية (اشتراكية) لا تكاد توجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفي حضانة أم واحدة, لكل منها وظيفة شخصية, ووظيفة عائلية ووظيفة قومية. على أن هذا الطراز السامي من الرياسة هو الطراز النبوي المحمَّدي, لم يخلفه فيه حقاً غير أبي يكر وعمر ثم أخذ بالتناقص, وصارت الأمة تطلبه وتبكيه من عهد عثمان إِلى الآن, وسيدوم بكاؤها إِلى يوم الدين إذا لم تنتبه لاستعواضه بطراز سياسي شوري؛ ذلك الطراز الذي اهتدت إليه بعض أمم الغرب؛ تلك الأمم التي, لربما يصح أن نقول, قد استفادت من الإسلام أكثر مما استفاد المسلمون.
وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه؛ ومن جملتها قول بلقيس, ملكة سبأ من عرب تبَّع, تخاطب أشراف قومها: ,قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ-.
فهذه القصة تعلِّم كيف ينبغي أن يستشير الملوك الملأ, أي أشراف الرعية, وأن لا يقطعوا أمراً إِلاَّ برأيهم, وتشير إِلى لزوم أن تحفظ القوة والبأس في يد الرعية, وأن يخصص الملوك بالتنفيذ فقط, وأن يكرموا بنسبة الأمر إليهم توقيراً, وتقبِّح شأن الملوك المستبدين.
ومن هذا الباب أيضاً ما ورد في قصة موسى عليه السلام مع فرعون في قوله تعالى: , قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ- أي قال الأشراف بعضهم لبعض: ماذا رأيكم؟ (قالوا) خطاباً لفرعون وهو قرارهم: ,قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيم- ثم وصف مذاكراتهم بقوله تعالى: ,فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم- أي رأيهم ,بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى- أي أفضت مذاكراتهم العلنية إلى النزاع فأجروا مذاكرة سرية طبق ما يجري إلى الآن في مجالس الشورى العمومية.
بناء على ما تقدم لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات من أمثال هذه الآيات البينات التي منها قوله تعالى : ,وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر- أي في الشأن، ومن قوله تعالى : ,يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ- أي أصحاب الرأي والشأن منكم، وهم العلماء والرؤساء على ما اتفق عليه أكثر المفسرين، وهم الأشراف في اصطلاح السياسين. ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى :,وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ- أي ما شأنه، وحديث (أميري من الملائكة جبريل) أي مشاوري.
وليس بالأمر الغريب ضياع معنى ,وَأُوْلِي الأَمْرِ- على كثير من الأفهام بتضليل علماء الاستبداد الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه، وقد أغفلوا معنى قيد ,مِنكُمْ- أي المؤمنين، منعاً لتطرق أفكار المسلمين إلى التفكير بأن الظالمين لا يحكمونهم بما أنزل الله، ثم التدرج إلى معنى آية ,إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ- أي التساوي، ,وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ- أي التساوي؛ ثم ينتقل إلى معنى آية : ,وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ-. ثم يستنتج عدم وجوب طاعة الظالمين وإن قال بوجوبها بعض الفقهاء الممالئين دفعاً للفتنة التي تحصد أمثالهم حصداً. والأغرب من هذا جسارتهم على تضليل الأفهام في معنى (أمر) في آية : ,وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا- ، فإنهم لم يبالوا أن ينسبوا إلى الله الأمر بالفسق…تعالى الله على ذلك علواً كبيراً… والحقيقة في معنى (أمرنا) هنا أنه بمعنى أمرنا ـ بكسر الميم أو تشديدها ـ أي جعلنا أمراءها مترفيها ففسقوا فيها (أي ظلموا أهلها) فحق عليهم العذاب أي (نزل بهم العذاب).
والأغرب من هذا وذاك أنهم جعلوا للفظة العدل معناً عرفياً وهو الحكم بمقتضى ما قاله الفقهاء حتى أصبحت لفظة العدل لا تدل على غير هذا المعنى، مع أن العدل لغةً التسوية؛ فالعدل بين الناس هو التسوية بينهم، وهذا هو المراد في آية : ,إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ-، وكذلك القصاص في آية : ,وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ- المتواردة مطلقاً، لا المعاقبة بالمثل فقط على ما يتبادر إلى أذهان الأُسَراء الذين لا يعرفون للتساوي موقعاً في الدين غير الوقوف بين يدي القضاة.
وقد عدَّد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا حتى من يأكل ماشياً في الأسواق؛ ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يفسٌّقوا الأمراء الظالمين فيردٌّوا شهاداتهم. ولعل الفقهاء يُعذرون بسكوتهم هنا مع تشنيعهم على الظالمين في مواقع أُخرى، ولكن ما عذرهم في تحويل معنى الآية : ,وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ- إلى أن هذا الفرض هو فرض كفاية لا فرض عين؟ والمراد منه سيطرة أفراد المسلمين بعضهم على بعض؛ لا إقامة فئة تسيطر على حكامهم كما اهتدت إلى ذلك الأمم الموافقة للخير؛ فخصصت منها جماعات باسم مجالس النواب وظيفتها السيطرة والاحتساب على الإدارة العمومية: السياسية والمالية والتشريعية، فتخلَّصوا بذلك من شآمة الاستبداد. أليست هذه السيطرة وهذا الاحتساب بأهم من السيطرة على الأفراد؟ ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟! [بل اعتبر بعض المعاصرين الخارجين عن إمام عدلهم المزعوم مستحقين لحد الحرابة وهو شيء لم يقله أحد من قبل].
اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إِلاَّ بك!
كذلك ما أعذر أولئك الصوفية الذين جعلتهم الإنعامات على زاوياتهم أن يقولوا: لا يكون الأمير الأعظم إلا ولياً من أولياء الله، ولا يأتي أمراً إلا بإلهام من الله، وإنه يتصرف في الأمور ظاهراً، ويتصرف فيها قطب الغوث باطناً! ألا سبحان الله ما أحلمه!
نعم، لولا حلم الله لخسف الأرض بالعرب؛ حيث أرسل لهم رسولاً من أنفسهم أسَّس لهم أفضل حكومة أٌسست في الناس، جعل قاعدتها قوله: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أي كل منكم سلطان عام ومسؤول عن الأمة. وهذه الجملة التي هي أسمى وأبلغ ما قال مشرِّع سياسي من الأولين والآخرين، فجاء من المنافقين من حرَّف المعنى عن ظاهره وعموميته إلى أن المسلم راع على عائلته ومسؤول عنها فقط، كما حرَّفوا معنى الآية : ,وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ- إلى ولاية الشهادة دون الولاية العامة. وهكذا غيروا مفهوم اللغة، وبدَّلوا الدين، وطمسوا على العقول حتى جعلوا الناس ينسون لذة الاستقلال، وعزَّة الحرية؛ بل جعلوهم لا يعقلون كيف تحكم أمة نفسها بنفسها دون سلطان قاهر.
وكأن المسلمين لم يسمعوا بقول النبي عليه السلام : (الناس سواسية كأسنان المشط، فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) ، وهذا الحديث من أصح الأحاديث لمطابقته للحكمة ومجيئه مفسراً الآية : ,إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ- ، فإن الله جل شأنه ساوى بين عباده مؤمنين وكافرين في المكرمة بقوله : ,وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ- ثم جعل الأفضلية في الكرامة للمتقين فقط. ومعنى التقوى، لغة، ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية غرسها علماء الاستبداد القائلين في تفسير (عند الله) أي في الآخرة دون الدنيا؛ بل التقوى: لغةً، هي الإتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازاً من عقوبة الله، فقوله : ,إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ- كقوله إن أفضل الناس أكثرهم ابتعاداً عن الآثام وسوء عواقبها.
وقد ظهر مما تقدم أن الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية برفعها كل سيطرة وتحكُّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضها على الإحسان والتحابب، وقد جعلت أصول حكومتها: الشورى الأريستوقراطية، أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم، وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي، أي الاشتراكي، حسبما يأتي فيما بعد، وقد مضى عهد النبي عليه السلام وعهد الخلفاء الراشدين على هذه الأصول بأتم وأكمل صورها. ومن المعلوم أنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين، ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحكم، كلها من أجلِّ وأحسن ما اهتدى إليه المشرعون من قبل ومن بعد. ولكن وا أسفاه على هذا الدين الحر، الحكيم، السهل، السمح، الظاهرة فيه آثار الرقي على غيره من سوابقه، الدين الذي رفع الإصر (الإصر: العبء والحمل الثقيل) والأغلال، وأباد الميزة (الميزة: التمايز والفئوية)، والاستبداد، الدين الذي ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان، الدين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخيار فسطا عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد، واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً، وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضَّيعوا مزاياه وحيَّروا أهله بالتفريع والتوسيع، والتشديد والتشويش، وإدخال ما ليس منه فيه كما فعل قبلهم أصحاب الأديان السائرة, حتى جعلوه ديناً حرجاً يتوهم الناس فيه أن كل ما دوَّنه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب لاسم إسلامي هو من الدين، وبمقتضاها أن لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته، إِلاَّ من لا علاقة له بالحياة الدنيا؛ بل أصبحت بمقتضاها حياة الإنسان الطويل العمر، العاطل عن كل عمل، لا تفي بتعلم ما هي الإسلامية عجزاً عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة؛ وما افترقوا إِلاَّ وكل منهم في موقفه الأول يظهر أنه ألزم خصمه الحجة وأسكته بالبرهان؛ والحقيقة أنَّ كلاً منهم قد سكت تعباً وكلالاً من المشاغبة.
وبهذا التشديد الذي أدخله على الدين منافسو المجوس انفتح على الأمة باب التلوُّم على النفس, واعتقاد التقصير المطلق, وأن لا نجاة ولا مخرج ولا إمكان لمحاسبة النفس فضلاً عن محاسبة الحكام المنوط بهم قيام العدل والنظام. وهذا الإهمال للمراقبة, وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود, وبهذا وذاك ظهر حكم حديث: (لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أَو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب) . وإذا تتبعنا سيرة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما مع الأمة, نجد أنهما, مع كونهما مفطورين خير فطرة, ونائلين التربية النبوية, لم تترك الأمة معها المراقبة والمحاسبة ولم تطعهما طاعة عمياء.
وقد جمع بعضهم جملة مما اقتبسه وأخذه المسلمون عن غيرهم وليس هو من دينهم بالنظر إِلى القرآن والمتواترات من الحديث وإجماع السلف الأول فقال:
اقتبسوا من النصرانية مقام البابوية باسم الغوثية, وضاهوا في الأوصاف والأعداد أوصاف وأعداد البطارقة, والكردينالية والشهداء والأساقفة, وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم, والدعاة المبشرين وصبرهم, والرهبنات ورؤسائها, وحالة الأديرة وبادريتها, والرهبنات ورسومها, والحمية وتوقيتها, وقلدوا رجال الكهنوت والبراهمة في مراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم, ولبس المسابح في الرقاب, وقلدوا الوثنيين الرومانيين في الرقص على أنغام الناي, والتغالي في تطييب الموتى, والاحتفال الزائد في الجنائز وتسريح الذبائح معها وتكليلها وتكليل القبور بالزهور وشاكلوا مراسم الكنائس وزينتها, والبِيَع واحتفالاتها, والترنحات ووزنها, والترنمات وأصولها, وإقامة الكنائس على القبور, وشد الرحال لزيارتها, والإسراج عليها, والخضوع لديها, وتعليق الآمال بسكانها. وأخذوا التبرك بالآثار: كالقدح والحربة والدستار, من احترام الذخيرة وقدسية العكاز, وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر الصالحين, من إمرارها على الصدر لأشارة الصليب. وانتزعوا الحقيقة من السر, ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء المصدرة بالنداء على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام. ومنعوا الاستهداء من نصوص الكتاب والسنة كحظر الكاثوليك التفهم من الإنجيل، وامتناع أحبار اليهود عن إقامة الدليل من التوراة في الأحكام. وجاؤوا من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، وبخشية أوضاع الكواكب وباتخاذ أشكالها شعاراً للملك، وباحترام النار ومواقدها. وقلدوا البوذيين حرفاً بحرف في الطريق والرياضة، وتعذيب الجسم بالنار والسلاح، واللعب بالحيات والعقارب وشرب السموم، ودق الطبول والصنوج وجعل رواتب من الأدعية والأناشيد والأحزاب, واعتقاد تأثير العزائم ونداء الأسماء وحمل التمائم, إِلى غير ذلك مما هو مشاهد في بوذيي الهند ومجوس فارس والسند إِلى يومنا هذا. وقد قيل إنه نقله إِلى الإسلامية أمثال جون وست وسلطان علي منلا والبغدادي وحاشية فلان الشيخ وفلان الفارسي, على أن إسناد ذلك إِلى أشخاص معينين يحتاج إِلى تثبيت. ولفقوا من الأساطير والإسرائيليات أنواعاً من القربات, وعلوماً سموها لدنيَّات.
وكذلك يقال عن مبتدعي النصارى من أن أكثر ما اعتبره المتأخرون منهم من الشعائر الدينية حتى مشكلة التثليث لا أصل له فيما ورد عن نفس المسيح عليه السلام؛ إنما هو مزيدات وترتيبات قليلها مبتدع, وكثيرها متَّبع. وقد اكتشف العلماء الآثاريون من الصفائح الحفرية الهندية والآشورية, ومن الصحف التي وجدت في نواويس المصريين الأقدمين, على مآخذ أكثرها. وكذلك وجدوا لمزيدات التلمود وبدع الأحبار أصولاً في الأساطير والآثار والألواح الآشورية, وترقوا في التطبيق والتدقيق إِلى أن وجدوا معظم الخرافات المضافة إِلى أصول عامة الأديان في الشرق الأدنى مقتبسة من الوضعيات المنسوبة لنِحل الشرق الأقصى, وقد كشفت الآثار أن الاستبداد أخفى تاريخ الأديان وجعل أخبار منشئها في ظلام مطبق, حتى إن أعداء الأديان المتأخرين أمكنهم أن ينكروا أساساً وجود موسى وعيسى عليهما السلام, كما شوَّش الاستبداد في المسلمين تاريخ آل البيت عليهم الرضوان؛ الأمر الذي تولد عنه ظهور الفرق التي تشيعت لهم كالإمامية والإسماعيلية والزيدية والحاكمية وغيرهم.
والخلاصة أن البدع التي شوَّشت الإيمان وشوَّهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض, وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد, ألا وهو الاستبعاد.
والناظر المدقق في تاريخ الإسلام يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك الأولين, وبعض العلماء الأعاجم وبعض مقلديهم من العرب المتأخرين, أقوالاً افتروها على الله ورسوله تضليلاً للأمة على سبيل الحكمة, يريدون بها إطفاء نور العلم وإطفاء نور الله, ولكن أبى الله إِلاَّ أن يتم نوره؛ فحفظ للمسلمين كتابه الكريم الذي هو شمس العلوم وكنز الحِكَم من أن تمسه يد التحريف وهي إحدى معجزاته لأنه قال فيه: ,إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ- فما مسَّه المنافقون إلاَّ بالتأويل وهذا أيضاً من معجزاته؛ لأنه أخبر عن ذلك في قوله: ,فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ-
وإني أمثِّل للمطالعين ما فعله الاستبداد في الإسلام بما حجر على العلماء الحكماء من أن يفسروا قسمي الآلاء والأخلاق من القرآن تفسيراً مدققاً, لأنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض الغفَّل السالفين أو بعض المنافقين المقربين المعاصرين, فيكفَّرون فيقتلون. وهذه مسألة إعجاز القرآن, وهي أهم مسألة في الدين لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث, واقتصروا على ما قاله فيها بعض السلف قولاً مجملاً من أنها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته, وأنه أخبر عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون, مع أنه لو فُتح للعلماء ميدان التدقيق وحرية الرأي والتأليف, كما أطلق عنان التخريف لأهل التأويل والحكم, لأظهروا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز, ولرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله: ,وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ- , ولجعلوا الأمَّة تؤمن بإعجازه عن برهان وعيان لا مجرد تسليم وإذعان.
ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا؛ والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد به التصريح أَو التلميح في القرآن منذ ثلاثة عشر قرناً؛ وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إِلاَّ لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام ربِّ لا يعلم الغيب سواه؛ ومن ذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير, وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال : ,ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ-, وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول : ,وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا- إِلى أن يقول: ,وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ-.
وحقَّقوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي, والقرآن يقول: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.
وحققوا أن القمر منشق من الأرض, والقرآن يقول: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} , ويقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}.
وحققوا أن طبقات الأرض سبع, والقرآن يقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}.
وحققوا أنه لولا الجبال لاقتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض, أي ترتجَّ في دورتها, والقرآن يقول: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ}.
وكشفوا أن سرَّ التركيب الكيماوي بل والمعنوي هو تخالف نسبة المقادر وضبها, والقرآن يقول : {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}.
وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور, والقرآن يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}.
وحققوا أن العالم العضوي, ومنه الإنسان, ترقى من الجماد, والقرآن يقول : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}.
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات, والقرآن يقول: {خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} ويقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} ويقول: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}, ويقول: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
وكشفوا طريق إمساك الظل, أي التصوير الشمسي, والقرآن يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً}
وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء, والقرآن يقول, بعد ذكره الدواب والجواري بالريح : {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}.
وكشفوا وجود المكروب وتأثيره والجدري وغيره من الأمراض, والقرآن يقول {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} أي متتابعة مجتمعة {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} أي من طين المستنقعات اليابس, إِلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية. وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيراً من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون تجديداً لإعجازه بإخباره عما في الغيب ما دام الزمان وما كرَّ الجديدان؛ فلا بد أن يأتي يوم يكشف العلم فيه أن الجمادات أيضاً تنمو باللقاح كما تشير إِلى ذلك آية: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}.