العلامة المفكر الإسلامي أحمد مظهر العظمة
الوزير الراحل
العلامة والأديب
أحمد مظهر العظمة
1909-1982
بقلم: الأستاذ الموسوعي حسّان الكاتب
نشر هذا المقال في مجلة العرفان عام 1977م إثر لقاء الأستاذ حسان الكاتب مع العلاّمة أحمد مظهر العظمة قبل رحيله عن هذه الدنيا الفانية في أواخر عام 1982 رحمه الله تعالى، وقد قررت مجلة جمعية التمدن الإسلامي نشر ذلك المقال في كتاب كانت ستصدره عن حياة الأستاذ العظمة منذ ربع قرن ( ولم يصدر الكتاب حتى الآن!) ويقول الأستاذ الكاتب أن المقال حصلت فيه تعديلات طفيفة وتم إعداده باطلاع الأستاذ العظمة حرصاً على الأمانة في الرواية التاريخية والأدبية.
وقد تم فيه الحديث عن (أسرة آل العظمة – حياة الأستاذ العظمة – نثره – شعره – فنُّه – أعماله ومناصبه – مؤلفاته).
أسرة آل العظمة:
ينتمي الأستاذ أحمد مظهر العظمة إلى أسرة دمشقية عريقة، استوطنتها واستعربت منذ أربعة قرون، شأن معظم الأسر العريقة فيها. يرجع نسبها إلى التركمان، وهم فرع من الترك. وأول من عرف منها (حسن بك تركمان) المتوفى عام 1040 هـ وقد اشتهر بلقبه التركي كميكلي أي العظمي، قدم دمشق من (قونية) التركية في أوائل القرن الحادي عشر الهجري معيناً بوظيفة (كتخذا) أي زعيم الجند الوطني، وبنى في موقع باب المصلى بدمشق داراً له كانت حينئذ أكبر دورها، ثم بنى دوراً لأولاده وأنسبائه حتى كان من ذلك حي واسع عرف بحارة التركمان، وقد احترقت خلال فتنة الوالي ابراهيم باشا الدالاتي الكردي سنة (1202)هجري وأنشئ محلها زقاق الموصلي.
رزق حسن بك بمحمد بك الكبير، وموسى باشا، وقد ولي محمد بك الكبير كأبيه زعامة الجند، وولي موسى باشا زعامة الجند أيضاً كأخيه و أبيه. ونبغ من أولاده حسين بك المتوفى سنة 1132 هـ الموافقة لسنة 1719م وكان أميراً سخياً ذا فضل وشعر وكتابة.
وقد حصلت نكبة أصابت هذه الأسرة فقتل من قتل من رجالها، وآثرت البقية الباقية العزلة حيناً إلى أن نشأ منها اسماعيل باشا المتوفى سنة 1210هـ الموافقة لسنة 1795م وهو ابن محمد بن حمدان التركماني، الشهير بالعظمة، وصار نائب (كتخذا) ايالة الشام، وأعقب ولدين هما ابراهيم ومحمد بك .. (انتهى ما ذكره لي الأستاذ العظمة عن أصل أسرة آل العظمة).
نبذة عن حياة الأستاذ العظمة:
كانت ولادته في حي ساروجا بدمشق صباح 6/4/1327 هـ الموافق 17/5/1909م، توفي والده أحمد بك سنة 1336 هـ الموافقة لسنة 1917م وكان في نحو الثامنة من العمر، حافظاً للقرآن الكريم ومزارعاً ووجيهاً ومتحدثاً فاضلاً، فذاق بوفاته اليتم المبكر، وعاش في كنف والدته الحسيبة الحنون السيدة زينب السفرجلاني بنت السيد أحمد السفرجلاني مؤلف ( السفينة الموسيقية) وبرعاية أخ له وفي هو عبد القادر بك.
أدرك عهد الكتَّاب وختم فيه تلاوة القرآن الكريم الأولى، وأنهى الدراسة الابتدائية في مدرسة حي البحصة ( المدرسة الرشدية سابقاً) ثم الدراسة الثانوية في مدرسة التجهيز ( مكتب عنبر) وحصل على شهادة التحصيل الثانوي (البكالوريا الثانية، شعبة فلسفة) عام 1932 م ثم انتسب إلى معهد الحقوق وإلى مدرسة الأدب العليا (كلية الآداب) في الجامعة السورية وتخرج فيها عام 1935م.
تزوج من السيدة مؤمنة ابنة التاجر الدمشقي السيد محمد صالح عودة بتاريخ 15/12/1940 ورزق منها خمسة أولاد هم: نائلة ولميس وأحمد غياث وهو حالياً مهندس نسيج ومحمد إياد وهو حالياً طبيب بدمشق ونهى.
تأثرت ثقافته الأدبية والعلمية والاجتماعية بدراسة الأدب الفرنسي خلال الدراسة الثانوية، كما تأثرت برحلاته شرقاً وغرباً.
دعا إلى تأسيس جمعية التمدن الإسلامي بدمشق عام 1350هـ ـ 1932م، وألقى باسمها عام 1351هجري أولى محاضراته في قاعة المجتع العلمي العربي بمناسبة ذكرى المولد النبوي، وبقي أميناً لسرها حتى توفي آخر رؤسائها العالم القاضي الجليل الشيخ محمد حسن الشطي عام 1383 هـ ـ 1962م فانتخب الأستاذ العظمة رئيساً لها، وقد كان ينهض في الحالتين بمعظم أعمالها، ومنها رئاسة تحرير مجلتها التي تطوع لها منذ اصدارها في ربيع الأول من عام 1354هـ ـ نيسان 1935م حتى وفاته.
وتعاون وبعض العاملين في جمعيات أخرى، ومن ذلك عمله في المؤتمر الكبير لنصرة الجزائر الذي دعت إليه جمعية أنصار المغرب العربي بالاتفاق مع رابطة العلماء، وقد انتخب أميناً عاماً للمؤتمر في دورته عام 1370هـ ـ 1960م وقد صدرت عن المؤتمر مقررات هامة في حينه منها الدعوة إلى تأليف حكومة جزائرية.
سافر إلى لبنان للنزهة، وإلى العراق مدرساً، وإلى مكة المكرَّمة والمدينة المنورة حاجاً عام 1363هـ ـ 1943م وإلى بلجيكا موفداً من وزارة التربية والتعليم عام 1950 للاشتراك في دورة تدريبية دعت إليها منظمة الأونيسكو العالمية للعمل المشترك في سبيل السلام بواسطة الكتب المدرسية وغيرها وللتفاهم بين الدول بالقدر المستطاع، وسافر إلى فرنسا وهولندا وانكلترا سائحاً، وإلى مصر عام 1957م عضواً في وفد الوحدة الثقافية.
دعي في عام 1950م إلى عضوية المجمع الاسلامي الدولي للعلوم والآداب في بولونيا.
كما دعي عام 1951م لعضوية المجمع العلمي لحوض البحر الأبيض المتوسط في (بالرمو).
نثر الأستاذ العظمة:
الأستاذ العظمة كاتب كبير سخّر أدبه للعلم والاصلاح منذ أول عهده بالتأليف وكتابة المقالات في مجلة التمدن الإسلامي التي رئس تحريرها لمدة نيف وأربعين عاماً وفي غيرها من المجلات والصحف العديدة.
كتب في التفسير والسنة والعقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق والتشريع والتربية والحضارة والمدنية والعلم والثقافة والمجتمع والتراجم والخطابة.
وهو يرى أن الأمة بحاجة إلى أدب الإصلاح، وكان يحمل على أدب المتعة واللهو ومن قوله رداً لزعم أدباء اللهو والمتعة: (المطلوب من الأديب إن ذهب هذا المذهب أو ذاك أن يثبت أن الأدب صدى الجمال بألفاظه المختارة وجمله الفنية وأسلوبه الأخاذ يوحي ذلك كله ذوق رفيع وطبع متمكن، فيعمل في النفوس عمله، فإذا بالآذان والقلوب تسموه ـ ولو كان في موضوع اجتماعي ـ فتهتز له أو قل به كما تطرب بتغريد البلبل، وتسر بخرير الجدول، وتأنس بساعة الفجر، ونشوة النصر، وفرحة اللقاء.. إن الأدب لا يحرص كل الحرص على موضوع دون موضوع ـ وإن كان ألصق ببعض الموضوعات… ولكنه يحرص على الفن البياني الجميل ذي القوة الأخاذة التي لا يملك مثلها الكلام العادي، لأن هذا الكلام للتفاهم الضروري، والكلام الأدبي وسيلة تعبير رفيع إن كان أدباً صرفاً، أو وسيلة تأثير قوي إن كان أدباً تطبيقياً..)
ويتميز أسلوبه بالجزالة والإيجاز مع صناعة محمودة لا إسراف فيها ولا تكلف، ويبدو ذلك في كثير مما يصفه مجملاً في مقدمات مجلة التمدن الإسلامي. ففي مقالة نشرها إثر وفاة الأمير خالد الجزائري بتاريخ 11/10/1354هـ ـ 1935م وهو حفيد المجاهد عبد القادر الجزائري الحسني يقول: … لم أكن للأمير قريباً أو حميماً فاكتب عنه ملياً، وإنما كنت له على بعد وانقطاع صديقاً وفياً. منذ كتب في إحدى الصحف عن أحد الأعاجم من ذوي الدخلة الخبيثة للشريعة السمحة، مقالاً أصاب به عن غير علم ولا هدي، كرامة الرسول العربي صلى الله عليه وسلم فإذا الأمير يضج ضجيج ذي دنف من ألمه، ويهب هبوب الأسد بوغت في عرينه، ويلسنه قولها البراز البراز، بالسلاح الذي تختاره، أو اعتذرت واستغفرت..؟ فكانت صيحة بطل تناقلتها الصحف والجماعات الغضبى، أعقبها غسل العار، واعتذار واستغفار.
وكتبت – وكتب الناس – إلى الأمير أشكره على الغيرة والمروءة، فأجابني : (لم أفعل إلاّ واجبي الديني، أشكركم على مؤازرتكم وحميتكم).
وقد زاد عن الإسلام في مواقف يستحق بها أن يكون في التاريخ من الخالدين. وساعده في جهاده أن كان لسناً باللغة الفرنسية، تحسبه وهو يخطب (ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية.
وللأستاذ العظمة أسلوب علمي رقيق دقيق، رشيق الألفاظ، لين الجمل، سهل العبارات، مشرق المعاني، بعيد عن المحسنات اللفظية، إلا ما سقط منها عفواً في مواضعه. وهو يعتمد على هذا الأسلوب في معرض البحث والتفصيل والتحقيق.
فما قاله في أهم مزايا الحضارة الإسلامية:
(شمولها نواحي الحضارة جميعاً، خلافاً لما هي عليه حضارات الأمم، فحضارة اليونانيين الأثليين فلسفية فنية، والأسبارطيين مدنية جندية والرومان اشتراكية وحربية، والفرس صناعية وفنية، والهند فلسفية روحية. أما الحضارة الإسلامية فهي روحية وخلقية واشتراكية وأدبية وفلسفية وعلمية وعملية..)
وأكثر مؤلفات الأستاذ العظمة ومقالاته في المجلات والصحف كتبها بأسلوبه العلمي اغتناماً للوقت، ومراعاة للبحث وزيادة في السهولة. أما خطبه، فقد قواها التدريس، والعمل في التمدن الإسلامي والتنقل من بعد الترشيح للنيابة في أحياء دمشق وغوطتها عام 1947م وارتجاله الخطب السياسية والاجتماعية التوجيهية التي وصلت بينه وبين الجماهير، فجاءت خطبه سهلة واضحة قصيرة الجمل والعبارات قوية الفواصل، عميقة الأثر، وكثيراً ما أطال فيها مراعاة لمقتضى الحال مع فصاحة قول وتدفق بيان وقوة استشهاد.
ومن خطبه التي ارتجلها كانت بمناسبة افتتاح مدرسة التمدن الإسلامي الثانوية بصفته مديرها آنذاك عام 1364 هجري 1944م قوله:
(… هذا اليوم من أيام الله له ما بعد، إنه يوم مدرسة الوطن وليدة الضرورة المبرمة التي كان بعض الناس في شك منها، ثم آمنوا بها جميعاً حين وقعت الواقعة، فشارك أساتذة المدارس الفرنسية زبانية العدوان الأثيم فأصلونا حميماً وباروداً، أزهق النفوس البريئة، وهدم المساكن الآمنة، حتى اهتز الثقلان على ما أصابنا من ظلم لا يرحم، واستعباد لا يألم، ووحشية لا تستغني عن قرونها، وأنيابها وأظافرها…) إلخ.
شعر الأستاذ العظمة:
شعره يتميز بصدق عاطفته، وينم عن سموٍّ في نفسه ورهافة في حسّه، ونبل في غايته. نظم الشعر الكثير في أغراض شتى كما سنبين فيما يلي، ولم يقل ولو بيتاً واحداً فيما لا يؤمن به، ولا فيما لا غناء للمجتمع به.
ونلاحظ في شعره أسلوباً عربياً أصيلاً .. أصالة في الكلمة الفصيحة، وأصالة في النسج العربي، فهو جزل الألفاظ محكم بالبناء، مشرق الديباجة، لا لغو فيه ولا قلق، ولا اغراق في خيال يجعله كالأساطير، ولا إسراف في تزيينه، كدمى الأطفال.
وشاعرنا ليس شاعر المناسبات وحوليات يقتصر عليها، كلا، فهو كالمرآة تتجلى فيها المرئيات، تثبت فيها المروميات.. فهو يعلم أن الشعر من الشعور، وليس لهذا خيار، إذا كان مرهفاً في تقبل الإلهام أو تركه، إلاَّ إذا كان وسوسة تخالف سيرته وإباءه.
قال في مقدمة ديوانه دعوة المجد (..لكن الإجارة في القريض لا تكون إلاّ بعد معاناة من اللسان والجنان والوجدان، حتى يحسن صاحبها التعبير عن خفقة القلب، وجولة الفكر، وهمسة الخاطر، ورجفة الأنين، وحرارة الحنين، وألوان النظرة، ونجوى الزهرة، ورقصة الفنن ، وبسمة الشعاع، وزينة السماء، وبكاء الطلل، وغضب العاصفة، ووحي الهداية..).
هذا الإحساس الشامل ذلك له عقبات التعبير عن المعاني الصعبة، من عالم النفس والفكر والقلب، انظر إليه كيف عبَّر بدقة عن معنى الشعور بما لا يراه الناس وهم عنه غافلون:
أرى لعينــي عيناً فهي تبصر ما ينكر الناس في الأشـكال والسير
إـني أرى أكثر الأشياء تدهشني والناس من حولها كالغافل الحجر
وكم أرى الحسن فـي شيء يمر به أهل العقول مرور الصخر بالبشر
وقد أمــرّ بـنفسي وهي في دعة فالحـــظ العالم الموّار بالصور
هــذي تروح وذي تغدو مسـيرة بقدرة تعــجز العالين في العصر
وهكذا يعيش مع العالم الملئء بالصور والناس يمروّن عليها تصحبهم الغفلة، وبعض ذلك في الماضي الذي يبعثه الشاعر ويعيش فيه:
في رجعة من رحاب الدهر مـضية ومـرتع في ربا الأحداث والأثر
كـان أمس حـياة الدهر مـجتمع في ساحة العمر بالتاريخ والعبر
وبهذه الدقة والإبداع يمضي الشاعر الكبير حتى يستكمل وصفه لما يشعر به، فيكون من قوله لنفسه:
فأنـت فـي جسد والكـون يسكنه كـأنك البحــر والأيـام كالدرر
وقد تكون الصورة (لقطة) سريعة، ولكنها لا يفلتها، بل يدعو الخيال لوصفها وأخذ العبرة منها، كما نجد ذلك في قصيدته (نجدة الحمائم) وهي قصة شعرية رائعة في سبعة وعشرين بيتاً، والقصة هي رؤية الشاعر حمامة وقفت على قفص عصفورة، فتخيل حواراً بين سجينة، وحرّة من الطيّر ذهبت لتنجدها الحمائم، فأبطات، فماتت العصفورة التي تركت أثراً دامياً وهي تحاول كسر الحديد بمنقارها. قال شاعرنا العظمة في آخر قصيدته هذه:
هبّ الطيور لنجـدة ودنوا من السجـن اللعين
فــإذا السجينة ميتة من حولها دمــها المبين
قد حاولت ليَّا لقفص بأن فما أجــدت ظنون
ورمـى الحديد ببأسه منقارهــا الدامي المتين
أين الحمائم؟ لم أجد هــا منجدات، أين، أين
من رام إنـجاداً فلا يبطئ، فقد يقضي الحزين
في ديواني الشاعر العظمة ابتهالات إلهية ومدائح نبوية أجمل من العرائس الحسان، كأنهن حور الجنان، في الصفحات (5 ـ 29) من ديوانه الأول دعوة المجد وفي الصفحات (5 ـ 29) من ديوانه الثاني نفحات يصحب ذلك وعي ومعرفة، ومن ذلك قوله في قصيدة (تسبيح الخلائق) إذ يقول فيها:
ومن عجب أن الطبيعة كلها ذواكــر الله الـعظيم خـواشع
وقد زادنا هذا الفضاء وما به عجـائب تقـدير لـرب يـطلع
وقد أمسك الرحمن كلا بقدرة لها الحمم والتمجيد والعلم يسطع
فسبحانك اللهم مجدك جامع وكل قلوب الكون نشوى تضرع
ومن ذلك أيضاً قوله بعنوان صلوات :
وكل خلية مني صــلاة لرب الناس رب العالمينا
فجسمي مسجد وتعج فيه مـلايين العباد الذاكرينا
وقوله في قصيدة ذكرى المولد النبوي مفتخراً بعروبته ومعتزاً بهدايته:
قلت للبيد في الحجيج وصدري خـافـق الوجـد منشـد بـسام
والصحارى وما أعز الصحارى من ظلال الأمجاد وهـي تـرام
إن هـذا الثـرى لينبت شيـماً وخـزامى طـابت بـه الأيـام
وأقام البـيـان والقـمر الوسـ ـنان والـريـم والمها والنعام
كيف أضحى للنور يمـرح فيه كيف أمسـى ومـجده الأعظام
ما الذي هـز تـربه فـأذاها تـنبت الفـاتحين وهـي عقام
خـالد مـنهم وسعد وعمـرو وعـبـيد وعـامـر وأسـام
وقوله في قصيدة بعنوان حجيج البيت يبعث فيها الماضي وشعوره ببراعة وجمال:
هنا الخيل، هنا الهادي الرسول، هنا صديقه، وهنا الأبطال والعظم
أني سريت أرى ذكـرى أسامـرها أرى نضالاً وثغر المجد يبتسم
يا قلـب كـم كنت تزجيني وتنهلني وأنت نشزان والتاريخ مرتسم
يا عين كم كنت في الماضي ونشوته جوالة في رحاب فضلها عمم
تزيني من عــلا الأمجـاد أمـكنة تشع نوراً وأقـطار الدنا ظلم
قـد كنت أسمعها أم كنـت ألمسـها كــأنني شاهد لو أنني القدم
أن ضقت ذرعاً رجعت القهقرى أملاً فسرني النيران: البيت والحرم
وجلت في مـهبط الأنـوار ساطعة وعـدت مبتسماً بالحق أأتم
وفي ديواني الشاعر حكم كثيرة وعظات غزيرة انتشرت بين قصائد شتى من ذلك قوله في آخر قصيدة العلم:
يا زمان الكهوف كنت صـبياً آثـرانا قتد اخـتلفنا مآلاً
قد ننال النجوم يوماً وتفـضي عن نجوم في ذاتنا تتلالا
شغلتـنا لـذائذ العصر عنها أترانا تبقى الزمان كسالى
وللأستاذ الشاعر قصائد روائع غرَّ في الوطن والمجتمع وتاريخ الأبطال في ديوانيه الشعريين.
وقد ربط سعادته بسعادة وطنه وهدايته، إذ يقول بعنوان وطني :
وطني سعدت إذا سعدت فهل ترى روحي المحبة قلبها بساماً
قد طال ليلي فـي هوانك باكياً حـتى غـدا حـكم العدا أحلاماً
وعـلت ربـوعك عزة بسامة لعـلاك يا وطـني محالا سقاماً
لـكن آثـام الدخـيل تـمردت وتجـاذبت زمراً تـرى الأوهاماً
فغدا الحكم يراك تجبتنب الهدى بـدل الـهوى، فـتزيد إيـلاماً
فتكاد تذهب نفـسه ألـماً وما تصغي إلى النصح شكا الآثامـاً
ولربما اتهموه عـدوانا ومـا زادوه إلاَّ جـرأة و كـلامــاً
ولربما أضحى غـريباً فـيهم رأيــاً وخـطاً عابساً ومراما
وطني سعدت إذا رأيتك باسماً ترجو الرشاد وتهجر الأصناما
ويتغنى الشاعر بوطنه ويذكر بالمجد والبأس فيقول:
بشراك يا وطني فـمجدك شامخ أبـداً ولـيثك داـئماً متقدام
وعناية الرحمــن حولك أعين والحق في حرم البلاد إمـام
نصب الفرنسيس اللئام شراكهم فـرمتهم فـإذا هـم أنـعام
لا تخـدعنك يا جـبان متدافع فعليك جئت شواظها الغـلام
العدل دمَّر ما بنيـت، وربـما هدمت حصون الظالم الأقلام
والحق يهزأ بالحديد ويزدري شـم الحصون وأهلها ظلام
وقد وضع الشاعر أول نشيد للطيران السوري في عام 1366 هـ الموافق 1949م إذ يقول فيه:
عشقنا الحياة بأوج العلاء فطرنـا وشـدنا تخوم السمـاء
فغـردت الشـمس بـسّامة لمن عزمهم كاد يغزو الفضـاء
وهز الشام بلوغ الشهب
فهـذي السماء غدت موطناً يحــلق فيـها شباب المضـاء
فيـا جـو بشراك إن الـذي غزاك الهدى وانـهى والوفـاء
فأكرم بصقر العلا و الأدب
فيا حـرم الـوطـن المفتدى سـماء حـينا وأرضـاً ومـاء
ستـلـقى جـنودك ما مثلهم سوى الليث يحمي عرين الرجاء
هداة أباة حماة العرب
ويقول في مطلع قصيدة طويلة رصينة بعنوان ذكرى الشهداء :
أبى المجد عونا ما خلا الحق والعضبا فأصبح يهوى مشرق العلم والحربا
كذلك كـان العرب سيـفاً ومشعـلاً فمن لم يكن شبلاً فما عرف العرب
فما همة النور الذي فـضـض الدنا بأرفع شأناً حـينما انتشروا شهبـاً
إلى أن يقول مذكراً بإعداد القوة:
ومن ظن أن الشم تندك بالحصـى إذا حصيت، فالحق أفقده اللب[ـا
نهاب الجبال الراسيـات بنظـرة فكيف إذا ثارت براكينها ضربـاً
ويخشى الجبان السيف وهو يغمده فكيف إذا سل الشجاع له غضبـاً
ومن هادن الأبطـال غـدراَ فإنه سيحصد مكراً لا يقم له جنبــاً
فوا شوق نفسـي للرجـال كأنهم جبال فما تنفك تستصغر الحصبا
وواشوق نفـسي للسـيوف كأنها حتوف فما تنفك تستسهل الصعبا
ويرحب في حفلة بأشبال الجهاد المتطوعين، ويحمل على وعود الغرب السياسة فيقول من قصيدة بلغت تسعة وثلاثين بيتا.
في الأمس قد خان العهود ومارعى (حسينا) ولا ألفى ضميـراً يعاتبــه
فجـاس (النبي) دار مـجد مـحرد وأعـلن نـصراً ظـفره ومـخالبه
وأعلن (بلـفور) الخديـعة وعـده (فصهيون) منها وهي غضبى تحاسبه
رويدك يا مـجزي اللئـام بـوعده فمن مـاله يعـطي جـواد وكـاتبه
إلى أن قال:
قـد ضـج مـنهم كل شـعب وأمـة فألــقتهم ركلأ وصفقاً تجاربه
أمسـكم يا مجـلس الأمـة لــوثة أم الأصفر الرنان تغري كواكبه
فـلسطـين قلـب للعروبـة نـابض وأن الـردى بعد اقتسام لصاحبه
وهيهات أن يحظى العدا بسوى الردى فحظهم مـن القب عرب نوائبه
تهاب سيوف النـصر وهي ضجيعة فكيف إذا ثـارت وسارت كتائبه
وقال في قصيدة رائعة صارخة وكانت الحفلة التي أنشدت فيها تحت رعاية وزير المعارف الأستاذ خليل مردم بك مذكراً وموجهاً:
يا وزير العلياء يا شاعر الشـ ـام المرجى يراعه وجـنانه
يا خليلاً رعيــت جيلاً جليلاً يبتغي المجد مشرقاً قـرآنـه
عربياً لا أعجـمياً ولـكـن تـتجلـى أخـلاقـه وبيـانه
يتباهى بـخـالد وبسـعـد وصــلاح مـيزانه مـيزانه
ويقيم الصـلاة شكـراً لمولا ـه ويلـقـاه بـرهـم أخوانه
وعرَّض بخيانة الخائنين وإهمال المهملين فقال مخاطباً أمته:
إيه يا أمتي ويا نبض قلبـي كـم ظـلوم مـجرب طغيانه
يدعي ثم يعتلي ثم يـشكـو شعـب هـم أمـضه تأنانـه
يكتفي بادعاء مجد عظيـم ليس يدري ما ركنه ما جمانه
لا ترجى عروبة تتجافـى عن علا رصيـنـة أركـانه
ومن قول الأستاذ العظمة إذ ولي وزارة الزراعة:
ضـل يا نفـس جهـول حسب الحــكم تجــارة
إنـما الحـكم جـهـاد وإبــــاء وحــرارة
اذكــري الفــاروق عـــدلاً بـم يهتم نهاره
ولشاعرنا الكبير في وصف الأشياء المادية والمعاني المجردة آيات بديعة بعد انعكاس صورها في نفسه الصافية الواعية، فاسمعه وهو يقول في قصيدته (قلبي) وهي واحد وعشرون بيتاً :
عاش فيه الأسى فكان لسانه وقلوب الشباب تهوى لبانه
ليس مثل القلوب يشدو طروباً وزمان الأحزان ليس زمانه
ولم هذا الأسى ..؟ لأن الحياة تؤلمه بما يحلُّ فيها وهو يعشق الكمال والمجد :
هازئ بالحياة وهي خضوع ودموع وخـدعة ومجانه
عاشق والكمال خير غوانيــ ـه وغيد الفساد لسن حسانـه
مولع بالمآثر الغــر والسـؤ دد والعلم، والعلا والصيانــة
مغرم بالخيام وهــي بيـان وسخـاء وعـزة وأمـانــة
مغرم بالسيف يلمعن في الفتـ ـح وراء الهدى لتعلي شـأنه
وفي خطابه لنفسه يقول:
يــا نـفس يـا لغز الحيـا ة، ومـنبع العـجب الكـبير
اقنعت بالعيش المنغص وكـنت فـي عـيش نـضير
وفي وصف خيال يقول :
جاء في مسرح الزمان القديـم جولة الحـاذق اللبيـب الحكيم
ورأى عيشه سعـوداً ونـحساً حول تلك الصوى وقصر سليم
وسعى في مسارح العصر برقاً في الدجى فوق ماجن وظلـوم
ثم راح الخيال يعرج في الجـو إلـى عـالم السمـو العظـيم
مـثله النـسر قـوة ورجـاء في رحاب الفضاء بيـن النجوم
وفي قصيدته في وصف البحر يقول :
أيها البحر الذي يهوى الطمـاح وتوازيه الــسموات الفساح
ويسـير الطـرف فـي آلائـه ثم لا ينفك فـي بعض النواح
ويـطير الـقلب مشـفوقاً بـه وهـو حسـن وجلال وكفاح
وصبـاح الشـمس بسـام لـه ومساها خاشـع حتى الرواح
وفي وصف سفح جبل قاسيون المشرف على دمشق يقول من قصيدة:
غبــط السـماء ولـيلـها جـبل هـواه جــمالهــا
تـلـك الـنجـوم الساطعا ت كـأنــهــا آمـالهـا
نثــرت عليـها مـثلمـا نـثر الفـضائــل آلـهـا
والـلؤلـؤ الـمنشـــور فــي أفـوافـه أمـثالهـا
وفي خضرة الربيع يقول:
ابتسام الربيع فضضت صبا حي وذهبت في الأصيل مسائي
ووهبت الخيال في الفجر آيا كــلما رتـلت أعادت صفائي
داعبتين الصبا وماجت بأطيا ف الطاف من المعاني توضأء
(ويشخص) النبات ويقول بعنوان حديث وردة :
ووردة حــدثـتـنــي عــند الصـباح الــجميل
قـالـت ودـمع أسـاهـا فـي جـفن عـين كحــيل
بـعدت عــن ورد داري فيـا لــرزئي الـجـليـل
وهـاج دمــعـي لمــا لـمـست مـعنـى الأفـول
فــقلت يـا ورد صـبراً فـأنـت حـقـاً مـثلـي
قالت فـأنت لـــوصلي وإنـنـي للذبـــــول
ويضيق الشاعر ذرعاً بعالم الزور والبهتان، ويأنس بعالم الرياض ويقول فيه من قصيدة بعنوان عالم الرياض :
رفت الأرض في بدائعها الخضـ ـر وغنى الأغصان للأفنان
وشدت كــل زهـرة بنشيــد والنسيم الرقيـق كالزعفران
كل أخـت تحيـس تيهـاً بأخت وتشيع الوفاء فـي كـل آن
إلى أن يقول في عظته للناس:
أيهــا الناس خففوا من عناء وعــناد ومــطمع وتفاني
أنـتم إخـوة فكونـوا سلامـاً ووئاماً يـطيب كالريحــان
وعصي الآمال بالرفق يـعطي حين يصفوا الإنسان للإنسـان
وفي حكاية وصف آثار مضى في لوحات روائع يقول:
وشيخ جليل القدر ذاك أبو العهـد ومن حوله الأفكار وهي قصائد
يحاكم ظلامــها يهدون أمسـه ومن خبثهـم قامت تحاك مكائد
وشبيه قوله هذا بوصف مفن آخر غربي:
إيه (للاحويدن) في إبداعـه ذلك الرسـم بالهـام عجيب
إنه دعــي من الفـن الذي يحبط الناظر في شك مريب
قال لي خلي وقـد أبصـره دلني أي المثالين القـريـب
حسب الألوان في إبداعها .. أفقاً حقاً، وكم من مستريـب
هـكذا الفـن إذا خالطــه ذلك الإلهام و السحر المهيب
ومما قاله في التلفاز:
ما أحيـلاه للهمـوم طروبـاً مـا أحيلاه ناصحـاً وشفيعاً
النهـى والمنـى تطوف تباعاً ثم تطوى وكم تعود رجوعـاً
وتجـوب الدنـا وأنـت مقيم وتروم العلا وتلقى الجموعـا
ولو أن المبصار صانوه حقـاً لتسـامى فمـا يكـون خليعاً
وغداً منبراً وأمسى رياضــاً وتغنـى وظـل دومـاً رفيعاً
أبهذا العلم الدؤوب الليالــي والكسول النؤوم يحيا وضيعاً
أنت شمس تنير درب المعالي وتناجي العلا وتزجى القطيعاً
ضل سعي الجناة عاثوا فساداً باسم علم ما كان يوماً فظيعاً
وقد استغرق الوصف في ديوان نفحات أربعاً وثلاثين صفحة (37 - 110) وصف فيها دمشق وغوطتها وجملة من مصايفها وبعض الحدائق والبحر وجملة من المخترعات الحديثة. وفيه تسجيلات وتعليقات وصرخات من آلام وآمال بعد وقائع وأحداث في الوطن العربي والإسلامي في الصفحات ( 53 و60 و63 إلخ ) وفي ديوانه الأول دعوة المجد في الصفحات (35 . 62) إشادة بذكر أبطال وعظماء، خالد بن الوليد وطارق بن زياد وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي… وغيرهم قديمأً وحديثاً. ومن ذلك قوله من قصيدة عمر بن عبد العزيز في ديوانه دعوة المجد :
إن السـلام الذي قد كنت تنشده أضـحى مواري فلا ظل ولا أثر
والراجون نجوم الأمس قد بلغوا من الـــمهانة ما لا يبلغ البشر
كل أبي وكل في أرومــته مجد وغـر وآمـــال لها سير
من كل أصيد لو بلغت ذلتــه لقمت تمــنعه معــوانك القدر
كم يستجير وكم تغريه السنــة حمراء من دم مظلومين قد غدروا
لعهدك النور حقاً جل عن شبـه بعصر عدوان أهل الغرب يا عمر
وللأستاذ العظمة عبرات واعيات وقصائد دامعات، فقد رثى بعض الأهل والأصدقاء والعلماء والأدباء ودعاة الإصلاح والتوجيه، ويلمس من يقرأ شعره في ذلك صدقه وحبه وتقديره ومن قصائده في ذلك قصيدة في رثاء أمه ومنها :
أمي يرنّ بسمعي صوتها ولها ذكرى يعبَّر عنها صــامت الألم
لم أغشى غرفتها ولهان مكتئبا إلا ولاح محــياها للأحلـــم
كان كل متاع حـين ألمسـه أو حين أبصره قربي من الرحـم
وكم سمعت نداء هزني فـإذا صوت المنى والمنايا واهم الكلـم
وهكذا العيش أعمار وأخيلـة والمرء من بعدها في قبضة الحكم
ويقول في رثاء الزعيم المغربي الأستاذ محي الدين القليبي في حفلة تأنيبية في ربيع الأول 1377 تشرين الثاني 1955:
مصابك من عام تـــصرم دامع وعيشك للحق الدؤوب (وقـائع)
محي الدين يا قلباً من الخير نابضاً وسيفاً على مرِّ العصور يقـارع
كأني ألقــاك العشية مــدرها تدافع عن ماض به المجد ذائـع
تحدث عن فتك الفرنسيس بالأولى أرادوا العلا والغرب بالظلم بارى
إلى أن يقول:
حسامك ما ذاك الهوان وهوله وقلبك وضاء ورأسك رافع
يلوح لنا في كل أفق كأنه هلال له بين النجوم مطالع
وفي تأبين العلامة الأستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي بدمشق …عند قبره بعد كلمة في مآثره يقول :
محمد كنت الجد والفضل والعلا فبت ضجيعاً شيعتك المدامع
وللشام أحزان وللعرب لوعة فيــا لفقيد قد بكته المجامع
وفي رثائه البحَّاثة الأديب الأستاذ عباس محمود العقاد يقول :
يا يراعاً قد كان شمساً وطوراً كان رمحاً على صدور الأعادي
قد حبيت البلاد نوراً مبيناً بشعاع من العلا والرشاد
ومنحت الشباب علماً يقيناً لا ارتياباً وضلة في اعتقاد
فأدلوا على العصور يدين وبمجد محمدي الجهاد
ورميت العدا بتقد جريء رب نقد أشد من أصفاد
نم قريراً فالغمد روض ونور وحبور للراحل العقاد
وشعر الأستاذ العظمة مع نفسه وأهله وإخوانه يفيض وداً ورقة وحنيناً ومرحاً، ومن لك قوله في قصيدته (حنان قلب) :
ما له كالضياء بين جنوحي بعد ما غاب عن ظلام المعاني
إن يكن غادر الزمان إباء فلقد عاش في جنوح الحنان
حن للبيد، للفتوح، لعهد سار فيه الإسلام سير البيان
حن للصيد من غطارفة المجد دعاة الهدى، رعاة الزمان
كل شهم منهم رياض المعالي عبق الذكر من شذى الإيمان
وفي تقريظ الموسوعة الموجزة لواضعها حسان الكاتب صاحب هذا المقال يقول:
موسوعة دلت على همم العلا تــاقت إليها أعصـر وعـقـول
ماذا أقول وقد تراءى نفعها حسـب المعارف تصطفى وتقول
حسان أنجز ما وعدت مؤلفاً بعض الأصول على الوصول دليل
وفي أبيات هنأ فيها صاحب الوسوعة الموجزة بمناسبة عيد الفطر السعيد في 3/10/1395 الموافق لـ 7/10/1975 حيث يقول:
حسان دمت موفقـاً مسروراً ورباك تـــحكي جنة وحريراً
ألَّفت من كتب المعارف زمرة تاهت على زهر الربيع عطوراً
فاهنأ بعيدك بعد جــدِّ دائب تملي على القلم الخطيب سطوراً
وقوله مازحاً في رسالة إلى صديق أهدى إلي مكتبة التمدن الإسلامي غثاً وسميناً من كتب وصحف :
أهديتم كتاباً من خير ما سكبت قرائح الفضل من علم ومن أدب
وسوف يغنم منها كل مكتسب نوراً ينال به كنزاً من الحقـب
لكن فيها وقوداً يصطلى فرحاً به التمدن دون الزيت والحطب
أكرم بها حين كانون سيرجفنا ببرده وهي (للكانون) خير أب
فأرسلوا بغية الأطرق ناقلة كبرى بنا هي بها حمالة الحطب
وأرسلوا من مجاني العلم ما ابتهجت به العقول ابتهاج النور بالسبب
وأخيراً لا يفوتني أن أقول : إنما يكون المرء شاعراً حقاً بدقة ملاحظته ورقة عاطفته وسلامة ذوقه وروعة بيانه الفصيح الكلمات، الحسن الرصف، الجميل الوصف الذي لم يعلق بأسلوبه ركاكة، ولم يشبه تعقيد. ويجمع الأستاذ العظمة ذلك كله في أكثر شعره السهل الصادق الذي يذكرنا بما رواه ابن سلام الحجمي في كتابه طبقات الشعراء عن ابن عباد قال ، قال لي عمر: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت، من هو يا أمير المؤمنين؟ قال : زهير قلت : وكان كذلك .. قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه .
وهكذا نجد الأستاذ العظمة في ديوانه من أصدق الشعر، وأسهله وأعذبه وأنفعه، رحم الله شاعر الإيمان والمجد والعلم والأدب.
الأستاذ العظمة والفن:
وللأديب الشعر الأستاذ أحمد مظهر العظمة مواهب فنية ذات آثار في الزخرفة والخط، فقد تأثر بالمفن الراحل الأستاذ عبد الوهاب أبو سعود الذي درس الرسم في التجهيز الأولى بدمشق، كما تأثر بمدرّس الخط (ممدوح شريف) الذي كان يدرّس الخطوط العربية ومنها الكوفية.. والزخرفة والخط الكوفي في كثير من آثارهما في دمشق وحلب والقاهرة وبغداد، وتصفح بعض المراجع مثل كتاب الحمراء الذي صوّر جملة من النقوش والخطوط الأندلسية، حتى أصبح ذا ملكة في هذين الفنين. نقش لوحات عديدة ذوات زخارف وخطوط كوفية، كما زخرف أو خط عناوين كتب ومجلات ومقالات وبطاقات، من ذلك زخرفة كتاب امرئ القيس للعلامة سليم الجندي أستاذ الشاعر الكبير، وكتابه عنوان الاسلام والفن للأستاذ المربي محمود مهدي استانبولي (صديق الشاعر) ومجلة التمدن الإسلامي في حجومها العديدة وكثير من مطبوعاتها ومجلة الرسالة المصرية التي كان يصدرها أحمد حسن الزيات.
اشترك في الصناعات الوطنية الذي أقامته في دمشق وزارة الزراعة والتجارة في تشرين الأول عام 1929م، وكان تلميذاً في التجهيز حينئذ، فحاز شهادة الدرجة الثانية من قسم النقوش و(ميداليتها) واشترك في المعرض الزراعي الصناعي السادس الذي أقامته بالقاهرة الجمعية الزراعية الملكية في تشرين الثاني عام 1949م، وحاز شهادة الدرجة الثانية وميداليتها من قسم (لوحات ونقوش عربية) خارجية.
أعماله ومناصبه:
مارس المحاماة فترة قصيرة بعد تخرجه من معهد الحقوق، ثم التدريس في وزارة معارف العراق في 6/10/1936 وعين مدرساَ في تجهيز البنين في حلب في 22/11/1941، ثم عين رئيساً لكتاب الضبط في ديوان المحاسبات بدمشق في 1/11/1943، وفي عام 1360 هـ 31/5/1947 استقال لترشيح نفسه للنيابة، وزعم المسؤولون بعد نجاحه وجود خطأ في جمع الأصوات ..؟ وصرح في مجلس خاص موظف كبير مطلع بل مشرف، أن إيعازاً ورد المحافظة مصحوباً بضبط مزور، فوضع محل الضبط الصحيح، فكان ذلك سبب عدم نجاحه وكان أكثر المرشحين أصواتاً لخوض الدورة الثانية، وجاءت الدورة الثانية فكانت أكثر تزويراً وأظهر عدواناَ، وقاطعت المعارضة الانتخابات في دورتها هذه، وقدمت إلى المجلس النيابي طعونها على غير جدوى، واشتهرت ظلامته بين الناس، وأطلق عليها وقتها ( النائب الشعبي).
عين عضواً للجنة التربية بوزارة المعارف في 6/3/1948 وكالة ثم أصبح أصيلاً في 13/8/1949 وأصبح في 18/2/1951 نفتشاً للدولة، وفي 10/2/1959 عين رئيساَ لمكتب تفتيش الدولة.
ثم أصبح وزيراً للزراعة في17/9/1962 وقد إضيفت إليه وزارة التموين وكالة في 16/2/1963.
عاد إلى رئاسة تفتيش الدولة في 11/3/1963 وبقي رئيساً حتى أحيل على المعاش في 16/9/1969 فقال:
أحلت على التقاعد وهو عجز ولكني سأجعله اقتداراً
ومن يزرع بذور الخير دأباً يجدها تملأ الدنيا ثماراً
استمر برئاسة تحرير مجلة التمدن الإسلامي والكتابة فيها شعراً ونثراً حتى وفاته في يوم الاثنين 12 ربيع الأول 1403 هـ 27/12/1982 رحمه الله وأجزل له المثوبة.
مؤلفاته:
للأستاذ العظمة مؤلفات عديدة هي:
أ ـ في التفسير:
جزء عمّ، وتبارك، وقد سمع، والذاريات، وسورة لقمان (طبعة مدرسية)، وسورة الحجرات، وسورة لقمان (تأليف جديد مفصل).
ب ـ في شرح الحديث الشريف:
من الهدي النبوي الشريف (استلت الأحاديث الشريفة من بعض أجزاء كتاب من هدي الإسلام) وعشرون حديثاً (استلت من مجلة التمدن الإسلامي).
جـ ـ في الثقافة الإسلامية والتوجيه الإذاعي والمنبري والمدرسي:
مذاعات سبل الإسلام، نحو حياة مثلى، حديث الثلاثاء (خمسة كتب)، ومن هدي الإسلام ( خمسة أجزاء لصفوف الحلقة الثانوية ودور المعلمين والمعلمات) التربية الإسلامية ( جزءان ثانويان) _ من إعجاز القرآن الكريم، الإيمان وآثاره، ديوان الخطب (مع لجنة رسمية).
د ـ في التاريخ والحضارة:
علي بن أبي طالب ( من سلسة عظماؤنا للصغار) ـ شرار بني إسرائيل والصهيونية (محاضرة) ـ الثقافة العربية ـ حضارتنا ـ الإسلام ونهضة الأندلس.
هـ ـ في الأدب والشعر:
خواطر في الأدب ودراسة نصوصه ونقدها ـ مقالات في مجلات التمدن الإسلامي وغيرها.
أصدر ديوانه الشعري الأول دعوة المجد عام 1386 هـ ـ 1948م.
كما أصدر ديوانه الثاني نفحات عام 1392 هـ ـ 1972م.
وصفوة القول فإن الأستاذ العظمة متعدد المواهب فهو: قانوني وإداري وفقيه ومفسر للقرآن الكريم وشارح للحديث وخطيب وهو بالإضافة إلى ذلك كله ناثر وشاعر ومفن قدير وقد أبلى بلاء حسناً في كل من هذه المجالات رحمه الله تعالى وجزاه الله أجزل الثواب.
دمشق ـ حسان بدر الدين الكاتب
صاحب الموسوعة الموجزة ومعجم المؤلفين العرب المعاصرين