حدثني ناويد (اسم مستعار لقصة حقيقية) المقيم في أميركة ، قال: كانت المذابح في البوسنة عام 1992م ؛ تصك سمع العالم عندما قال لنا الخطيب يوم الجمعة: هناك إخوة وأخوات فارون من الحرب المتوحشة ، وسيصلون إلى المطار بعد العصر ، فمن كان عنده وقت ليساعدنا في استقبالهم وإحضارهم فجزاه الله خيراً.
ذهب ناويد مع مجموعة من الإخوة إلى المطار، وعند نزول الركاب أصابته صدمة ، فلم يكن فيمن حوله مسلمون بهذه الطريقة : أشكال أقرب إلى الهيبييين ، ونساء تطير شعورهن الذهبية في الهواء ، وثياب ضيقة لم يمزقها الفقر بل اتباع صرعات الأزياء ، وعازفو غيتار تمتزج صيحاتهم بمشية راقصة.
لم يكن الموقف مناسباً لأي عتاب أونصيحة ، وعاد الإخوة بضيوفهم لتضمهم الجالية المسلمة بحنان.
بعد مرور أشهر بدأت براعم الخير تتفتح ، وصار بعض الإخوة والأخوات يترددون على المسجد ، واستطاعت جلسات الإيمان أن تجعل الماء ينفجر من الصخر الأصم ..
تغيرت معظم الأشكال والقلوب ، وبدأ الإيمان يفعل فعله بصدق الدعاة ، وفطرة الأهل الجدد.
في يوم من الأيام قال الخطيب : أيها الإخوة … لاحياء في الدين ، وإن أخواتنا ليس لهن بعد الله سواكم ، فمن كان يرغب بالزواج فعليه بواحدة من هؤلاء الأخوات ، وهن أفضل قطعاً وبكثير من غير المسلمات!! ولكن … بشرط واحد: أن تخلصوا النية لله في الأمر ، وأن تجعلوه لله!!
فكر (ناويد) بالأمر ، فهو عزب وبحاجة إلى زوجة ، واختار فتاة وفق ماطلبه الخطيب تماماً … فتاة يتزوجها لله … فيها صفة لايمكن أن يقبلها إلا من كانت نيته لله تماماً … لقد اختار فتاة مشلولة شللاً رباعياً !!!
بكى ناويد أكثر من مرة وهو يحدثني قائلاً: لست أدري كيف أشكر الله على نعمة تلك الفتاة الصالحة!
كانت زوجة ناويد في البداية غير ملتزمة ، ثم التزمت بشكل عميق مظهراً ومخبراً ، وأخبرت ناويد أنها تشكر الله الذي هيأ لها من يعينها في طريق الإيمان.
لست أظن أنه يوجد في أكثر بلاد المسلمين أخت في مثل التزامها وتدينها ، وخلال أسبوعين بقيتُ فيهما في تلك المدينة لم تغب مرة واحدة عن درس النساء الذي كنت أقيمه بعد صلاة الظهر في المسجد ، وكان يؤتى بها محمولة كل يوم على الكرسي الخاص بالمعاقين ، بل إنها طلبت مع أخوات أخريات المزيد من الجلسات الإيمانية والشرعية ، لأنهن يردن زيادة العلم بالعديد من الأمور!
بيت ناويد مؤلف من غرفتين فقط ومطبخ ، والغرفة الأولى للنوم ، وليس فيها إلا سجاد (موكيت) يغطي الأرض وفراش فوقه وخزانة جدارية ، وثاني الغرفتين ممدودة بالسجاد كذلك وهناك وسادتان أوثلاثة وطاولة صغيرة ، وحدثني بعض الإخوة أنهم يقطعون أحياناً مئات الأميال طمعاً في أن يستضيفهم ناويد ليلة في بيته ، يجددون بها إيمانياتهم ويكسرون بها جليد الحياة المادية الجافة التي ضلت طريقها عن الله!
رزق ناويد وزرجه طفلاً صغيراً كان عمره حوالي ثلاث سنوات عندما رأيته ، ووحده الله تعالى يعلم كيف أتى هذا الطفل إلى هذه الحياة من أم مشلولة! وكان أبوه هو الذي يطعمه وينظفه ويعتني به ، فضلاً عن أن الأب هو الذي يغسل ويطبخ ويعتني بالبيت ، فقد كان دور الأم فقط مد ذلك البيت الصالح بالسكينة والرحمة ، وهو مافعلته تلك الأم بصفاء نادر وبذل عجيب.
يعمل الأب في صيانة بعض الأجهزة الكهربائية ، ولم تكن تفوته صلاة من الصلوات الخمس في المسجد ، وعندما يأتيه زبون فقد كان يقول له : سأذهب في الوقت الفلاني نصف ساعة ، (وهو الوقت الذي يلزمه للذهاب إلى المسجد بالسيارة ، والصلاة فيه ثم العودة منه) ، فإن كان الوقت مناسباً لك بدأت العمل!
لم أصل في ذلك المسجد مرة إلا ورأيت ناويد هناك وهو يصلي بطريقة تجعل الخشوع يدب في القلوب ، فقد كان يقبل على عبادته وكأنه يصلي أول مرة!
ناويد يتكلم الأوردية والإنكليزية ، والأم تتكلم البوسنية والإنكليزية ، فماذا ستكون لغة الطفل الأولى؟ ظننت لسذاجتي أنها الإنكليزية ، فكلمت الطفل بها فوجم الأب ، ولم يرد الطفل! فقلت ألا يعرف الإنكليزية؟ فأجاب الأب وكأن أفعى لدغته: حاشا أن يتعلم لغة الكفار قبل لغة القرآن!
لقد هزتني كلماته من أعماقي ، وخصوصاً عندما قارنت التزامه وهو الأعجمي مع إخوة دعاة عرب وزوجاتهم عربيات ، فقدوا في داخل بيوتهم اللغة والدين ، فلا يفهم أولادهم العربية ، ويضيع الدين في ثنايا الانبهار في أعماق اللاشعور بمجتمعات المادة ومتع الحياة!
كان ناويد وزوجه لايعرفان من لغة القرآن إلا مايقيمان به صلاتهما ، أما ابنهما فكان أبوه يبقيه دوماً في المسجد مع ثلة من خيرة الإخوة الدعاة العرب ، وعلى أيديهم تعلم العربية بشكل جيد ، وبدأ صدره يحوي القرآن جزءاً بعد جزء!
هذه قصة حقيقية عاينتها ، واعتبرت بها وأقامت الحجة في نفسي على الضعف الذي صار إليه بعض المسلمين ممن يذوب ولايعترف ، ويتلاشى ولا يقر!
هناك علة أصابت الكثيرين من الإخوة والأخوات في ديار الغرب ، وهي عدم القدرة العملية على الجمع بين الإيمان والحياة ، فاسترخت مفاصلهم للرغد الذي يحفهم واعتبروه قدراً لايمكن الخروج منه ولا المساس بقدسيته!
هناك خطوط حمراء على المسلم أن لايفرط فيها مهما كان الثمن ، ومن أعجب الحيل التي رأيت بعض الإخوة يقعون فيها ، الصراع الداخلي في أنفسهم حول البقاء في تلك الديار الغريبة أو الرجوع ، والمحاكمة عند البعض تتم كما يلي : إن هذه البلاد غريبة عني وفيها تيار هائل لا يمكن الوقوف في وجهه من طرق الحياة والعادات ، ومن الأفضل لي أن أتكيف مع الأمور كي أستطيع الاستمرار (وتبدأ من هنا نقطة الذوبان ، وهي تختلف من شخص لآخر) ، وفي نفس الوقت فإنني لا أستطيع الرجوع قبل تكوين نفسي علمياً أو مادياً (وأنا مضطر إلى ذلك) ، والنتيجة الوحيدة لهذه المحاكمة المغرقة في الخطأ المزيد ثم المزيد من التلاشي والذوبان.
كما يساعد على تلك المحاكمة بعض الفتاوى الدينية التي لا تستطيع أن تلزم المسلمين بالخروج من تلك الديار ، ولكنها تساهم بشكل مباشر في شل كل فعالية من خلال التركيز على السلبيات ، واستثمار نقاط الضعف التي يرويها المقيمون لبعض المشايخ والدعاة ، ممن يعيد توظيفها في زيادة كراهية المقيمين للمجتمعات التي يقيمون فيها ، وفي نفس الوقت فإن الجواذب المادية الشديدة تمنع المقيمين من ترك الحياة التي ألفوها ، فنبقى ندور في دوامة.
لقد كان فقه المسلمين الراشدين هو فقه الاقتحام ، وعلى أسوار مدينة دربند (باب الأبواب) عاصمة داغستان القديمة قبور سبعة من أولاد سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، إضافة إلى قبور العشرات من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنثورة في رحاب الأرض المتعطشة للهداية ، فقد كانوا يقتحمون ، ومنذ القرن الأول الهجري وصل بعض المسلمين إلى غرب الصين ، وهناك ثبتوا وزرعوا ولم يذوبوا ، ولم تأكلهم الحضارات المحيطة ، ومايزال أحفادهم إلى اليوم رغم حملات الإبادة للملايين التي قام بها الماويون الشيوعيون ، والتضييق حتى الساعة ، مازالوا يرفعون راية التوحيد ، ترفرف على بيوتهم كما تزهر فوق مآذنهم.
ماهو السر في ثبات أقوام وذوبان آخرين إلا فقه الانسحاب الذي نزرعه كيفما توجهنا ، وقد
تألمت مرة وبشدة من كلام داعية سافر مرة إلى الولايات المتحدة ، ومن الطبيعي أن يحفه تلامذة له ربوا على فقه الانسحاب ، فحدثه أولهم عن ضياع ابن فلان والثاني عن فرار ابنة فلان مع عشيق لها ، والثالث عن تعاطي ابن فلان للمخدرات ، وتلك خلعت حجابها ، وفلان لم يعد يصلي …. وأصدر الشيخ فتواه الصارمة بأنه لا يجوز أن يبقى أحد من المسلمين في تلك البلاد! (مع العلم أن أحداً من تلامذته لم يطبق تلك التعاليم).
قلت لأحد تلامذة الشيخ: وإلى أين يذهب المسلمون؟ قال : إلى البلاد الإسلامية! فقلت : إنك لا تتحدث عن بضع مئات من الناس بل ملايين! فقال : عليهم أن يخرجوا ويعودوا إلى البلاد التي أتوا منها! فقلت : وأبناء البلاد الأصليين الذين أصبحوا مسلمين إلى أين يذهبون؟ و بالله عليك خبرني من هي الدول الإسلامية التي ستفتح صدرها لاستقبال كل أولئك؟ ومن هي الدولة العربية العصماء التي ستدق صدرها لتعلن أنها ستوفر للمهاجرين بدينهم عُشرَ الحرية الدينية التي ينعمون بها اليوم في بلاد الكفار!
إن الخير الموجود في بلاد المسلمين لم تصنعه الأنظمة الظالمة (كما يدندن فقهاء السلاطين) ، وإنما هو تراكم طويل ، ونحت عنيد ، وتاريخ ممتد ، وبركة يمدها الله بالتأييد والتوفيق.
وفي كل مكان يتواجد فيه المسلم فعليه أن يعمل لتثبيت الخير ومده ، وعندها يبدأ التحول في النفس والعائلة والجالية بل المجتمع المحيط كله! وكم هو محزن ذلك السؤال الذي يصادفنا أينما ذهبنا: بما تنصحنا؟ هل الأفضل أن نبقى أم نعود؟ وللإجابة ينبغي على المسلم أن يقرر أولاً ماهو الأصلح لدينه ثم لعائلته وأولاده ، وبعدها عليه أن يبني ويعمل ، فمن كان الأفضل لدينه أن يبقى فعليه أن يعمل عمل من سيبقى ، ومن أراد الرجوع فعليه أن يعمل عمل من سيعود.
والمقصود من ذلك أن لانبقى معلقين ، لانعمل لبقاء ولا لرجوع ، وبالتالي فإنا سنصبح مجرد برغي صغير جداً في آلة طحن عملاقة توجهنا كيفما تريد ، أو نتصرف بشكل انتهازي مفضوح! وإننا لا ندعو الناس إلى البقاء في بلاد غير المسلمين ولا ندعوهم إلى الخروج منها ، فإن الظروف التي يمر بها المسلمون أضحت على درجة من التشابك ، بحيث لايمكن أن يصدر فيها حكم عام يستغرق الجميع! ولكننا ندعو كافة أهل الإيمان إلى العمل الصالح إن بقوا والعمل الصالح إن أرادوا الرجوع ، مع الظن أن بلادهم أولى بهم إن لم يدفع ذلك مانع قوي ، أوظرف قاهر.
ونضرب مثالاً بالمعلقين مايحصل عندما يصل بعض الشباب إلى بلاد الغربة ، ولا يجدون حولهم من يعتني بهم فيلومون جميع من حولهم ويتهمونهم بالتقصير ، ثم يتجاوز الشباب الظروف الأولى ، ويمر أكثرهم بمصاعب مالية ، فيعود الاتهام بسبب تقصير الجالية في دعم الطلاب (النابهين ، أمل الأمة) ، وتنتهي فترات الضغط المادي ، ويحصل الشاب على عمل مريح ، فيبدأ بالبحث عن زوجة ، ومن يعيشون ظروف الاغتراب يدركون صعوبة الأمر بل جنون قسوته وصعوبته ، فيبدأ الاتهام واللوم مرة أخرى : لماذا ليس لدى الجالية مشاريع لتزويج الشباب وتسهيل التعارف الشرعي! ويتزوج الأخ أخيراً ويرزقه الله بمولود فيبدأ يتحدث عن ضرورة مدرسة الحضانة (لأنها الأساس) فإذا انتهت الحضانة تكلم عن الابتدائية ، وصب كل عتبه على الجالية التي لا تؤمن مدرسة مناسبة ، ثم يحدثك عن الثانوية التي هي مفترق خطير! والملاحظ أن الكثيرين يرمون وراء ظهرهم كل المطالب عندما يتجاوزونها هم ، أي أن الأمر هو فقط بحث مشروع ، ولكن عن المصلحة الشخصية ، والشخصية فقط ، وهم لا يبنون شيئاً للجالية ، لأن من يكتوي بظروف الأمة فلا بد أن يكون حرصه (وقد قارب السبعين من العمر) على بناء مدرسة إسلامية ، وقد انتهى كل أبناءه من الدراسة وتزوجوا، مثل حرصه تماماً عندما كان لديه ابن مراهق يخشى تفلته في مجتمع تضطرب في الأفكار والسلوك ، والهم الذي يصاحب رجلاً حريصاً على أبناء وبنات الجالية (وهو على شفا قبره) هو نفس همه عندما كان عزباً يخشى على نفسه من حيصة مجنونة تخرج به عن الصراط المستقيم.
إن من يرى المصلحة في البقاء ، ويتغنى بالإسلام فعليه أن يبني المؤسسات التي تقتحم الأبنية الاجتماعية القائمة ، ومالم يصنع المسلمون بيئة اجتماعية قوية وفعالة ، فلن يكون لهم وجود ولا تأثير ولو طال بهم الزمان.
وهناك آخرون يزعمون حب الرجوع ، ويتغنون بالوطن الحبيب ، ولا يطيقون البقاء ينتظرون يوم الخروج ، ولكنهم يرجعون بأجسادهم ، ونصف عقولهم أو ربعها ، وعقول وقلوب زوجاتهم وأبنائهم تطوف هناك ، وقصة الرجل الذي بنى قصراً لأبنائه في الوطن ، ثم بشر أهله وولده بقرب الرجوع ، فقالوا: عد يا هذا إلى حيث تحب وتريد ! ولكننا هنا باقون!! قصة مؤلمة … ولقد فات الرجل أن الأشجار لها جذور لا يمكن أن تعيش في أية تربة ، ولو كان يريد الرجوع حقًا لزرع في نفوسهم ما يحببهم بتلك البلاد منذ نعومة أظفارهم ، أو بناهم ليكونوا حملة حق وهداية في تلك المجتمعات .. ومن أكثر مارأيناه يعتصر القلب ألماً أولئك الإخوة الذين يريدون تعويض أبنائهم وزوجاتهم عن الرفاهية المادية التي كانوا يعيشونها ، فظنوا ذلك بالمزيد ثم المزيد من المال والترف ، فخرجت بعض أسر (ونقول بعض ولا نعمم) لا تعرف نعمة الله عليها فهي في رفاهية مجنونة ، ونفسيات معلولة ، وأبناء وبنات بطرين ، وأم جهول.
ليس كل أب أو أم بقادرين على التربية الفعالة ، والحل هو تربية بديلة يقدمها المجتمع أو الجالية ، والتي كلما كانت قوية قوي الجميع بها ، وكلما ضعفت ضعف الجميع بها! لذا فإن على الجميع أن يعضدها ويمدها بدل أن يمتصها ، أو يحول وجودها إلى موقع نهب خاص!
سألتني بعض المدرسات الفاضلات عن أسباب الضعف التربوي الذي تعاني منه العديد من المدارس الإسلامية في الغرب ، مقارنة مع مثيلاتها الأميركية! فقلت : والله لا أعرف! دعوني أياماً حتى أبحث عن السبب! وعثرت على أول مفتاح في ملعب إحدى المدارس الإسلامية ، عندما أتيح لي أن أشهد شيئاً في غاية الطرافة ، مما لم أكن أتصوره يحصل إلا في أفلام الكرتون! فطيرة بيتزا كبيرة حملها طفل ورماها على وجه طفل آخر فامتلأ وجهه بالخضار والبندورة ، وتقاطر الجبن من الجبهة إلى الذقن في مشهد يليق بتوم وجيري!
لم أتصرف تأدباً مع أستاذ الحلقة الموجود ، وحيث أنه لا يؤم الرجل في داره ، وانتظرت اتخاذ موقف ما مهما كان بسيطاً انتصاراً للطفل المظلوم وحرصاً على النعمة ، وسداً لهذه الميوعة ، ولكن شيئاً من ذلك لم يحصل! ثم علمت أن الرشوة! نعم الرشوة لها دور كبير في ذلك وكأن النسيج المهلهل لبعض أبناء جلدتنا جعل المبادئ الثورية التي ربى بعض الحكام العرب الناس عليها تنطبع بسهولة في أخلاقهم ، لينقلوها جراثيم فتاكة إلى كل من حولهم.
فلان نخشى من توجيه ملاحظة له لأن أباه يدفع للمركز الإسلامي بضعة دولارات تافهة يظن بها أنه اشترى الإسلام! وفلان لا يُتخذ أي إجراء بحق ابنه الطائش لأن الأب الفاضل عضو في مجلس إدارة المدرسة الإسلامية ، وفلان رجل صاحب نفوذ في الجالية حتى أنه طرد رجلاً من خيرة الدعاة من الخطابة والإمامة من أحد المراكز الإسلامية بسبب أنه أصر على أن تجارة المسلم بالخمور حرام ، وصاحب النفوذ تصدر الجالية بمال السحت الحرام! ولم يوجد في الجالية الكريمة من يتضامن مع الإمام المظلوم لأن وهج الدولارات أسكت العزائم!
لماذا تتميع المبادئ عند البعض ، ولماذا لا ينهض الإسلام بقوة في نفوسنا مرة أخرى فنعطيه حقه أولاً ، ونبذل له من عصارات المهج والقلوب والأوقات مايبقيه منيعاً قوياً ، ثم نستظل جميعاً تحت أفياء دوحته الغناء ….
الروح الفردية مدمرة ، والعمل الجماعي الإسلامي مازال يحبو ، ونحن على خير ولكننا نكذب على أنفسنا عندما نزعم قلة الوقت ، وضغط الظروف ، وقلة الإمكانيات!
المجاملة اليوم لم تعد تنفع ، وعندما ذكر العلماء أن المسلم كان يحتاج إلى شيخ في العلم لأن النفوس كانت زكية ، ثم صار بحاجة إلى شيخ علم وشيخ تربية بمقدار قوته وضعفه ، فقد أصابوا ، ورغم أن الإمام الغزالي ذكر أن شيخ التربية (في زمانه) أندر من الكبريت الأحمر، إلا أن الأيام تعلم الاستدراك والحاجة أم الابتكار ، ويمكن لجماعة متوادة مترابطة أن توجد بترابطها الحد الأدنى من مهمة التعليم والتربية بأن تختار لها أميراً صالحاً (بل لنقل منسقاً إن وجدوا أن ثوب الإمارة أكبر من صاحبهم) يعطونه من أنفسهم العهد والصدق ، ويعطيهم الود والإخلاص ، ويتدثرون جميعاً بالشورى والنصيحة ، فإن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لاتجتمع على ضلالة ، ويمكن بتركيبة بسيطة أن تتخطى في البناء ، مافترت عنه همم الكسالى عشرات السنين!
في إحدى بلاد الغرب مجموعة إخوة تألفوا على الخير منذ ربع قرن ، ولديهم موعد شهري لا يتخلفون عنه إلا بأسباب جد قاهرة ، وعندما باعدت بينهم الجغرافية ، اختصروا هم المسافات بالطائرات ، يركبونها للقدوم إلى الموعد ولا يتخلفون … وماهو بمثال بل واقع فافهموا رحمكم الله …
لنعد إلى ناويد ، ذلك المسلم الذي نبت شجرة زكية خرجت من شقوق الصخر الأصم ، لماذا لا تكون في قلوب بعض الإخوة والأخوات أجزاء من إيمانه العنيد هو وزوجته بعظمة الإسلام وتفوقه ، بل بأولويته في الحياة ، قد تختلف ظروف الكثيرين عنه ولكن همته وأمثاله مثال عظيم عن تعايش القوي لا الضعيف ، والمتمكن لا المقهور ، والغالب لا المفتون .
ناويد رجل يعيش في قلب الحضارة المادية ، لكنها لايأذن لها أن تخترق قلبه وروحه ، بل لا يسمح لها أن تمر إلا حيث يرى أن مصلحة الإسلام تمررها.
ونقول لكل الإخوة تلك النصيحة القديمة الجديدة أبداً : لقد انتهى عهد النوم ياخديجة (وهي كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزوجه رضي الله عنها) ، وحلاوة الإيمان لا تأتي إلا بالتضحية التي تقتلها مجتمعات المادة قتلاً ، ويجب أن نحيي سنتها مهما كان الثمن ، ولا بد من الدندنة على بعض معاقد الإيمان المرة بعد المرة ، ولا بد من إعطائها أولوية خاصة مهما كانت الصعوبات ، وإلا فإن مشاغل الحياة ستزحف لتحتل كل ثانية في وقتنا!
ليس من الصعب أن يلتزم الأخ والأخت في ديار الاغتراب بحد أدنى من العبادات التي تجدد الإيمان في القلوب ، ومن ذلك :
صلاة الفجر في المسجد ( مرة في الأسبوع على الأقل )
صلاة الجماعة مرة في اليوم (ومن المهم جداً أن يكون للبيت نصيب وافر منها)
مشروع الأخ الواحد (حيث نضع جهدنا في هداية إنسان إلى الله … فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعَم)
مشروع الكتاب الشهري (لابد من قراءة كتاب كل شهر)
مشروع الزيارة الشهرية (زيارة عائلة مسلمة أو تجمع أخوي)
مشروع الصدقة الأسبوعية (طهرة للنفس والمال)
مشروع الهدية (بإهداء شيء بسيط كل فترة إلى أحد حولنا : زوجة ، جار ، أخ .. صديق)
مشروع المعروف (كل معروف صدقة ، وهو عمل يومي نستطيع القيام به)
مشروع الحلقة النصف شهرية (اجتماع للإخوة أو الأخوات لتدارس أمور دينهم )
مشروع الحلقة اليومية (جلسة لا تقل عن ربع ساعة مهما كان الأخ مشغولاً مع زوجته وأولاده تخفف الفتور وتملأ النفس بالسكينة ، وترمم ماتعكره الدنيا)
وغير ذلك كثير فدروب الخير لا تحد ، وضعيف الهمة يمده إخوانه وهو يمدهم فيتدفق الإيمان ألواناً .
روى الإمام ابن حجر العسقلاني عن الماوردي قال : “إذا قدر المسلم على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها ، لما يترجى من دخول غيره في الإسلام) (فتح الباري 7/230)
ليجدد إخواننا وأخواتنا الكرام صلتهم مع الله ، وليبذلوا من كرائم وقتهم لله ، وعندها ستعود الساقية الصغيرة تحمل إلى قلوبهم الري المرة بعد المرة ، وبذلك وحده تورق الأشجار من جديد.