إذا ما أردنا أن نبحث عن أسباب تأخر المسلمين عامة والعرب خاصة نجد الجمود في طليعتها ونعلم أن معظم الآفات الاجتماعية نشأت عنه لأنه العامل الأكبر في رواجها وفي إيجاد مساوئ الأخلاق والعادات السافلة التي تأصلت في نفوس الكثيرين منا حتى وصل بنا الأمر إلى حالنا المؤلمة التي لم يعد تحملها ممكناً لو بقي في الأدمغة تفكير وفي النفوس إباء وفي القلوب غيرة وحَميِّة .
يكفي الجمود شناعة وحطة أنه تعطيل لنعمة العقل التي امتاز بها الإنسان على سائر المخلوقات حتى استطاع أن يكون أفضلها وسيدها على الإطلاق ، فإذا فقدها يصبح في عداد البهائم المحرومة من هذه الفضيلة لأن الجامد هو الذي تعطلت مواهبه ولم يتصور ذهنه إلا ما فيه نفع عاجل وإن أدى إلى حتفه في أسرع وقت وأقربه وهذه صفة فاقد الشعور التام والإدراك الصحيح .
ولا يقف الجمود عند هذا الحد بل يسري تعطيله إلى الأعضاء فلا يستفيد الجامد منها أكثر مما تستفيده العجماوات من حواسها ومشاعرها وأعضائها الفعالة .
وأقل ما يوصف به الجامد أنه كسول يحب البطالة ، ذليل يختار الضعة والدناءة مُتّكِلٌ على غير خالقه حق الاتكال ، يشتاق إلى الخمول والحقارة ليكون عالة على غيره ومصيبة على أمته ، وما دخل الجمود عملاً إلا أفسده ، ولا تفشى وباؤه في أمة إلا أسقطها في مهاوي الانحطاط والدمار .
الغيرة من أسباب انتظام الحياة وترقيتها لأنها تبعث على التسابق في ميدان النظام الاجتماعي ، والرغبة في التفوق تدفع الأمة إلى بذلها الجهد في سبيل التقدم نحو الكمال وتقديمها الأضاحي لنيل ما تصبو إليه من الرفعة والمجد الخالد مع السعي الحثيث لجعل كيانها في مستوى لا يقل عن غيرها إذا لم يتقدمها بمراحل ، لكن الانتباه إلى هذا الشعور الحساس يُميته الجمود ويحل محله استكانة ورضاء بعيش زهيد ممزوج بمرارة الذل والاضطهاد .
جاء الدين الإسلامي نعمة على البشر أجمعين فبدد ظلمات الجهل وفرق شمل الظُلم وأزال العصبية العمياء ودعا إلى التوحيد المطلق فلم يجعل لمخلوق سلطة على آخر وحرر العقل من الجمود وقيود العادات المخالفة للصواب وخاطب القلب في أَحكامه فلم يأبه للقشور والسخافات والأمور الباطلة ولهذا نشر العلم وأوجب تعلمه على الذكور والإناث كي تعرف النفس مالها وما عليها من واجبات نحو ربها وذاتها وأسرتها وأمتها والناس أجمعين وما برح القرآن العظيم محققاً هذه الفضائل لو كان القرآن يُعمل به في عصرنا كما ينبغي .
وكيف يُعمل بُه ؟ وقد نسخته العادات على أيدي الجامدين الذين هم بلاء على الأمة ولا علاقة لهم مع العلم والدين إلا بالزي وحده وإتقان هندامه وأن السابق منهم من يستطيع فهم قسم من ظاهر العبارة بدون تمحيص ولا تدقيق ، لكن تفشي الجهل وبطش الدول الحاكمة على الديار الإسلامية بالعلماء العاملين وانتقامها من أحرار المؤمنين أفسح لهم مجالاً واسعاً فاضطرت الأمة للاقتداء بهم اغتراراً بهيآتهم وبما ترى لهم من الجاه والاحترام لدى الدولة وقد ثبَّتَ تفسخ المعاهد الدينية هؤلاء الجامدين وجعل لهم شأناً وأبقى السيطرة بيدهم ليلتقطوا من جاهلي الأمة فريقاً على شاكلتهم يحل محلهم ويتبوأ المناصب الدينية .
وبذلك تاه المسلمون عن طريق الصواب ولم يتسن لهم أن يفحصوا الأمور بعين الحقيقية ويلموا شملهم ويجمعوا قوتهم المبعثرة لأن الجمود قلب أذهان الكثيرين منهم وفرقهم شيعاً وأحزاباً فبعد أن كانت المذاهب رحمة للأمة أصبحت نقمة وعذاباً بإساءة استعمالها واستغلالها للشهرة والاكتساب فصدق على هؤلاء وأمثالهم قول الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } سورة الأنعام آية 159 لقد كانت المذاهب الكثيرة في صدر الإسلام واختلاف العلماء فيما لا نص فيه من الشارع غير حائلة دون تقدم المسلمين وتخليصهم البلاد العربية ـ العراقية والشامية ـ من براثن كسرى وقيصر وفتحهم الممالك الكثيرة من الأقطار المختلفة لأنهم كانوا يرون مثل هذا مجالاً للتوسع على عباد الله ما دام الاختلاف لا يمس النصوص القطعية المصونة عن التغيير والتحريف ولا سيما أن المجتهد المصيب له أجران ـ أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ـ والمخطئ له أجر الاجتهاد فقط فهو إذن غير محروم من الأجر فإذا جزم بخطأ المخالف فلا شك في أنه لا يستحق أن يزدري بالتابع له والمقلد لقوله والأحرى به أن لا يعده ضالاً أو مارقاً وعندئذ يسهل الإصلاح وجمع كلمة المسلمين المتفرقة بحسب العادة والدسائس .
أما الآن فقد احتل الجمود هذه المواقع الخفية وعُطِّلَ بعضُ كتاب الله تعالى بالتلاوة من غير إمعان في أحكامه ولا تدبر في آياته وألغي بعض السنة النبوية حتى لم تعد بنظر الجامدين صالحة إلا لأن تقرأ أحاديثها الصحيحة في البيوت للتبرك فقط .
ولقد أخذ الخطب الأعمى يستفحل منذ ابتداء القرن الرابع للهجرة حتى أن الحروب الصليبية كانت نارها تستعر في سواحل الشام ومصر في النصف الثاني من القرن الخامس وعلماء المسلمين يومئذ فريقان : فريق يشتغل في بيان أحكام العبارات الظاهرة غير آبه لهذا البلاء العظيم ولم يشر إليه في مؤلفاته العديدة ولو من طرف خفي ، وفريق لاه في نصرة مذهبه بالجدال مع المذاهب المختلفة التي تجمعه وإياها كلمة التوحيد .
أليس من أعظم الأدلة على الجمود أن كثيراً من العلماء الذين نحترمهم ونأخذ بقولهم بلا طلب دليل لم يذكروا هذه الحروب الصليبية في كتبهم مع أن لهيبها مستعر حتى الآن ولم يذكروا لنا ماذا دمرت من البلدان وسفكت من الدماء وانتهكت من الأعراض وأتلفت الشيء الكثير من الأموال وغيرها في حين أنهم قد دونوا في كتب الدين من الخرافات المعادية للعلوم الكونية والطبيعة شيئاً كثيراً لأن شأن الجمود أن يدع صاحبه يصرف ذهنه إلى القشور وحدها غير ملتفت إلى اللباب واستحصال الفائدة ، ولم يأت القرن السابع إلا وقوي الجمود حتى نشأت عنه فتنة الكرخ المشئومة بين السنة والشيعة فنجمت عنها واقعة بغداد وسقوط الدولة العباسية على يد هولاكو وحصول الفظائع الكثيرة .
* العالم الفاضل المجاهد عالم دير الزور ونائبها السابق في مجلس النواب السوري وثائرها على الظلم والاحتلال الفرنسي.. صادر الفرنسيون أملاكه وكتبه وحكموا عليه بالنفي. عرف فيه صدق الدين وقوة اليقين، والعلم الواسع في المعقول والمنقول والشجاعة والنجدة، وعلو الهمة، فهو عالم وطبيب وضابط وعابد معا، تلقى العلم على شيوخه الأجلاء، والتحق بالجيش التركي، فرقي إلى ضابط، واتصل بالقسم الطبي بالجيش، فأفاد علم الطب، وكان رامية يرمي فيصيب عشرة في عشرة، وكان مع ذلك أديباً مؤرخاً، راوياً للمنظوم والمنثور، حلو الحديث، حسن الدعابة فكه المحضر، حاضر البديهة،ربانياً في تعبده وتقشفه، فيلسوفا في تفكيره ونظراته. وقد نشرت مجلة التمدن الإسلامي المقالة أعلاه في السنة الأولى ، العدد الأول: 1354هـ/1932م