نص المحاضرة التي ألقاها فضيلة الأستاذ الشيخ سليمان الزبيبي يوم السبت 15 جمادى الآخرة 1428 هـ
وذلك ضمن الموسم الثقافي لجمعية التمدن الإسلامي بدمشق
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم باسمك نبتدي ، وبهديك نهتدي ، وبك يا معين ، نسترشد ونستعين ، ونسألك أن تكحّل بنور الحق بصائرنا ، وأن تجعل إلى رضاك مصائرنا ، نحمدك على أن سدّدت في خدمة دينك خطواتنا ، وثبّتّ على صراط الحق أقدامنا .
ونصلّي ونسلّم على نبيك الهادي الذي دعا إليك على بصيرة ، وتولّاك فكنت وليّه ونصيره ، وعلى إله المتّبعين لسنّته ، وأصحابه المنيبين لشريعته .
وبعد :
فلقد شرفني أخي الأستاذ أحمد معاذ بأن أكون المتحدّث إليكم اليوم في موضوع أراه مهمّاً وحيوياً عنوانه : إحياء فروض الكفاية سبيل لتنمية المجتمع .
وأول ما تبادر إلى ذهني في هذا الموضوع : قول الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله : من جملة الشرور ترك الترتيب بين الخيرات .
ثم ما قاله شيخنا غزالي العصر : إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة ويستوي أن تكون هذه الفريضة فرض عين أو فرض كفاية .
وبعد ذلك ما لاحظته من ظاهرة – أحسبها بلغت حدّ الظاهرة – وهي ما أسميتها ظاهرة الفرار من الثغور عند كثير من إخواننا المتعلّمين في تخصّصاتهم المختلفة أنهم صاروا يجنحون إلى الإقبال على طلب الإجازات في حفظ كتاب الله وربما جمع القراءات المتعددة أيضاً ، بل والالتحاق بالمعاهد الشرعية المتخصصة للتبحّر في دراسة العلوم الشرعية . وأغلب ذلك كله على حساب دراساتهم الأصلية وتخصصاتهم العلمية ظناً منهم بأن الأجر الوارد ذكره في الكتاب والسنة لطالب العلم إنما هو خاص بالعلم الشرعي – وهذا من أخطاء التأويل الشائعة كما لمسته عند الكثيرين .
لذلك كنت ومازلت أحاول جاهداً أن أوضّح لكل ذي علم وصاحب تخصص أنه مشمول برعاية الله وعناية ملائكته في ما أقامه الله فيه من علوم وأعمال يحتاجها المجتمع وتفتقر إليها الأمة ، مع أني أقول أنه لا حرج عليه إذا أراد الاستزادة من علوم الشريعة والتبحّر فيها . لكن بعد أداء واجبه الأصلي وأن تكون هذه الدراسة الشرعية الرديفة خادمة لتخصصه الأول ومرشدة له في كيفية أدائه على النحو المطلوب .
بعد هذا أدخل في موضوعنا فأقول :
قد لا نجافي الحقيقة ونقع في المغالاة ، إذا رأينا أن سبب التخلّف الذي منيت به الأمة المسلمة – ولاتزال – يتمثّل في غياب مفهوم الفروض الكفائية عموماً ، أو انكماش هذا المفهوم في ذهنيّة المسلمين ، وعدم استشعار التكليف والمسؤولية تجاهه ، واقتصاره على ميادين تتناسب مع ذهنية التخلّف لأنها تقع على هامش الحياة ، أو تكاد تكون خارج حياة المجتمع ، فاقتصر مفهومها وميدانها على الصلاة على الميّت وتجهيزه وتكفينه ودفنه ، وكأن الأمة في حالة احتضار ؛ لا تبصر من الفروض الكفائية إلا أحكام الجنائز والموتى !
والإشكالية لم تقتصر على انكماش مدلول الفروض الكفائية أو غياب أبعادها ، وعدم الشعور بالمسؤولية الشرعية عنها ، والثواب العظيم على أدائها ؛ وإنما تجاوز الأمر ذلك إلى شيوع الروح السلبية التواكلية في فهمها وتعاطيها ، وأدى هذا الفهم القاصر إلى نتائج كارثية في واقعنا المعاصر .
ولابد لإعادة وصل الدين بالحياة ، والحضور الفاعل لقيم الدين في خضم الحياة : من إبصار دور الفروض الكفائية في بناء المجتمع وتنميته ، وتطوير الرؤية بحسب تطور الحياة ، لتبلغ آفاقاً جديدة متطوّرة .
ويحسن بنا – قبل الشروع في بيان آثار الفهم القاصر لفروض الكفاية ، وأسباب هذا الفهم – أن نذكر مقدمة بين يدي البحث ، تبين المقصود بالواجب الكفائي ، وأقسامه ، والفرق بينه وبين الواجب العيني ، ومقصد الشارع من كل منهما .
فالواجب الكفائي : هو ما يطالب بأدائه مجموع المكلفين ، وإذا قام به بعضهم سقط الطلب عن الباقين ، وإذا لم يفعله أحد أثموا جميعاً ؛ كالولايات العامة والجهاد وتعليم العلم وإقامة الصناعات المهمّة … وإنما سمّي واجباً كفائيّاًَ لأنه يكفي في حصول المطلوب به قيام بعض المكلّفين بفعله دون بعضهم ، ولهذا فإن ذمّة من لم يفعل هذا الواجب تبرأ بفعل غيره ، وإن لم يقم به أحد مطلقاً فإن الإثم واقع على الجميع .
وربما يحتاج هذا الأمر إلى مزيد إيضاح أستعين فيه ببيان الإمام الشاطبي حيث يبين أن الطلب وارد على البعض – ولا على البعض كيف كان – ولكن على من فيه أهليّة القيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما والدليل على ذلك أمور . أحدها النصوص الدالّة على ذلك لقوله تعالى ( وما كان المؤمنون لينفروا كافّة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة … الآية . فورد التخصيص على طائفة لا على الجميع ، وقوله ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ….) الآية إلى آخرها وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ورد الطلب فيها نصّاً على البعض لا على الجميع .
والثاني : ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى فإنها إنما تتعيّن على من فيه أوصافها المرعيّة لا على كل الناس . وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعاً باتفاق من كان أهلاً للقيام بها والفناء فيها . إذ لا يصحّ أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد …
والواجب العيني : هو ما يطالب بأدائه المكلّفون كلّهم ، وإذا فعله بعضهم لم يسقط الطلب عن الآخرين ؛ كالصلاة والزكاة والصوم … وإنما سمّي هذا الواجب عينيّاً لأن الخطاب يتوجّه إلى كل مكلّف بعينه ، بحيث لو عجز عن فعل الواجب لم يطلب الفعل من غيره ، ولا تبرأ ذمّة المكلّف إلا بفعله ، حتى لو أدّاه جميع المكلّفين دونه لا يسقط الطلب عنه .
والواجب الكفائي ينقلب عينيّاً إذا كان المطالب به واحداًُ بل له أن يندب نفسه إليه كما قال يوسف عليه السلام ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) .
فإن لم يكن في البلد إلا طبيب واحد ؛ كان إسعاف المريض واجباً عينياً عليه ، وإذا حضر استغاثة الغريق سبّاح واحد ؛ تعيّن عليه إنقاذه ، وهكذا … وذلك لأن الواجب الكفائي يريد به الشارع وقوع الفعل الذي يحقق المصلحة ويدفع الضرر ، سواء قام به واحد أو جماعة أو المكلّفون به جميعاً ، فإذا لم يكن القادر عليه إلا واحدا ؛ لزمه القيام بهذا الواجب ، وكان عينياً تشغل ذمته به حتى يقوم به ، وإلا كان آثماً .
يقول الإمام القرافي – رحمه الله - :
((العلم وضبط الشريعة وإن كان فرض كفاية ؛ غير أنه يتعين له طائفة من الناس ، وهي من جاد حفظهم ، ورقّ فهمهم ، وحسنت سيرتهم ، وطابت سريرتهم ، فهؤلاء هم الذين يتعيّن عليهم الاشتغال بالعلم … وصار طلب العلم عليهم فرض عين ))
وها هنا أمران مهمان نقف عليهما : الأول : تحول الواجب الكفائي إلى عيني في حق من تأهل له فلا يجوز ه التقصير في ذلك بحجة أنه يؤدي واجباً كفائياً حيث يقول في نفسه : غيري يكفيني هذا الأمر ومن هنا يأتي ضياع هذه الفرائض وتخلّف المجتمع .
الأمر الثاني أن الإمام القرافي ضرب مثلاً في هذا الجانب للعلم الشرعي ووضع مؤهلات لطالب هذا العلم وعلينا أن نتوسع في ذلك ونرى قدرات وملكات ورغبات كل إنسان وما يحسنه فيوجّه إليه ليسدّ خللاً في الأمة ويقوم بواجب يكفيها الحاجة إلى غيرها .
وأذكر هنا مثلاً ضربه الإمام الغزالي لو أن ناحية فيها مئة عالم بالشريعة وليس فيها طبيب مسلم واحد للحق الإثم الجميع …
وجمهور الأصوليين يقسمون الواجبات الكفائية إلى قسمين : دينية ودنيوية ، ويقصدون بالأولى الواجبات العبادية المحضة كصلاة الجنازة ، وبالثانية المصالح العامة كالصنائع التي يحتاج إليها .
وذهب الإمام الشاطبي في تقسيمها مذهباً آخر ، فهو – رحمه الله – يقسم الواجب الكفائي إلى ما يختص بباب من أبواب الشريعة ؛ كالولايات العامة والجهاد وتعليم العلم … ، وإلى ما لا يختص بباب من أبواب الشريعة ؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وتقسيم الشاطبي رحمه الله يدلّ على عمق فهمه لمقاصد الشريعة ، حيث يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شاملاً لجميع أبواب الشريعة ومكمّلاً لها ، لا يختص بباب دون آخر ؛ وذلك لأنه يشمل نواحي الحياة كلها ، ليكون قوة دافعة نحو إتقان العمل والارتقاء بالأمة ، ويصبح علاجاً للأدواء ، وحصناً للأمة من تكرار الأخطاء .
وها هنا أمر مهم يتعلق بامتداد الواجب الكفائي ؛ إذ إن المسؤولية في الواجبات الكفائية لا تنتهي بمجرد تحمّل الواجب الكفائي وتعيينه على الأفراد القائمين به ، بل هناك امتدادات لهذه الواجبات تقتضي من الأمة أمرين اثنين :
أشار إليهما الإمام الشاطبي بقوله : قد يصح أن يقال إنه ( أي الفرض الكفائي ) واجب على الجميع على وجه من التجوّز لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ، فهم مطلوبون بسدّها على الجملة فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها . والباقون – وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين ، فالقادر إذاً مطلوب بإقامة الفرض وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر ..
ونعود فنقول هذان الأمران :
الأول : حمل القائمين بالواجبات الكفائية و إعانتهم للقيام بها على النحو الأمثل .. فالقادرون على العمل مكلفون بمباشرة العمل ، والباقون مكلفون بحمل القادرين على العمل ، وطرق حملهم كثيرة : من الدعاء ، والتشجيع ، والمساهمة في الإعداد ، والنصح ، والنقد ، والمحاسبة ، وإحداث مؤسسات للضبط والضغط ، والسعي المستمر لتحديثها ورفع مستواها وجدواها .
والأمر الثاني : متابعة الواجبات الكفائية والتأكد من إقامتها بقدر الكفاية ، فالفروض الكفائية تمتاز من الفروض العينية بأنها واجبات إجتماعية أو جماعية ، إذا قام بها بعض أفراد الأمة خرجت بذلك من عهدة التكليف وبرئت من المسؤولية ، والقيام بها يعني الاضطلاع بها على الوجه الأمثل ، وتحقيق الكفاية المطلوبة للأمة ، وليس مجرّد مباشرة بعض الأفراد لها دون تحقيق حد الكفاية ، فإذا لم تتحقق الكفاية يبقى الثغر الاجتماعي مفتوحاً ، ويبقى التكليف الجماعي قائماً ، ولا تخرج الأمة بذلك من عهدة المسؤولية .
وهنا ففهم جيداً معنى الإثم الذي يلحق الجميع ، فهو ليس إثماً أخرويا فحسب وإنما هو إثم دنيوي وعقاب عاجل يحيق بالأمة كلها من ضعف وتخلف ومرض واحتياج إلى عدوها في غذائها وكسائها ودوائها وما إلى ذلك . وهذه نقطة مهمة .
وهذا الأمر يقتضي تفعيل مؤسسات البحث والإحصاء ومرافقها في المجالات المختلفة ، لقياس الأداء والإنتاج في مرافق الحياة العامة ، ومدى كفايتها وإتقانها لسدّ حاجة الأمة .
وهذا في الحقيقة من مهام الدولة المسلمة فلا يستطيع الأفراد وحدهم ولا التجمعات الخيرية أن تنهض بمعرفة ذلك كله وتهيئة حاجته وسد هذا الثغر وإنما هي وظيفة الدولة بأجهزتها المختلفة من إحصاء وتخطيط وتوزيع لهذه المهام . ولكن إذا لم يكن تحقيق هذا الأمر كافياً على يد الدول والحكومات ووجد فيها التقصير أو المحسوبيات . فهذا يدفع المسلمين إلى التعاون والتجمع لمحاولة سد ما استطاعوا من الخلل بجهدهم واجتهادهم وهذا يبعث روح المسؤولية في كل فرد ليحمل هموم الأمة كما سيجيء الحديث عنه .
هذا وقد أدى انحسار الفهم عن الأبعاد الحقيقية للواجبات الكفائية ، وإقصائها عن مقتضيات الحياة العامة ، وحصرها بقضايا الكفن والجنازة ؛ إلى خلل بالغ في المسيرة الحضارية للأمة ، وتقصير كبير في أداء دورها الريادي بين الأمم .. ولعل من أهم المجالات التي تظهر فيها آثار هذا الفهم القاصر في واقعنا المعاصر : الفقه السياسي ، والعلوم الكونية ، والعلوم الإدارية ، والخطاب الدعوي .
أولاً – في ساحة الفقه السياسي :
انصبّ معظم الحديث والتنظير في فقهنا السياسي على حقوق الحاكم على الرعية دون العكس ، أو حصر حقوق الرعية في عبارات عامة مجردة من التطبيق ، واقتصر الفهم الديني في هذا المجال على أن مجرّد إقامة رئيس الدولة تعفي الأمة من ذنب التقاعس عن واجب إقامة الحاكم ، دون أن يضاف إلى ذلك قدرة الحاكم على العطاء ، وتمكّنه من القيام بالوظائف المنوطة به على الوجه الأكمل ، وخاصة في مواجهة التحديات التي تعصف بالأمة في عصرنا الحاضر .. وفي ظل غياب مؤسسات المراقبة والمساءلة والشورى والنقد ؛ يصبح تخلّف الأمة وضياع مصالحها نتيجة طبيعية لهذا الفهم القاصر . ومما ساعد على تكريس هذا الضياع : قيام بعض الإدارات السياسية بإقصاء ( الاحتساب ) عن ساحة العمل السياسي والحياة السياسية ، فأصبحت الحسبة محصورة في مظاهر التدين الخاصة ، وهي في الغالب واجبات عينية فردية .
ولا يخفى على أهل العلم أن القيادة السياسية في الإسلام قيادة جماعية وليست فردية ، لذلك فإن من أخطر الأمراض التي أصبنا بها في فقهنا السياسي أننا اعتبرنا القيادة فردية ، وقد ساهم تديين منصب الحاكم وتديين صلاحياته وتديين الطاعة له ؛ في بقاء الفردية هائجة منتشية ، وهكذا صار التعامل مع الحكم والحكام وكأنهم يمارسون طقوساً دينية ، ولا غرو فإن تديين ما ليس بدين كان هو سبب بقاء الشقاء السياسي كل هذا العمر المديد .
ولما قصرت الأفهام عن إدراك أبعاد الواجبات الكفائية في إحداث مؤسسات الضبط والنصح والمراقبة ؛ صارت العلوم السياسية خارجة عن اهتمام التديّن ، فافتقدت الأمة بذلك العقل الذي يفكّر ، ويعي حاضره ويخطط لمستقبله ، ورضي الفرد المسلم أن يطمئن نفسه بمظاهر التديّن الشخصية ، وذلك بالاكتفاء بالواجبات العينية ؛ كالصلاة والصيام والحج …
ثانياً - في ساحة العلوم الكونية :
إن قلة الاهتمام بالعلوم الكونية أبعدت الأمة عن فرص التسخير المتاحة للإمكانيات المكنونة تحت الأرض ، فصارت الأمة متطفّلة على الآخرين في مجال الصناعة ، رغم وفرة الأموال الإسلامية المودعة في المصارف الغربية ، وحتى وقت قريب ؛ كان بعض علماء الدين يرى أن العلوم التطبيقية البحتة لا تدخل في إطار الاهتمام الديني ، ومنهم من باغت به السذاجة أن يقول : (( إن الله قد سخّر لنا غيرنا ليتعب ويصنع ، فهم يصنعون السيارة ونحن نركبها ، وهم يصنعون الطائرة ونحن نسافر بها )) وأقول تعقيباً عليهم : وهم يصنعون الصواريخ ويضربوننا بها فلم لا نرضى بذلك أيضاً ؟!!
هذه العقليات الدينية إن صحّ تسميتها عقليّات دينيّة !!!
كان لها كبير الأثر في تخلّفنا عن القيام بالواجب الكفائي في مجالات العلوم الكونية ، والإفادة منها لسدّ احتياجات الأمة بما يتناسب مع التحدي الحضاري الذي تواجهه ، وهذا ما أدّى إلى تأخّر أمّتنا عن الأمم .
فالأمة الإسلامية لم تتمكن من الاستفادة من طاقاتها في تكوين ( مجتمع المعرفة ) ؛ الذي يوظّف المعرفة لإنتاج المعرفة ثم التقانة ، وهذا أمر في غاية الأهمية ، وهو من أهم الواجبات الكفائية في عصر المعرفة والتقانة ، وهما عصب الحياة وسرّ البقاء .
وأستغلّ الفرصة هنا سانحة بمناسبة الحديث عن ( مجتمع المعرفة ) لأقول : إن مجتمع المعرفة لا يقوم إلا على شيوعها بين أفراده بجنسيهم الذكور والإناث .
أما إذا بقي التقصير في تعليم الإناث أو حصرهم في جوانب محدودة كالعلم الشرعي مثلاً .
فهذا ما يؤخر من نهوض الأمة قروناً لأننا بحاجة إلى كل جهد وإلى كل كفاءة يستوي فيها الذكر والأنثى مع العلم أن بعضاً من فروض الكفاية لا تقوم إلا بالإناث تحديداً .. فإلى متى يتم التعامي عن هذا والغفلة عنه باسم الدين والتقاليد أحياناً ، وباسم عدم الإدراك أحايين أخر .
ونحن في ذكرى النكسة نتذكر بألم كيف أن امرأة صهيونية – غولدا مائير – أذلّت شوارب العرب ولحاهم في حرب 67 …
لذلك لا بد من قيام نسق للابتكار يقوم على إدارة تتميز بالكفاءة ، لنقل التقانة من خارج المجتمع ، واستيعابها في النسيج الاجتماعي ، وتنشيط إنتاج المعرفة المؤدي إلى توليد تقانات جديدة ، تحقق التنمية المنشودة .
ثالثا – في ساحة الفقه الإداري :
لم يكن اهتمام الأمة بالعلوم الإدارية بأحسن حالاً من سابقتيها ، فأصبحنا عاجزين عن الاستفادة من القدرات العقلية المتوفرة ، وتنظيمها في مؤسسة إنتاجية عالية ، وعاجزين عن أن نضع كل كفاءة في مكانها المناسب بعيداً عن مقتضى الولاءات العائلية والحزبية ، حتى أصبحت الوظائف العليا في كثير من بلادنا مرهونة لأصحاب الولاء . وقد عمّ هذا البلاء ولهم عند أدعياء الدين قبل الحكّام والمسؤولين !!
وأصبحت دراسة العلوم الإدارية ( ورداً ) يدرّس في الجامعات ، دون أن يساهم في حلّ المشكلات الإدارية للبلاد ؛ التي تعاني من تناثر الكفاءات وهجرة بعضها ، وعدم تنظيمها في منظومة متكاملة بحيث يستفاد من طاقاتها ، ويأخذ كل واحد مكانه بقدر طاقته وعطائه ، وتصبح قدرات الأمة وطاقاتها في نسيج متماسك ، يدفع المجتمع إلى الأمام .. وبذلك يتسنّى للأمة القيام بالواجب الكفائي في هذا المجال .
رابعاً – في ساحة الخطاب الدعوي :
بسبب ضمور الفهم في مجال الفروض الكفائية ، وقصر النظر عن إدراك آفاقها : كان خطاب حركات التجديد والإصلاح يدور في فلك الواجبات العينية ، ولم يعط حيّزاً كافياً للواجبات الكفائية ، وكانت اهتمامات معظم الحركات الإسلامية جزثيّة ضيّقة ، لم تصل إلى مستوى التصدي للمصالح العامة للأمة ، وتناولها من خلال نظرة كلّيّة شاملة .
ويقف وراء ذلك : الخلل في مناهج التعليم الدينية ، التي لا ترقى إلى مستوى تخريج فئة عالمة بمقاصد الدين في الحياة ، بل تخرّج حفظة لبعض المتون الفقهيّة والأصوليّة ، يتصدّرون للفتوى بعيداً عن معرفة الواقع وملابساته . في تشخيص هذا الداء الدّويّ يقول العلّامة الشيخ يوسف : (( وآفة كثير ممن اشتغلوا بعلم الدين : أنهم طفوا على السطح ، ولم ينزلوا إلى الأعماق ؛ لأنهم لم يؤهّلوا للسباحة فيها ، والغوص في قرارها ، والتقاط لآلئها ، فشغلتهم الظواهر عن الأسرار والمقاصد ، وألهتهم الفروع عن الأصول ، وعرضوا دين الله وأحكام شريعته على عباده تفاريق متناثرة ، لا يجمعها جامع ، ولا ترتبط بعلّة )) . بل أقول إن بعضهم زاد على ذلك فصار ينصب العداء لمن ينصح ويوجه ويضع يده على مواطن الخلل في هذه المناهج والأساليب ويسعى إلى إقصائه بكلّ طريقة ويتوسل إلى ذلك بكلّ وسيلة حتى جاءتنا أيام بدأ الإملاء الخارجي في تعديل هذه المناهج وتهذيبها هو المتّبع في كثير من بلادنا فاستكنّا له وكنا أذلّة على الكافرين أعزّة على المؤمنين .تلك بعض الآثار المترتبة على قصور الفهم لأبعاد الواجبات الكفائية ، وتقصير الأمة في العمل بمقتضياتها . ولكن ما هي الأسباب الرئيسة لذلك الفهم القاصر ؟
إن للقصور في الفهم والتقصير في العمل أسباب عديدة ، ترجع بمجملها إلى أزمات ثلاث تعاني منها الأمة الإسلامية :
أولاً – أزمة الفكر والفهم والتديّن :
إن أول ما يبدو لنا – حين ننظر إلى القرنين الأخيرين – ذلك الضباب الكثيف الذي يحيط بحقيقة الإسلام في نفوس كثير من المسلمين ، والبعد المتزايد عن هذه الحقيقة في الحياة الواقعية ، فمفهوم ( لا إله إلا الله ) الذي يشكل أساس الإسلام كله : تحول إلى كلمة تقال باللسان لا علاقة لها بالواقع ، ولا مقتضى لها في حياة أكثر الناس ، وصار مفهوم العبادة الواسع محصوراً في شعائر تعبدية معزولة عن الحياة ، وأصبحت عقيدة القضاء والقدر قوّة مخذّلة عن العمل والحركة ، مثبّطة عن الأخذ بالأسباب . وأصيبت العقلية المسلمة بقصر في الفهم لأبعاد مقتضيات الاستخلاف على الأرض ، وقصّرت عن الاستنباط والاعتناء بالسنن الكونية التي جاء القصص القرآني لتأكيدها , حيث تَضعَفُ آياته آيات الأحكام التي استنبط منها هذا الكمّ الكبير من التراث الفقهي بمعنى أن الآيات التي عرضت السنن الكونية هي أضعاف الآيات التي اصطلح الفقهاء على تسميتها بآيات الأحكام . والتي لا تزيد عن خمس مئة آية في أقصى عدد لها . ولا يدرس طلاب الشريعة غيرها من كتاب الله ، أما بقية الآيات فيقال لك إن هذه ليست آيات أحكام ويهمل فهم الكتاب مع كثرة حفاظه وجامعيه من الذكور والإناث !!
وأصبح حال طلبة العلم خاصة كما يقول إقبال :
المسلم فقير ومهلهل الثياب جبريل يولول ويصيح من أعماله
تعال لنرسم أمة أخرى فهذه الأمة عبء على كاهل العالم
لنرسم أمة أخرى تضع العمل نصب عينيها أمة أخرى تحمل الدارين على كاهلها.
وأغلب هذه الأحكام يتعلّق بالواجبات العينية ، في حين أهمل الفقه المتعلّق بسنن سقوط الحضارات ونهوضها ، الذي تكون حمايته بالواجبات الكفائية التي شرعت للحفاظ على خيرية الأمة ووسطيتها وشهودها ، وأداء دورها الراشد والمرشد وسط الأمم ، وبقي هذا الجانب من الفقه مهملاً جيلاً بعد جيل ، ولم ينل حظّه من الاهتمام المطلوب ، واتّكل فيه اللاحقون على جهود السابقين .
لقد نال التراث الفقهي قدراً كبيراً من التقديس ؛ حيث إن البيئة العلمية في الأغلب لا تسمح بالاستدراك على السابقين ، وهذا ما أدّى إلى تهميش الفقه بالسنن الكونية في العقلية المسلمة ، ونتيجة لذلك فقدنا التوازن في عملية التدافع بين الحق والباطل ، وبدأ التفكير في التعامل مع الواقع بناءاً على ( فقه الضعف ) ، مع كثرتنا وكثرة عتادنا الذي لا نملك حق استعماله إلا ضد شعوبنا !
ثانياً – سيادة الاستبداد الفردي :
لعل من أخطر تداعيات الاستبداد السياسي أن علاقة الحاكم مع شعبه تقوم على الشدة ، في حين تلين قناته مع الآخرين ، فهو يستخدم القوة مع الشعب ، والضعف مع قوة الخارج ! لذلك فإن سيادة الاستبداد الفردي تؤدي إلى التديّن الفردي ، وعدم التدخل في شؤون السلطة المستبدة ، فتنحسر من ثمّ الواجبات الكفائية عن الواقع ممارسة وتفعيلاً ، أو يتراجع فهمها في إطار القضايا المصيرية للأمة ، لينحصر في قضايا المصير الفردي من دفن وكفن وجنازة .
وهكذا فإن الاستبداد قد ساهم مساهمة عظيمة في تهميش المسؤوليات المجتمعية على ساحة اهتمامات خطاب الإصلاح الديني ، أو خطاب علماء الدين عموماً ، وصار الخطاب يعنى يتأكيد المسؤوليات الفردية والتديّن المظهري ، بعيداً عن الخوض في مقتضيات نظام العدالة والمساواة وحقوق الرعية .
ثالثاً – الغزو الفكري لخدمة الاستعمار :
لمّا كان الفهم الشامل لأبعاد الواجبات الكفائية يساعد في الوقوف بوجه الأطماع الاستعمارية ، ويحمل على مقاومتها ودحض مخطّطاتها ؛ فقد عمد الاستعمار – عندما أدرك ذلك – إلى العمل على صرف توجّهات الناس واهتماماتهم عن المصالح العامة إلى الأمور الخاصة والشؤون الشخصية ، ليشغل كلّ فرد بتحصيل لقمته عن قضايا أمته ، وبالواجب العيني عن الواجب الكفائي ، حتى ضجّت فروض الكفاية تشكو من هذا الداء ، مع قلّة الأكفاء وكثرة الأعداء . وهنا أستحضر قول الأستاذ الراشد (( وما أركس أمة الإسلام اليوم في المحن ولا أضعفها إلا مثل هذا الشعور السلبي ؛ الذي يتبرّأ فيه كل أحد من المسؤولية ويحيلها إلى غيره ، فيكون التقصير من الجميع . ولهذا يكون الذي تتصاعد عنده مشاعر المسؤولية ويرى نفسه أنه هو المخاطب بالواجبات الشرعية دون غيره ، وأنها عليه مثل فرض عين : أكثر ثواباً عند الله ، وكلما زاد تقصير الناس زاد أجره ، حتى ليصير أضعافاً ، ثم البركة الربانية توصله إلى سبعمئة ضعف .
ولهذا ينبغي أن يلجأ الفن التربوي الإسلامي إلى هذا النمط من المخاطبة النفسية ، وإيصال المسلم إلى أن يشعر بأن المسؤولية قد جمعت من أشتاتها وتركّزت عليه ، وأن فروض الكفاية كأنها بالنسبة إليه فروض عين ، فإنه إن بلغ كل مسلم هذا المبلغ من الحساسية ؛ آل أمر الأمة إلى خير وافر .
لقد كان الائتلاف الثلاثي ( أزمة الفكر + الاستبداد + الاستعمار ) وراء القصور في الفهم للواجبات الكفائية وانحسارها عن الحياة العامة ، وعناصر الائتلاف الثلاثة خدمت هذا الغرض عن عمد ، وما أكثر الذين أضروا بمصالح الأمة وهم يحسنون النية والقصد !
لا بد إذن من مراجعة الأسباب التي أفرزت الكثير من الفهم السلبي للواجبات الكفائية ، ثم العمل على تصويب هذا الفهم ؛ فإن عملية النهوض بالعالم الإسلامي من الواقع المرير الذي يعيش فيه ؛ لا تكون إلا بإحياء الواجبات الكفائية ، وبعث أبعادها في عقلياتنا الدينية ، وتفعيلها في حياتنا العملية ، وهي عملية تبدأ من تصحيح الفهم والفقه بالمقاصد واستحضارها ، ليكون إحياء فروض الكفاية سبيلاً للتنمية الشاملة ، ويصبح الدين عامل رقي وتقدّم ؛ مصداقاً لقول الله تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )
وإن لم نفعل ذلك فلن تزداد الأمة إلا ضعفاًُ على ضعف وتخلّفاً على تخلف وهذا ما يدفعني إلى أن أختم حديثي بحرقة على لسان الفيلسوف المسلم محمد إقبال قائلاً في مناجاته :
أسير في طريق ليس له منزل ، البذور التي أنثرها ليس لها محصول
أنا لا أخشى الأحزان ، ولكن لا تعطني حزناً لا يليق بالقلب
أعط الاضطراب للعالم مني ، بدل وغير الأرض والسماء
إقتلع من ترابنا آدماً آخر ، اقتل هذا الإنسان الذي هو عبد للربح والخسارة
إلى متى تبقى نظرتك ممزوجة بالعتاب ، إلى متى تبقى أصنام هذا العصر
وإلى متى يبقى أولاد إبراهيم خدماً للنمرود في بيت الأوثان
ثم أقول متفائلاً
أخرج من الصدر تكبيرك اخلط ترابك بإكسيرك
أمسك ذاتك واستمسك وعش طيباً ولا تدع تقديرك بيد أحد غيرك
لو تأخذ شرارة من نار القلب فإنك تستطيع أن تجعل منها شمساً تحت الفلك .
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .