حدثنا ثقة من إخواننا فقال : تردد عليَّ شاب صغير كان يأتي الدرس مرة ثم يغيب عشراً ، ولم أر مثله في مهارة التعرف على الناس مع نوع من المكر ظاهر ، ثم أصبح شاباً موفور الفتوة ، وسيم القسمات ، وله عينان مثل الرادار لا تكاد تفوتهما فتاة ، وزارني بعد انقطاع شاكياً ما يلقاه من الغيد الحسان ، فنصحته بالزواج السريع ، وخصوصاً أنه ميسور الأحوال ، فقال لكثرة ماطافت عيناه، بأنه لم يجد الفتاة التي يعجبه جمالها ، فأوصيته بتقوى الله وأن يبادر إلى الحلال، فاستمع ومضى، وبعد فترة أخبرني بأنه وجد مبتغاه وقد خطب وتزوج ، فحمدت الله ، وقلت له: بارك الله فيمن دلك عليها ، فقال مستغرباً: ما دلني أحد! وإنما وجدتها بنفسي! وكانت تسير في الطريق ، وما رأيت في حياتي بعد أجمل منها ، فذهبت وكلمتها وأخذت عنوان أهلها ثم زرتهم لوحدي ومع أهلي عدة مرات ثم حصل الزواج! ، فقلت: سبحان الله أهذه طريقة يتزوج بها الإنسان! إن من رحمة الله بك أن يسر لك الأمر، ولم يخرج بك الشيطان إلى مصيبة لا تنجو منها ، فاستغفر الله مما مضى وعاهد الله على على الاستقامة فيما سيأتي! ومضت مدة فاتصل بي وأخبرني على الهاتف أن بينه وبين زوجته خلافات! فهو يريدها أن تستتر قليلاً! وهي تقول : أنا أبقى مثلما أخذتني ، واستيقظت فيه بقية غيرة فأصر ، وأصرت ، وتلاحيا ، ثم تذكر أن له شيخاً قديماً، فطلب منها أن يكون هو الحكم ، وقبلت هي بفطرتها، فلم تكن تعرف ماذا يعني الشيخ ، وبم يقول. قال الأستاذ : وحاولت التنصل فمكر بي ، وأخبرني بأنه قد عجز عن إقناعها وأن لي في ذلك أجراً ، وأنه لا يجد أحداً يصبر عليه مثلما أصبر أنا ، ويجب أن أعتبره مثل ابني وزوجته مثل بنتي ، فهل أرضى أن يبقى حالهما هكذا؟
ووافقت أخيراً وضربت لهم موعداً ، وأتيا ، فلما دخلت مع زوجها ، استغفرت الله ونظرتُ إلى الأرض ، وكنت قد حسبت أنها تلملم نفسها قليلاً ، إذ تأتي إلى منزل شيخ زوجها وأستاذه ، ولكنها لما دخلت أتت كما هي ، ولم تكن امرأة جميلة ، بل لو جمع نصف جمال نساء أهل الأرض ثم ألقي على امرأة واحدة لكانت هي تلك المرأة ، ولا تخالها إلا ملكاً نزل من السماء في حلم بينما أهل الأرض غافلون.
وصرت أستغفر الله في سري ، وأقول يارب : ماالذي أدخلني في هذا الأمر؟ بنت من بنات المسلمين، هبها سترك ورضاك، وجلست وأنا غير مرتاح ، وتكلم زوجها، وتكلمت هي وأنا أنظر إلى غير الجهة التي جلست بها ، وكانت تستهل بأسئلة وأمور توحي بأنها لم تسمع أن هناك في أحكام المسلمين حلالاً أو حراماً. وصرت أستعين بالله ، وأجتهد بإخلاص النية ما استطعت ، وأرجو الله أن يدفع عنها وعن زوجها الأذى ويرزقهما حسن الرجعة إليه ، وصرت أدعو بأن تنتهي أسئلتهما في أقصر وقت، وأجبتهما بما أعرف ، ومزجت الفتوى مع التقوى، والحكم مع الموعظة، وشرحت لهما ما ظننته يقربهما إلى الطاعة وضمن ما يحتملانه من الذكرى. ثم انصرفا .. فتنفستُ الصعداء .. وحدثت نفسي أن لا أدخل في مثل هذا ثانية …
ومرت مدة من الوقت وكنت واقفاً يوماً عند الصندوق بعدما اشتريت أغراضاً من أحد المحلات ، فإذا بشخص يتناول شيئاً من فوق أحد الرفوف يكاد يصدمني فابتعدت عنه ، ونظرت إليه ‘ فإذا بها تلك الأخت التي زارتني قبل مدة مع زوجها ، فدهشتُ أنا وفوجئت هي ، واحترت ثواني فيما أصنع ، وخشيت إن تجاهلتها بالكلية أن تسيء الظن بكل أهل الدين ، وإن كلمتها أن أفتح باباً يفرح الشيطان به ، وظننت أن الناس كلهم ينظرون إليَّ وإليها ، أنا بلحيتي ولباسي ، وهي بسفورها وتبذلها ، ثم اتخذت قراراً وأطرقت إلى الأرض قائلاً : السلام عليك يا أختي ، كيف أحوالكم ، أرجو أن تكونوا بخير، وسلمي على زوجك .. السلام عليكم .. وانصرفت، وفم صاحب الصندوق مفتوح من الدهشة، وخرجت وأنا أحس بألم شديد لحالها ، وأدعو على من يجعل بنات المسلمين هكذا نهبى لكل عين شرود ، وترقرقرت دمعة على خدي شفقة عليها وحيرة مما يلزم لإصلاح مثل تلك الأحوال.
في اليوم التالي اتصل زوجها بالهاتف وقال بدهشة واستغراب شديدين: ماالذي قلته لزوجتي البارحة؟ وسقط قلبي من الحيرة والاندهاش! أستغفر الله أن أكون قد قلت مالا ينبغي قوله! لعلها ماكرة أو ساذجة أو توهمت شيئاً لم أقله، ومرت ثوانٍ كأنها دهر ريثما أردف زوجها قائلاً : هل تعلم أنها لم تنم البارحة وبقيت تبكي طوال الليل بسببك! فاستعذت بالله ، وخفت حقيقة وقبل أن أتكلم تابع حديثه: لقد قالت لي زوجتي : عندما وضع أستاذك بصره في الأرض وكلمني ، شعرت لأول مرة في حياتي أنني أعصي الله ، ولا أدري كيف عدت إلى البيت وكأنني لست تلك الفتاة الفاتنة التي تسر كلما تسمرت الأبصار تنظر إلى فتنتها الخارقة وجمالها الأخاذ ، وفي البيت أحسست بكل الغفلة التي كنت فيها ، ومن دون أن أدري صرت أبكي بحرقة وكلي حياء من الله على ما مضى.
قال الأستاذ : وكاد يتوقف قلبي من الفرح بعدما كاد يتوقف من الخوف ، وصرت أتمتم : الحمد لله .. الحمد لله ، ثم لم أعد أستطيع الكلام فأغلقت الهاتف ، و بدأت أنا أبكي ثم علا مني النشيج.
قال الأستاذ : مرت على تلك الحادثة حوالي ثلاث عشرة سنة ، ولم أر تلك الأخت من يومها ، وقد أخبرني زوجها أنها مع الأيام التزمت بشرع الله ، وحافظت على ما أمر الله به من اللباس والعبادة فضلاً عما أكرمها الله به من خلق نادر وكريم. لا أدري إن أصبت أو أخطأت في اجتهادي لكنني أشعر بنعمة الله علي كلما تذكرت تلك الحادثة ، ومن أعماق قلبي أسأل الله لكل أخ وأخت تمام الهداية والرحمة والثبات.
صاغها عن قصة حقيقية في الأصل : أحمد معاذ الخطيب الحسني