ننسي كثيراً أن الدولة الحديثة التي يسمونها الدولة القومية وأحياناً الدولة القطرية هي ماكينة وجهاز وآلة لتسيير السياسة وتوزيع الموارد وإدارة عجلة المجتمع هي اختراع حديث جداً عمره أقل من أربعمائة عام، وأن الوعود التي قدمتها من تحقيق الأمن وتوزيع الثروة وإطلاق طاقة الأفراد وحماية الحريات لم يتحقق منها شيء في تجربتنا معها أثناء وبعد الاستعمار، هذا الاستعمار الذي فتح أبوب الحارات ودخل بالخيل المساجد وتحدث بلسان التنوير لكنه حكم بدَوِيّ المدافع وتعليق المشانق وهيمنة القوة. وعود الدولة الحديثة أخفقت، حتي إن النظريات الحديثة للدولة في العالم النامي تسميها الدولة الفاشلة أي التي أخفقت في القيام بالأدوار المرسومة للدولة في النظريات.
باختصار شديد باع لنا الاستعمار آلة هي النظام السياسي للدولة القومية الحديثة أو بمعني أدق «الحداثية». بني لنا حدودها ووضح لنا معالمها بل وساعدنا علي بناء مؤسساتها، وقال: أديروها وهي ستعمل بكفاءة واتبعوا تعليمات التشغيل ولو احتجتم أي مساعدة سأساعدكم، لكن الآلة تسليم مفتاح، ونحن لا نعلم عن تاريخ اختراعها شيئاً، وربما كان يمكن أن نخترع نحن آلة أبسط لكنها أكثر كفاءة لأنها تناسب مجتمعنا وظروفنا ولسنا في حاجة لكل هذا التعقيد، بل إن كثيراً من الوظائف التي يمكن أن تقوم بها الآلة لا تلزمنا أصلاً، فالدولة هي الآلة وهي شكلها لطيف وشيك وأجهزتها معقدة ونحن اشترينا ودفعنا ويجب أن نظل نردد أنه كان لا بد من تطوير الأدوات كي نخفف وطأة شعورنا الدفين بالمقلب والكارثة، لكن تلك الآلة ستبقي كما وصفها برتران بادي عالم السياسة الفرنسي: «دولة مستوردة ذات روح غربية». الغريب أننا لم نعاد في تاريخنا المعاصر كعرب وإسلاميين الحداثة الغربية إلا في فصلها بين الدين والدولة، وقامت المعارك الطاحنة حول العلمانية والإسلام، ولما تفتق ذهن المفكرين الإسلاميين عن حل هو أسلمة تلك الكارثة المسماة دولة حديثة وتلبستهم فكرة الدولة الإسلامية كان هذا في الحقيقة - بمعيارمقاصد الإسلام- أم الكوارث، ليس لأن الإسلام ليست له نظرية في السلطة والقوة والشرعية والإدارة السياسية، بل له نظرية ورؤى وتراث فكري محترم وغني جداً.. بل لأن أي صيغة سياسية للحكم تحقق مقاصد الإسلام من عدل ومساواة وتبادل لكرسي الحكم ومساءلة وشفافية ومواطنة لا يمكن أن تكون عبر هذه الدولة القطرية القومية الحديثة الكارثة تحديداً بأي حال من الأحوال البتة.
لقد كان الركن الركين والعمود الأساس في مشروع الحداثة هو العقلانية النفعية و السيطرة علي الطبيعة وعلي المجتمعات، وكانت الدولة هي أداة تحقيق التصورات الفلسفية من فردية وعقلانية مادية وتحول اقتصاد للسوق الحرة وتحول اجتماعي للمدن الصناعية. هي بعينها الدولة القومية وهي بسلطتها المتحكمة في المجال العام والمجالات السياسية والاقتصادية ومهارتها التاريخية في اكتساح المجال الاجتماعي وتدمير كل ما هو إنساني وتراحمي لإحكام السيطرة عليه بالقانون واحتكار استخدام القوة بتأسيس الجيوش النظامية ونزع أسنان وأظافر المجتمع والناس بزعم أن المجتمع المدني يجب ألا يكون مسلحاً وأن الدولة سـتأخذ السلاح وتقوم هي بحمايته وتتفاوض مع الناس في مصالحهم، لكن الواقع أن الدولة نزعت السلاح ولم تحقق للناس الحماية بل وجهت السلاح لصدورهم وأحياناً لظهورهم حين حاولوا استرداد حقوقهم وفتح أفواههم، وأهدرت مصالحهم القومية بل والإنسانية الأساسية. هذه الدولة هي ما أعنيه وليس النظام السياسي فقط، تلك الفكرة بخصائصها الحديثة وهذه الآلة بشكلها الواقعي..الواقعي جداً.. هي المشكلة، والنظم فهمت هذا واستغلته أسوأ استغلال وما زلنا نحن نسيء الظن بالنظم ونحسن الظن بالدولة الحديثة. ومهم أن نفهم أن مصر دولة قديمة وتاريخية ولم تصنعها تلك الدولة الأخرى الحديثة.
سحبت الدولة وظائف المجتمع.. الدفاع والتعليم والرعاية الصحية والإسكان، وغيرها، فأصاب الضمور عضلات المجتمع التربوية والتراحمية والتعاضدية والتكافلية، وأخفقت الدولة إخفاقاً مذهلاً، راجع تقارير التعليم والصحة في أمريكا وأوروبا (لا حاجة لقراءة تقارير التعليم والصحة المصرية.. الأمر لا يحتاج ذلك أصلاً). لقد صار التفكير بـ «منطق الدولة» هو الأصل، فالدولة لم تهيمن فقط علي المساحات لتأمين السوق بالأساس، بل هيمنت علي تصوراتنا عن السياسة فأضحت منهاجية للتفكير، لذلك برزت فكرة الدولة الإسلامية في الخطاب الإسلامي، ونحن لسنا ضد فكرة علاقة الدين بالدولة من حيث الرعاية والحاكمية بالمعني الإسلامي -الشورِي- لكننا بحسم ضد أن تتحول الدولة لمنطق سائد في التفكير السياسي يطغى ويهيمن، فتكون لدينا تلال من المؤلفات عن الدولة الإسلامية حكماً وسلطات ولا يكون لدينا إلا النذر اليسير عن المواطن في دار الإسلام وحقوقه، والمجتمع في ظل حكم الإسلام: فاعليته واستقلاله ومساحاته محرم علي الدولة أن تقترب منها. آن الأوان أن يفتح ملف التجديد السياسي (وليس التجديد الديني فقط) لنعيد النظر في كوارثنا من منطلق الحاجة لآلة مختلفة للسياسة (وليس نظاماً أو حكومة مختلفة فقط)، دولة أخري في بنيانها وفلسفتها وأدوارها ومساحاتها تحقق وظائف الحماية والرعاية والعدل، لكن تكون أكثر كفاءة.. وأقل ضرراً وضوضاء! الأمم تأخذ مئات السنوات في تطوير أفكارها ثم تحولها لأشكال، ونحن لا وقت لدينا، فقد تجاوزنا الوقت بل تجاوزنا التاريخ. ربما لم يبق لنا سوي قليل من الجغرافيا التي نأمل في الحفاظ عليها، والله المستعان.
http://dostor.org/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=15732&Itemid=31&mosmsg