عنوان المقال الأصلي : هو البحث عن الدكتورة “ن” ، ولكننا فضلنا تسميته : “جريمة اختفاء الدكتورة “ن” فليست الحكومات الظالمة هي الجهات الوحيدة التي يختفي المواطنون في سجونها ، بل هناك آخرون يدمرون من الحياة ما عجزت عنه الأنظمة الاستبدادية.
من أين تنبت العدالة في مصر إذا لم نروها في البيوت؟ وكيف نتطلع للتغيير الحقيقي ونحن أول أعدائه، وكيف نطالب بتطبيق الشرع والدين ونحن أول مخالفيه، وكيف نشكو من تراجع الأخلاق ونحن نتواطأ علي هدر كل قيمة نبيلة بصمت غريب وتخاذل عجيب غير مبرر ولا مفهوم.. ونخشي الناس ولا نخشي الله.. وكيف وكيف وكيف؟
ما زالت ضحكتها في أذني، هذا الصوت القوي وتلك الشخصية المرحة وهذا العقل الراجح.
تعارفنا منذ قرابة عام، وتقاربنا رغم أنها تقيم في الصعيد وأنا من أهل القاهرة. اتصلت بي لتكتب في تقرير دوري جزءاً عن الحالة الصحية..وبدأ التعاون.
مع الأيام تطورت الصداقة وعلمت أنها تتعرض للضرب والإهانة من زوجها منذ سنوات، وآلمني أنه من أصحاب الخطاب الديني الذين يتحركون في المجال العام بشكل منظم. الإهانات المتكررة تتعرض لها أمام أبناء تتراوح أعمارهم بين طلبة الجامعة وطلبة الابتدائي..بل ويتم التعدي عليها بالقول في مكان العمل أحياناً أمام الزملاء، رغم أنها تحترم زوجها بل تأخرت عمداً في الحصول علي الدكتوراه كي لا تتخطاه..لأنهما في التخصص نفسه.
حدثتني عن الأحلام البريئة حين قبلته زوجاً، عن مشاعر الحب التي ملأت قلبها نحوه، والآمال الكبري عن إصلاح المجتمع وتأسيس أسرة تنهض بالأمة، وكيف ذهبت هذه كلها مع الريح. ما أسهل أن نتحدث عن نهضة الأمة دون أن نغير طباعنا، وأن نرفع شعارات الحل لإقامة دولة لكن إقامة العدل والإحسان في داخل بيوتنا أصعب، حدثتني عن التفاصيل البسيطة..وما الحياة الزوجية إلا مجموعة من التفاصيل البسيطة.
شكت لي كثيراً وأنا أنصت حزينة علي حال مجتمع يشكو ظلم حكامه ونخبته وهو أكثر ظلماً لنفسه وسكوتاً عن الحقوق، تشكو في مرارة وأنا أنصحها بالمصارحة والكلام، فالكلام لا بديل له سوي صمت قاتل.. أو عنف بالغ، ثم كان نصحي مع تطور الأحداث بتدخل الأهل للإصلاح.
لكن العمر يمضي، والكيل يفيض، والزوج لا يقيم وزناً لمكانتها الإنسانية والزوجية والعلمية بل والاجتماعية، فهي ليست ابنة بيئة اعتاد أهلها علي تلك الخشونة فوالدها طبيب وكذلك والدتها، ومكانتهما الاجتماعية معلومة، والأولاد تكبر، وآثار الضرب علي وجهها تظهر فتبررها كل مرة أمام الصديقات والزملاء في الجامعة بأنها اصطدمت بالباب(!).
الدكتورة «ن» اعترضت وطلبت الانفصال ..لكنه تمادي، التمست النصرة من الأهل فنصحوها بالاستمرار حتي لا تهدم البيت،..ونظرت لأبنائها فوجدت كل واحد منهم مشغولاً بصورته أمام دائرة أصدقائه و«سمعته» لو صارت أمه «مطلقة» وطالبوها -كلهم- بالصبر، واستغاثت بمن يرفعون الشعارات الكبري من أصدقاء وزملاء زوجها الأكبر سناً والأعلي مقاماً منها فتحدثوا عن أولوية استقرار البيت، وهي تكرر بإصرار طلبها المشروع والشرعي: «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان»..لكن التفاوض الودي لم يثمر إلا المزيد من الإهانة فالتمست المشورة القانونية وبدأت- وحدها- تتصل بالمحامين في مدينتها وفي القاهرة. تعثر التفاوض مع الزوج وأهله، وخذلها الأبناء، وتراجع أهلها، وهي تتألم، لكن لا تتخلف عن أداء مسئولياتها ولا عن القيام بعملها بل وتتابع وتتحرك وتنشط في حملات العمل الاجتماعي لخدمة الفقراء من المرضي وتوعية النساء.. رغم أعبائها وأزمتها.
كانت الدكتورة «ن» في آخر مكالمة معي قد شكت لي أن زوجها الآن يتحدث عنها أمام الناس باعتبارها «أصابها مس من الشيطان أو حالة نفسية»، وأشعرني هذا بالخطر المقبل، فما أسهل أن يتم تشويه سمعة امرأة حين يكون من يفعل ذلك هو الزوج.. رافعاً شعار حرصه -هو- علي الحفاظ علي البيت.
وفجأة..
اختفت الدكتورة «ن»!
لا ترد علي الهاتف، ولا تتصل.
ثم وصلت رسائل للمحيطين بها تطلب منهم عدم الاتصال بها «حتي لا يحل عليهم غضب الله والناس»، ثم أصبح الهاتف مغلقاً.
سأل من يعرفونها من المحيطين عنها فجاءت الإجابات متضاربة، قالت الأم هي في زيارة لخالتها في محافظة أخري، وقال الابن لبعض الناس إنها تعاني من أعراض أشبه بالتوحد فتم عزلها عن الناس -وهي التي لم تكف عن الكلام والتواصل والحركة منذ عرفتها-، وبادر الزوج بالاتصال بآخرين قائلاً بحزم: «زوجتي حالتها النفسية متوترة فلا تحاولوا الاتصال بها..وإلا!».
سأل بعض معارفها الذين بدأوا يشعرون بمسئوليتهم أمام الله خبراء من أهل القانون فقالوا لا يمكن تحريك أي بلاغ إلا «من ذي صفة»، وهي لا يوجد حولها من أهل الصفة من يريد أن ينصرها، وحيدة هي الدكتورة «ن» تطلب العدالة، فكان جزاؤها أن تتهم بأنها «ليست في حالة طبيعية»..أما كل هؤلاء فأصحاء..لأن هدفهم الأسمي أن يحافظوا علي الأسرة….بهذا الثمن..لا بإمساك بمعروف..ولا بتسريح بإحسان..بل بهذا الذي يجري..ويبدو أن الأمر صار أكبر من حالة الدكتورة«ن»، صار مبدأ..ومذهباً..و«سمعة جماعة».
بلغني الخبر من عشرات المكالمات والرسائل، الكل يسأل ويتعجب، بل بدأ البعض في الإعداد لحملة علي الإنترنت للبحث عن الدكتورة «ن»..تدعو أن يشارك أي أحد يعرف معلومة منها أو عنها بما يعرف.
أنا لا أعلم أين هي الآن الدكتورة «ن» ..وخشيت أن أسأل فأنا «غير ذي صفة»، و«أصحاب الصفات» الحقيقيون يديرون الآن حياة امرأة تجاوزت الأربعين عاقلة طبيبة ملتزمة ناشطة.. ويهددون من يحاول الاقتراب منها أو السؤال عنها، أما هي فغائبة..لا يدري أحد خارج أسرتها أين مكانها ولا يعرف كيف يصل إليها.
كل ما أملكه وفاء لصداقتنا هو أن أكتب قصتها..قصة تلك المرأة الرائعة التي كانت تملأ الدنيا بزخم مشاعرها وحركتها وتمنح أبناءها ومرضاها ومن حولها وكل من عرفوها الطاقة والقوة والقدوة والعون..وناصرت أهل الحاجة والكرب لكن أحداً لم يناصرها حين طالبت أن يكون لها في بيتها قليل من الكرامة..أو حياة أكثر عدالة.
لا أحد!
ادعوا معي للدكتورة «ن» أن تعود من.. «مخبئها»، ادعو الله لها أن يفرج كربها..الذي هو كرب مصر.
http://dostor.org/ar/content/view/19143/31/
05/04/2009
*الأستاذة الدكتورة هبة رؤوف عزة ، مفكرة إسلامية ورائدة من رائدات الحركة الإسلامية النسائية ، وأستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة.