بسم الله الرحمن الرحيم
مقال للأستاذ الدكتور أحمد السعدي حفظه الله
الشبهة بين العقيدة والشريعة والأخلاق
من أحاديث الأربعين ، والتي اختارها الإمام النووي رحمه الله ، راسمة لمعالم الإسلام العامة ، مما قال عنه العلماء إنه يشكل المرجعية التي يدور حولها التشريع _مدار الإسلام_ ، حديثُ الشيخين المشهور ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما : الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن، وبينهما مشبَّهات .
وأهمية الحديث عن هذا الحديث الجامع ، من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي عليها مدار الإسلام ، تكمن في إحياء أثره مرَّة أخرى في حياة المسلمين ، بعد أن اعتبره بعض المسلمين حديثاً ضعُفَ أثره في الواقع من جانب ، وفي الخطاب الإسلامي المعاصر من جانب آخر ، بحجَّة تقصير المسلمين في معالم الحلال والحرام البيِّنة ، بل تخلخل معاقد الإيمان في قلوبهم ، فما الحديث عن الشبهات أمام هذا الواقع ، وأين مكانه في خطابٍ يتناسب معه؟!!
والحقيقة أنَّ الحديث مازال ذا تأثير في الصورة العامة التي ينبغي أن يرسمها المسلم لدينه ، ومنهجِهِ في الحياة بناء عليه ، فإذا فُقِدَ هذا التأثير في الواقع ، فوجوده في الصورة المرسومة دليل على وجوب إحيائه في الحياة ، قبل زواله من الصورة النفسية ، وبالتالي تعطيل جانب مهمٍّ من جوانب الشرع ، ممَّا عليه يُدار ، وهذا في اعتقادي هو تجديد الدين ، وهو إحياء سنّةٍ أماتها الناس . فتجديد الدين إنما هو إحياؤه في الواقع قبل أن يذبل في النفوس ، وهو إعادة المسلمين إلى دينهم ، وإعادة دينهم إليهم ، عبر إيقاظ صوره النائمة في نفوسهم لتنعكس حياة في واقعهم .
وقد أوقع الفهم القاصر للحديث ، كثيراً من الناس في التقليل من أهميته في واقعنا ، حين ظنوا أنَّ الحلال والحرام ينحصر في الأبواب الفقهية بين صلاة وزكاة وحجاب وإرث ، ونسوا أن الفقه ليس كلَّ الدين ، بل هو الجانب العملي من الشريعة وفق اجتهاد الفقهاء وجهود البشر في فهمهم لحقيقة دينهم . والصواب أنَّ الحلال والحرام واقع في معالم الدين عقيدة وشريعة وأخلاقاً ، ولذا تدخل الشبه في هذه المعالم على اختلافها ، والنهي عن الوقوع في الشبهات نهي عن الجرأة عليها في الاعتقاد والسلوك بل والنية . فالإيمان بِعِظَمِ الله واجب ، والقول بِعَجْزِهِ مُنْكَر ، وهذا وذاك من الظهور والوضوح بحيث لا يجهله مسلم ، لكنَّ الخوض في آلية كلامه سبحانه هو بمنزلة الوسط المشكل بين وضوح الطرفين ، وما أحرانا اليوم أن ندعو المسلمين للاهتمام بالبيِّن ، والحذر من المشبَّهات . وفي الشريعة : الكلُّ يعلم أنَّ سفورَ النساء معصية وسَتْرَهُنَّ واجب ، وثَمَّ خلاف في التفاصيل ، وحين تجد المرأة نفسها اليوم ، أمام ريبةٍ فيمن حولها ، يجب عليها أن تختار مما يطمئن إليه قلبها من الواجِبِ السِّتْرَ ، اتقاء للشبهة . وهذا الأمر يرى الناس اليوم نتيجة الاستمرار في العمل بالرخص فيما يتعلق به ، مع الإعراض عن التوصية باتقاء الشبهات .
أما في الجانب الأخلاقي ، وفي العلاقات الاجتماعية ، فإحياء هذا الحديث اليوم ، هو أعظم ما يتقرب به الواعظ إلى ربه فيما أتصور . تحكيم قانون هذا الحديث في التطبيقات الأخلاقية وفي تعاملات الناس ، والاستفادة من إشاراته الواضحة في تفصيلاتها ، تحيي في الأمّة ، جانباً افتقدت كثيراً من آثاره في حياتها ، حتى غدت المحاكم الإسلامية تزدحم ازدحاماً يعجز القضاة معه عن البت في مشكلاتها لعدة سنوات ؛ لأنَّ المسلمين افتقدوا ميزان مراعاة الوسط الغامض ، إن صح التعبير .
إذا كان بناء الإسلام هو الأخلاق ، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، والصلاة والزكاة….. أركان وأسس يرتفع عليها البناء ، فلا يقوم البناء دون أساساته ، لكنه شيء آخر غير أساساته ، إنه الأخلاق ، فإذا كانت رسالة الإسلام هي الأخلاق ، كان الحلال في الأخلاق ، والحرام فيها ، هي معالم الإسلام على الحقيقة ، إقداماً وإحجاماً ، وكان الوسط الغامض فيها ، هو أوسع تطبيق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “وبينهما مشبَّهات”، وإذا حاول الدعاة من جديد ، إحياء ميزان هذا الحديث ، في الوسط المشكل من الأخلاق ، أعاد للأمة تاريخها المضيء الذي ننشده ونتغنى به ليل نهار .
يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكم مرة باجتهاد يخالف اجتهاد الخليفة الصديق ، فجاء رجل ممن يريد الاصطياد في الماء العكر ، وقال للصديق ، من الخليفة ؟ أنت أم عمر ؟ فأجابه الصديق : هو إن أراد . لقد فهم الصديق مقصد هذا الرجل ، واجتنب الشبهة التي أراد إثارتها . وأنهى مشكلة كان يبغيها ويتوخاها .
الرجل يعلم وجوب النفقة عليه ، والمرأة تعلم وجوب حفظ الرجل في ماله وبيته ، وبين ما يعلم كلا الزوجين حِلَّه أو تحريمه ، مشكلات ، يرتاب منها قلب كلٍّ منهما ، فبدل أن تكون الجسارة في هذا الموطن ، وتسبِّب هذه الجسارة في الأعم الأغلب خلافات ، قد يكون أقلَّ خسارةٍ فيها انحلالُ عقد الأسرة المسلمة ، ليكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حَكَماً ، فمن رعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، وفي الحديث الآخر : ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ” .
وكسْرُ لَبِناتٍ من حائط مشترك بين جارين ، حرام بيِّن ، وحديث الرجل بصوت منخفض مع أهله دون إزعاج جاره حلال بيِّن ، وبين هذا الحلال البيِّن ، وذاك الحرام البيِّن تصرفات للجيران تشكُّ قلوبهم في نتائجها على العلاقة الجوارية ، التي قال فيها الحبيب الأعظم في حديث متواترٍ نصَّ الذهبيُّ وغيرُهُ على تواتره : ” مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنَّه سيورثه ” . ولو أنهم اجتنبوا هذه التصرفات ، اتقاء للشبهات ، لبقيت العلاقة الجوارية كما أرادها الإسلام .
وما أحوجنا اليوم لأن نحييَ في الناس اتقاء الشبهات في العقيدة والشريعة والأخلاق ، وأن نستدرك أنفسنا من خطر قادم ، فمعظم النار من مستصغر الشرر ، وللحديث تفصيل ليس هذا مكانه ، والمتكلمون فيه كثر . والله أعلم .
أحمد السعدي
دمشق 9/ 4 / 2009