1-مؤسسة الزكاة: ما يزال دور مؤسسة الزكاة غير واضح المعالم حتى عند كثرة من المسلمين ، وتكاد الزكاة تقترن نظريا وعمليا بموضوع التسول ، وكل ذلك غمط لدورها العظيم ، ويمكن القول وبثقة كاملة أنه لم يوجد على ظهر الأرض حتى اليوم نظام تضامني مدهش يمكن أن يشابه الزكاة ، فالزكاة “نظام جديد فريد في تاريخ الإنسانية … هي نظام مالي واقتصادي واجتماعي وسياسي وخلقي وديني معا”[1]. “لقد سدت الزكاة كل ما يتصور من أنواع الحاجات ، الناشئة عن العجز الفردي أو الخلل الاجتماعي ، أو الظروف العارضة التي لا يسلم من تأثيرها بشر ، ونحن نقرأ فيما كتبه الإمام الزهري لعمر بن عبد العزيز عن مواضع السُّنَّةِ في الزكاة: أن فيها نصيبا للزمنى والمقعدين ، ونصيبا لكل مسكين به عاهة لا يستطيع عيلة ولا تقلبا في الأرض ، ونصيبا للمساكين الذين يسألون ويستطعمون (حتى يأخذوا كفايتهم ولا يحتاجوا بعدها إلى السؤال) ، ونصيبا لمن في السجون من أهل الإسلام ، ممن ليس له أحد ، ونصيبا لمن يحضر المساجد من المساكين الذين لا عطاء لهم ولا سهم (ليس لهم رواتب ولا معاشات منتظمة) ولا يسألون الناس ، ونصيبا لمن أصابه فقر وعليه دين ولم يكن شيء منه في معصية الله ، ولا يُتهم في دِينه ، أو قال في دَينه ، ونصيبا لكل مسافر ليس له مأوى ، ولا أهل يأوي إليهم [فيؤوى][2]ويطعم وتعلف دابته حتى يجد منزلا أو يقضي حاجته”[3].
ورغم التعريض بنظام الزكاة ممن لم يفهموه ، فإن “مقدار 2.5% من أصل رأس المال يشكل دخلا محترما في مجتمع يسوده النشاط التجاري والتنمية المستمرة للثروة … ومن هنا يمكن أن نتصور مقدار الدخل الذي ستجنيه الدولة من هذا المورد ، ونتوقع النتيجة المحتمة لرفع مستوى الطبقات الفقيرة ، ومنها قيمة شرائية تؤثر بدورها على الدورة العامة لنمو الدخل القومي في الدولة الإسلامية ، وسيؤدي هذا … إلى نشر الرفاهية ، وارتفاع مستوى المعيشة ، وانعدام الفقر ، ومن ثم إلى إنماء الدولة الإسلامية”[4]
إن الزكاة نظام ضمان رباني شامل ، ولكن الثمار الطيبة لا تأتي إلا من أصل سليم ، والضمان الإسلامي الكامل لا يتحقق إلا في مجتمع إسلامي ، يعيش الإسلام كله ، ولا يتحاكم إلا إليه ، وفي كل الأمور.
2-الأوقاف الإسلامية: تألقت المجتمعات المسلمة بنظام الوقف ، وبه سدت ثغرات اجتماعية وتعليمية هائلة ، فالأوقاف الإسلامية وظفت استثمارات ضخمة[5] ومستمرة ، تمد المجتمع بكل احتياجاته ، ومن أمثلة ذلك ما ذكره ابن بطوطة في رحلته من أن: “الأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها ؛ فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج ، يعطى لمن يحج عن الرجل منهم كفايته ، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن ، وهي [للواتي][6] لاقدرة لأهلهن على تجهيزهن ، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى ، ومنها أوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم ، ومنها أوقاف على تعديل الطريق ورصفها … ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير”[7].
3-الأعمال الخيرية الطوعية: : يتميز المجتمع المسلم بنظرته إلى المال ، حيث يعتبر الإنسان مستخلفا عليه لا مالكا حقيقيا له ، وبالتالي فإن قيام الإنسان بدفع حصة من ماله إلى الدولة (مهما كان اسم تلك الحصة) ، وإخراجه للزكاة ؛ وأدائه لكل الواجبات (القانونية) ؛كل ذلك لا يعفيه من الحرج الذي يحسه في نفسه عند وجود ضرورات في المجتمع ، فيسارع إلى البذل والعطاء ، وبشكل طوعي بسبب بنية إيمانية-نفسية ، رُبي عليها ، ومما ساهم في تكوينها التربية النبوية الكريمة ، حيث يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : “من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له”[8] ؛ لأن في المال حقا سوى الزكاة ، وهذا أدى إلى أنواع عجيبة من البذل ؛ فالإمام الليث بن سعد ، لم تجب عليه زكاة رغم كثرة ماله[9] ، لما كان ينفقه ذات اليمين وذات الشمال ، وقد كان أناس بالمدينة المنورة يعيشون ولا يدرون من أين يعيشون[10] واتسع البذل حتى وجدت بحبوحة عظيمة بحيث أن “كل من انقطع بجهة من جهات دمشق لا بد أن يتأتى له وجه من المعاش…”[11]، بل إن الدولة المسلمة أوجدت بحبوحة كبيرة ؛ لم تلجأ إليها بسبب ثورة مضادة ، ولا تنفيسا لضغط الشعوب ، ولا إلهاء للرأي العام ، بل انسجاما مع روح الإسلام ، وعدله ، ونظامه التضامني الفريد ، ويبقى هناك سؤال مهم ، وهو أن كثرة من المجتمعات تقوم بأعمال طوعية وخيرية ، فما هو وجه تفرد الإسلام ، والجواب: إن تلك المجتمعات تفعل الخير التطوعي في أوقات اليسار ، وتبذل من الفائض لديها ، وبعد أن يأخذ الأفراد المتطوعون كفايتهم ، أما التربية الإسلامية فقد غرست في أبنائها البذل لا في وقت اليسار فحسب ، بل في وقت العسر والفاقة ، وفي مختلف المحن وتحت شتى أنواع الضغوط ، ومن صفات المتقين أنهم ]الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون[ [12]، ]ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة[[13]، بل إن من علامات الانتماء الصحيح إلى الإسلام تلك المشاعر التضامنية الحاضرة دائما ؛ كما في الصحيح: ”إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة ؛ جمعوا ماكان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية ، فهم مني وأنا منهم”[14]
4-الخزانة العامة: تعتبر الخزانة العامة في النظام الإسلامي ملكا للأمة كلها ، وليست ملكا للحاكم ، ومحاسبة العلماء للحكام على التصرف بالأموال العامة أمر يندر في أمم الأرض مثله ، وبالتالي فإن الواردات العامة للدولة ، هي أحد الأرصدة المهمة ، التي ينفق منها من أجل سد حاجات الضمان الاجتماعي ، ومما كتبه القاضي أبو يوسف لهارون الرشيد: “وكل رجل تصيره في عمل المسلمين فأجر عليه من بيت مالهم … وكل ما رأيتَ أن الله تعالى يُصلح به أمر الرعية فافعله ولاتؤخره”[15].
وللحديث بقية بعنوان : من الضمانات التي قدمها النظام الإسلامي لأفراده
أحمد معاذ الخطيب الحسني
الخميس 6 صفر الخير 1431هـ/ 21 كانون الثاني 2010م
[1] - يوسف القرضاوي ، فقه الزكاة ، مرجع سابق ، 2،1121.
[2] - في كتاب فقه الزكاة: فيؤدي
[3] - يوسف القرضاوي ، فقه الزكاة ، مرجع سابق ، 881. وقد ساق القرضاوي النص بتصرف ، وانظر الأصل عند:
- أبو عبيد ، الأموال ، مرجع سابق ، 578ـ580.
[4] - عماد الدين خليل ، ملامح الانقلاب الاسلامي ، مرجع سابق ، 135.
[5] - انظر على سبيل المثال الاستثمارات المالية والتجارية لأوقاف دمشق في كتاب:
- عبد القادر بدران ، منادمة الأطلال ، مرجع سابق.
[6] - في الأصل: وهي اللواتي.
[7] - محمد بن عبد الله الطنجي ، ابن بطوطة (779هـ/1377م) ، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ، القاهرة ، المطبعة الأزهرية ، (1346/1928) ، 1، 63.
[8] - مسلم ، كتاب الصحيح ، مرجع سابق ، كتاب اللقطة (21) ، باب استحباب المواساة بفضول المال (4) ، 5 ، 138.
[9] - يوسف القرضاوي ، مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام ، طبعة جديدة ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1406هـ/1985م ، 133
[10] - عبد الله ناصح علوان ، التكافل الاجتماعي في الإسلام ، ط5 ، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع ، حلب- بيروت ، 1403/1983، 102.
[11] - ابن بطوطة ، تحفة النظار ، مرجع سابق ،1، 63.
[12] - البقرة ، 3.
[13] - الحشر ، 9.
[14] - ابن حجر العسقلاني ، فتح الباري ، مرجع سابق ، كتاب الشركة (47) ، باب الشركة في الطعام (1) الحديث (2486) ، 5 ، 153.
[15] - أبو يوسف ، الخراج ، مرجع سابق ، 186ـ187.