جمعية التمدن الإسلامي في دمشق الشام تسلم بقضاء الله وفاة أحد عظمائها وكبار رجالها شيخ المحققين:
العلامة الدكتورصلاح الدين المنجد رحمه الله
(1334هـ/1920م – 1431هـ/2010م)
قدر دمشق أنها مبتلاة بعشق سرمدي واغتراب مرير، تشتاق أبناءها وبناتها، وتتجلد أمام أقرانها، فإذا أقبل المساء فتحت دفاترها، ومرت على طيف كل منهم، فهي لا تنساهم أبداً، تعرفهم فرداً فرداً، ونقشت في قلبها أسماءهم اسماً اسماً، وأحاطت بذكرى كل واحد منهم فلة وياسمينة وزهرة نارنج وعطر ليمونة، تسمر على أحاديثهم وقصصهم وأخبارهم، ولا تمل من ذكرهم كل يوم ألف ألف مرة.
مسكونة دمشق بحب أبنائها وبناتها، ومازالت تذكر شغب الصبيان منهم، ولعب البنات وضفائرهن تتراقص على رؤوسهن. وأصواتهم العذبة تملأ حاراتها وكل زقاق فيها.
دمشق ماكان من طبعها إلا أن تشمخ باسمة في وجه الجراح ونوائب الزمان، وتطوي في قلبها سر العشق الذي لا يعرفه إلا الدمشقي الأصيل، وتتبادل رسائل الأرواح مع فلذات أكبادها، وتعاتبهم، وتفرح لهم وتبكي معهم، ولا تبوح بأحزانها إلا بين أيديهم.
وعندما تتهادى نسائم الفجر وتتعانق مع أصوات التكبير السارية من المآذن الشامخة، تقوم دمشق الأصيلة إلى المحراب تستلهم من إيمانها القوة والعزيمة، ثم تكفكف دمعها وتطوي لوعتها على أبنائها، وتتعاهد مع كل قبة ومئذنة، وحارة وزقاق، وليمونة وياسمينة، على أن لا يبوح أحد بسر اللوعة والعشق الأبدي الذي خصت به الشام.
ولكن في بعض الأحيان لا تستطيع دمشق أن تحبس عبراتها، فتجهش بالبكاء وخصوصاً إذا تتابعت اللوعات، وكثر غياب الأبناء والبنات البررة ..
منذ أسابيع رحل فلذة من فلذات الشام وأعيانها(الأستاذ القاضي فيصل العظمة) ثم الداعية الفاضلة أسامة الطباع (أم مصطفى) ، والصالحة الصابرة (هند قطب) فالمربية القديرة (بشرى قطب) ثم غادة ابنة القائد العظيم عارف التوام، وبعدهم شيخ الأطباء موفق المالكي وإمام المحققين صلاح الدين المنجد… وغيرهم ممن لا يأتي الزمان بمثلهم، ولم تطق دمشق كل ذلك فجرى دمعها غزيراً وانسكبت عبراتها فاشتبكت مع عبرات أبنائها، وخالفت عهدها في الكتمان فجهرت ثم أجهشت بالبكاء لكثرة الغيّاب من أبنائها وكلهم حبيب وقريب وعزيز وفي قلبها لكل منهم ديوان حب ووفاء سطرت فيه المكارم والمروءات.
واليوم نرويها عن دمشق، قصة فلذة من فلذاتها، وابن كتب في حبها مالم يكتبه أحد في مدينة أخرى، وسطر لأجلها آلاف الصفحات والمآثر، كما كتب بقية أبنائها، كلٌ في سبيل خير سبق فيه الناس …
هي قصة طويلة لاتتسع لها الأوراق، وقد اجتزأنا منها أسطراًً قليلة عن ابن دمشق ومؤرخها وابن شيخ قرائها: العلامة صلاح الدين المنجد رحمه الله، وصلته مع جمعية التمدن الإسلامي ومجلتها الغراء.
صلاح الدين المنجد فلتة من فلتات الزمان، وياسمينة دمشقية فاح أريجها فملأ الدنيا عطراً وطيباً.
تفتحت عيناه في بيت القرآن والعلم والفضل، ثم انتسب إلى جمعية التمدن الإسلامي وهو شاب صغير في نهاية المرحلة الثانوية، ففتحت له قلبها، وبادلها العشق فكان من خيرة شبابها، وفطن له قادتها وفي مقدمهم علامة الشام محمد بهجة البيطار فأولوه ثقتهم الكاملة، وبتاريخ 25 محرم 1360هـ الموافق 21 شباط 1941م تم انتخابه عضواً في مجلس إدارة التمدن الإسلامي، ولما يتجاوز العشرين من عمره إلا قليلاً، ثم مضوا في تشجيعهم له كما هو تفكير وعادة رجال التمدن حتى اليوم في فتح أبواب الخير، فاختاروه ليكون أحد أركان لجنة المجلة، والتي يدهش المرء لرقي أفرادها، إذ ضمت وقتها السادة: حسن الشطي، صلاح الدين المنجد، جميل سلطان، أنيس الشربجي، فيصل العظمة، عبد الرحمن الخاني، شفيق نصري، محمد أحمد دهمان.
ثم طلب منه أن يكتب افتتاحية السنة السابعة (ربيع الأول 1360هـ/نيسان1941م) ، ومما جاء في مقالته :”تجرمت على هذه المجلة سنوات ست، سعت فيها لنشر فكرة وإعلاء دين، وتبيان محاسن، ورد افتراء، وكانت تصدر بإيمان كإيمان الصحابة لا يحفلون الضنى، ولا يبالون بالسغب، ولا يهنون للصدمات، ولا ينحنون للنكبات، وهاهي ذي اليوم تخطو خطوة سابعة بقدم ثابتة وقلب مطمئن وعزم حديد، لا تزعزعها الحوادث الراجفة، ولا تضعفها القوة الغاشمة، ولا يُثنيها عما اختطته لنفسها سلطان النار ولا قوة الدمار التي انفجرت في ديار الغرب البعيد، بل هي تسعى في طريقها، تعلم أن في عملها جهاداً، وأن الجهاد صبر ونصب، وأن الصبر ثبات وقوة وعزم….
لقد كانت التمدن الإسلامي أول مجلة دينية في دمشق أرسلت العظات لتفتح القلوب، وتنعش النفوس، ودعت الناس إلى دين الإسلام، كي يستاروا بالسيرة التي كانت للنبي عليه صلوات الله، ويقتفوا آثار الهادين من الصحابة والتابعين، ليصبحوا أمة تستحق الحياة لأنها ترغب في الحياة، وليكونوا حقاً خير أمة أخرجت للناس …. ولقد دأبت هذه المجلة منذ صدورها على الدعوة إلى فهم الدين ليجعلوه مهوى القلوب وبهجة النفوس، فيستقوا من الينبوع، ويدعوا مالحق به من بدع شوهته، وما علقه من أباطيل أضعفته، وماجاءه من دعاوي ليست منه في شيء .. وإن (التمدن الإسلامي) لترغب إلى الله أن يمدها بالعون لتمضي في نهجها، مظهرة هذا الدين في أروع مظاهره، مبينة للناس صفحات ناصعة من حضارته، لا يعيقها ما تلقاه من مكاره جاهمة، ومصاعب قائمة … “.
كما كلف رحمه الله لأشهر بالمسؤولية عن تحرير المجلة، ثم اعتذر بعدها لكثرة واجباته، وبقي يرفد إخوانه بنصحه وعلمه، ويتحفهم بما يكتب ، وقد نشرت له مجلة التمدن الإسلامي المقالات التالية:
1- أولئك رجالنا ، العدد الأول ، السنة السادسة ، 1359هـ/1940م
2- عامنا السابع ، العدد الأول ، السنة السابعة ، 1360هـ/ 1941م
3- القاضي منذر بن سعيد (1) ، العدد 3-4، السنة التاسعة ، 1362هـ
4- القاضي منذر بن سعيد (2) ، العدد 5-6، السنة التاسعة ، 1362هـ
5- موغلي بين الذئاب ، العدد 2، السنة العاشرة ، 1363هـ
6- ماذا نفيد من أدب أبي العلاء [المعري] ، العدد 14 ، السنة العاشرة ، 1363هـ
7- نصيحة الحافظ للملك الأشرف ، العدد 5-6 ، السنة الخامسة عشرة ، 1368هـ
8- أبنية دمشق الأثرية المسجلة (1) ، العدد 25-26 ، السنة السابعة عشرة ، 1370هـ
9- أبنية دمشق الأثرية المسجلة (2) ، العدد 29-30 ، السنة السابعة عشرة ، 1370هـ
10-أبنية دمشق الأثرية المسجلة (3) ، العدد 31-32 ، السنة السابعة عشرة ، 1370هـ
11-مدرسة أسعد باشا العظم ، العدد 19-20 ، السنة التاسعة عشرة ، 1372هـ
12-حريق الجامع الأموي ، العدد 25-26 ، السنة التاسعة عشرة ، 1372هـ
13-مدرسة إسماعيل باشا العظم ، العدد 21-22 ، السنة التاسعة عشرة ، 1372 هـ
وأخيراً وضع العلامة العظيم قلمه يوم الأربعاء 5 صفر 1431هـ/20 ك2-2010م ، واستراح من كفاح الحياة ورحل إلى حيث يلقى ربه نقياً طاهراً حيث لاظلم هناك ..
كتبه : أحمد معاذ الخطيب الحسني / دمشق الشام
اللهم اجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً
اللهم إن كان محسناً فزد اللهم في حسناته وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاتنا وسيئاته
اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد ، واخلفه وبلده وأهله وولده خيراً
- ملاحظة : فيما يلي ترجمة موجزة ونأمل بوضع ترجمة شاملة لفقيدنا قريبا:
العلامة الدكتور صلاح الدين المنجد رحمه الله
والده العلامة عبد الله المنجد (1288-1359هـ / 1872-1940م) كان فقيها شافعياً وشيخ القراء في الشام.
ولد صلاح الدين المنجد في دمشق (1334هـ/1920م) لأسرة دمشقية من حي القيمرية، وتخرج من دار المعلمين عام 1939م، فدرس في ثانويات دمشق ثم عين أميناً للتعليم العالي والخاص في وزارة المعارف ثم نال إجازة الحقوق من الجامعة السورية عام 1943م، وعين بعدها رئيساً لديوان مديرية الآثار العامة عام 1944، ثم رئيساً لدائرة الآثار العامة عام 1947،وحضر محاضرات فقه اللغة والحضارة الإسلامية والآثار والاجتماع الإسلامي في الجامعة اليسوعية ببيروت عام 1949.
أوفد في بعثة إلى فرنسة حصل فيها على الدكتوراة في القانون، والتاريخ ، وعهد إليه مجمع اللغة العربية بتحقيق تاريخ دمشق الكبير للحافظ ابن عساكر.
انتخب عام 1948 عضواً في الجمعية الدولية للدراسات الشرقية (جامعة ليدن) ، وعمل مديراً لمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية مدة ثماني سنوات خلال الخمسينات، وترأس تحرير مجلته، ثم استقر في بيروت مؤسساً (دار الكتاب الجديد) للنشر، وقد احترقت أثناء الحرب الأهلية عام 1975. وقد انتقل بعدها إلى الرياض، وحاز الجنسية السعودية.
حاضر وزار العديد من جامعات العالم، وانتخب عضواً في المجامع العلمية في دمشق والقاهرة وبغداد، وعضواً في المعهد الألماني للآثار ببرلين، وله أكثر من مئة وخمسين كتاباً مابين تأليف وتحقيق، ومن أشهر كتبه: معجم المخطوطات المطبوعة، ومعجم ما ألف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومما حققه ونشره معهد المخطوطات بالقاهرة: شرح السير الكبير للإمام محمد بن الحسن الشيباني، إملاء الإمام السرخسي في خمسة مجلدات، وهو من نفائس الكتب تصنيفاً وتحقيقاً.
صورة للعلامة المنجد (الثالث من اليمين جلوساً) ضمن مؤسسة الفرقان الثقافية