أحمد داود أوغلو” … وليس “كيسنجر تركيا”
د.إبراهيم البيومي غانم
مارس 2010
كنت قد وصفت وزير الخارجية التركية الجديد الدكتور أحمد داود أوغلو بأنه “كيسنجر السياسة التركية”، وشرحت هذا الوصف في محاضرة عامة ألقيتها عن “النموذج التركي” في 26 أغسطس 2008 بجامعة القاهرة ضمن محاضرات “برنامج الدراسات الحضارية وحوار الثقافات”، وتناقلت وسائل الإعلام هذا الوصف بسرعة لافتة.
وبعد بضعة أيام فقط من المحاضرة تلقيت اتصالا هاتفيا من أحد الأصدقاء في أنقرة استفسر مني فيها أولا عن معرفتي بالدكتور أحمد، وهل قرأت كتبه أو بعضا منها، ودهشت لهذه السرعة في المتابعة لما يقال عن تركيا ومسئوليها في الخارج، وخاصة في العالم العربي، وبصفة أكثر خصوصية في مصر، وعرفت من لهجة سائلي أنه ربما يكون عاتبا علي لأنني وصفت الدكتور أحمد بأنه مثل “كيسنجر”، وأن الأولى هو أن نصفه فقط باسمه وهو أنه “أحمد داود أوغلو”!.
شرحت لسائلي هدفي من وصفي للدكتور أحمد بأنه “كيسنجر” تركيا، وهو تقريبه من أذهان مستمعي في المحاضرة لا أكثر ولا أقل، وقلت له إنني أعرف الدكتور منذ سنة 1987 عندما تزاملنا مدة عام في الدراسات العليا بقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة؛ حيث حضر كـ”مستمع” للمحاضرات، وكي يطلع على أحوال مدرسة العلوم السياسية المصرية، ويجمع بعض عيون الكتب من سور الأزبكية الشهير بالقاهرة، وقد جمع منها قدرا معتبرا وعاد به إلى بلده.
تعمقت الصداقة بيننا، وقمت بترجمة كتابين من كتبه صدرا سنة 2006 عن مكتبة الشروق الدولية بالقاهرة، الأول بعنوان “الفلسفة والسياسة”، والثاني بعنوان “العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية”، وقبلهما ترجمت له دراسة مهمة بعنوان “انبعاث الفكر الإسلامي في تركيا: دراسة في عملية التحول من الفكر العلماني إلى الإسلام”، نشرتها صحيفة الشعب المصرية في عدديها الصادرين بتاريخ 26 يوليو و2 أغسطس 1988، ولكن كل ذلك لم يشفع لي في إزالة نبرة اللوم على تشبيهي له بكيسنجر
أوغلو.. ونظريات “النهايات”
ولهذا انتهزت أول فرصة علقت فيها على التعديل الوزاري الأخير في برنامج قناة الجزيرة “ما وراء الخبر” -مساء يوم 3/5/2009- لأصحح هذا الوصف، وخاصة أن مقدمة البرنامج استخدمته، وأكدت على أن وصفنا للدكتور أحمد داود بأنه مثل كيسنجر فيه ظلم له ومحاباة لكيسنجر؛ لأن الدكتور أحمد داود صاحب رؤية إستراتجية أصيلة تنسب إليه وحده دون غيره، وأن الصحيح فعلا هو أن نصفه باسمه “أحمد داود أوغلو”.
صحيح أن ثمة أوجه تشابه بين الرجلين، فكلاهما درس العلاقات الدولية وتخصص فيها، وكلاهما انخرط بشكل رسمي في الوساطات بين العرب والإسرائيليين ضمن جهود المفاوضات من أجل السلام، وكلاهما تولى منصبه وزيرا للخارجية وهو في الخمسين من عمره (كيسنجر سنة 1973 وهو من مواليد سنة 1923، وأحمد داود سنة 2009، وهو من مواليد سنة 1959)، لكن أوجه الشبه لا تبرر إلحاق أحدهما بالآخر، وجعل الأول (كيسنجر) هو المرجعية في التعرف على الثاني (أحمد داود)، ولدينا من الأدلة المعرفية والموضوعية ما يبرهن على خطأ تشبيهه بكيسنجر، مع إقرارنا بعبقرية كيسنجر، وأنه كان داهية من دواهي الزمن في تاريخ السياسة الخارجية والعلاقات الدولية في القرن العشرين الماضي.
الدليل الأول: أن هنري كيسنجر انطلق في دوره الأساسي في الصراع العربي الإسرائيلي خلال السبعينيات من ثوابت السياسة الأمريكية المتحيزة بفجاجة للجانب الإسرائيلي على حساب الحقوق العربية، وانصب جهده على ترويض الجانب العربي من أجل الاندماج في فلك الإستراتيجية الأمريكية عبر سياسة “الخطوة.. خطوة” التي اشتهر بها.
أما أحمد داود أوغلو، فدوره في الصراع العربي الإسرائيلي ينطلق من ثوابت “الرؤية الحضارية” التي يؤكد من خلالها على نظريتين لديه:
الأولى يقول فيها إن “الثقة بالذات الحضارية” مصدر قوة إضافية للدولة في علاقاتها الخارجية، وخاصة إذا اقترنت بتجاوز عقدة النقص، وبالتغلب على الشعور بالدونية تجاه الطرف الآخر، وهذا هو ما فعله خلال وساطته بين السوريين والإسرائيليين، وبين الفلسطينيين والإسرائيليين أيضا خلال الأعوام الماضية، وصبت في هذا الاتجاه دعوته لوفد حماس عقب فوزها في الانتخابات مطلع سنة 2006 لزيارة تركيا، في الوقت الذي بدأت فيه القوى الدولية محاصرة حماس ومقاطعتها، هذا هو جهد أحمد داود، أما على الطرف الآخر فقد كان جل جهد كيسنجر منصبا على قطع الطريق على أية إمكانية لاسترداد الثقة بالذات لدى الأطراف العربية عقب انتصار أكتوبر المجيد سنة 1973، بل والسعي لإفقاد ما تبقى من ثقة لدى هذه الأطراف العربية التي جلبها إلى حلبة المفاوضات مع الإسرائيليين عقب تلك الحرب مباشرة.
النظرية الثانية لدى الدكتور أحمد داود مفادها هو أنه: كي تكون ناجحا في إدارة العلاقات الدولية يتعين عليك مراعاة “التوازن” الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، وأنه لا يجوز المغامرة بمواجهة قوة الأمر الواقع دون استعداد كاف، كما لا يجوز التفريط في قوة الحق الثابت الأصيل، وأنه يمكن إنجاز الكثير في المسافة القائمة بين “قوة الأمر الواقع”، و”قوة الحق الأصيل” في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود.
هذاا هو لب تفكير أحمد داود أوغلو، أما كيسنجر فقد كان لب تفكيره، وجوهر رسائله للأطراف العربية هو أن التيئيس من إمكانية تغيير موازين القوى القائمة على أرض الواقع، والتهوين من قوة الحق الأصيل، إلى حد طمسه والتعفية على آثاره بغبار ما كان يسميه “الواقعية السياسية”، أو “البرجماتية”، وشتان بين هذا المنطق، ومنطق أحمد أوغلو.
الدليل الثاني: أن هنري كيسنجر يعتبر من الآباء المؤسسين لنظرية “صدام الحضارات” التي بلورها صمويل هنتينجتون، ونظرية “نهاية التاريخ” التي بلورها فرانسيس فوكوياما، ونظرية الفوضى الخلاقة والحروب الاستباقية التي تبنتها إدارة بوش الابن فعليًّا خلال السنوات الماضية وأذاقت العالم الأمرين من نتائجها، فيما أحمد داود يقف على النقيض من هذه النظريات.
لقد نبه كيسنجر قبل ثلاثين عاما؛ أي سنة 1979 إلى الفكرة الأساسية التي ارتكز عليها هنتينجتون في مقولته عن “صدام الحضارات”، وأكد أن الصراع في المستقبل سيكون بين الهويات الثقافية والدينية والحضارية، وليس بين الدول القومية بحدودها وسيادتها التي ارتسمت في العلاقات الدولية منذ معاهدة وستفاليا سنة 1648.
ويبيح مفهوم كيسنجر الجديد لسيادة الدولة أن تتدخل القوى الأكبر في شئون الدول الأضعف لإجبارها على تغيير مواقفها، أو حتى حكوماتها ولو باستخدام القوة العسكرية، في إطار ما عرفته إدارة المحافظين الجدد بزعامة جورج بوش الابن بـ”الحرب الاستباقية”، وتستند فلسفة الحرب الاستباقية على فكرة فوكوياما عن “نهاية التاريخ”، وتجد هذه الفكرة تأصيلها إلى نظرية “الواقعية” التي برع فيها كيسنجر، وأعاد من خلالها الاعتبار للمبدأ الروماني القديم الذي يقول “القوة تخلق الحق وتحميه”، ومن ثم أكد صاحب نظرية نهاية التاريخ على أن “استخدام القوة هو الحكم النهائي في العلاقة بين دول التاريخ، ودول ما بعد التاريخ؛ على الرغم من الدرجة المتزايدة من الاعتماد المتبادل في المجال الاقتصادي”.
وإلى أفكار كيسنجر وكتاباته ترجع أيضا نظرية “الفوضى الخلاقة” التي تبناها المحافظون الجدد في عهد بوش، وكان كيسنجر قد تبنى نظرية “التفكيك وإعادة البناء” باستبدال بعض الدول أو الكيانات القائمة بدويلات أصغر تتحارب مع بعضها؛ بهدف تسهيل تحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي.
وفي ضوء هذه الأفكار المركزية التي أسهم في وضعها كيسنجر نفهم بوضوح كيف تبرر السياسة الأمريكية فرض العولمة على العالم، ولو بالقوة، لمنع أي بديل حضاري آخر يبدو منه تهديد للنظام الذي انتهى إليه التاريخ بحسب نظرية فوكوياما؛ هذه النظرية التي تجد جذورها لدى كيسنجر ذاته، وكتابات كيسنجر مثل: (مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية، والدبلوماسية من القرن 7 إلى القرن 17، وهل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية: نحو دبلوماسية للقرن 21، ..إلخ) لا تزال مرجعا أساسيا لتلك الأفكار التي تجد طريقها للتطبيق في السياسة الأمريكية بين الحين والآخر، ولا يزال هو شخصيا يحظى باحترام بالغ في أوساط صناع السياسة الأمريكية ومراكز أبحاث الأمن القومي فيها، وقد حصل من أحدها، وهو معهد واشنطن لشئون الشرق الأدنى في السادس من أكتوبر 2008 على جائزة رجل دولة من الطراز الأول.
أحمد داود أوغلو يقف على النقيض من كل تلك النظريات التي تنتمي إلى كيسنجر وحوارييه، وله مدرسته الخاصة ونظرياته الأصيلة في ميدان العلاقات الدولية، وقبل أن يضع نظرياته، انتقد بعمق أهم بعض نظريات كيسنجر وتلامذته، وركز انتقاداته على نظرية “صدام الحضارات”، و”نظرية نهاية التاريخ”، وانتقد في طريقه كل نظريات النهاية التي أنتجها الفكر الغربي خلال القرن الماضي “نهاية الدين، ونهاية الأيديولوجيا، ونهاية التاريخ” (انظر كتابه الذي ترجمناه إلى العربية بعنوان: العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية - مكتبة الشروق الدولية، 2006).
توصل الدكتور أحمد إلى أن النظرية الأولى التي تحاول أن تشرعن استخدام القوة لحماية مصالح القوى الكبرى وفق المبدأ الروماني السابق ذكره، وهو مبدأ مفرغ من المضمون الإنساني، ويرى أحمد داود أن المشكلة هي في “صدام المصالح” وليس فيما أسماه هنتينجتون “صدام الحضارات”، أما النظرية الثانية فهي تحاول -في رأيه- قطع الطريق على البدائل الحضارية التي تتبلور في مناطق مختلفة من العالم، وتؤذن بانتقال الهيمنة الحضارية من المحور الأطلسي إلى محاور أخرى لا تزال في مرحلة التشكل، يأتي في مقدمتها “المحور الباسيفيكي” حول الصين والهند واليابان، أو “المحور الحضاري الإسلامي” وفي القلب منه تركيا وإيران وباكستان ومصر.
الحضارة الغربية برمتها -في رأي أحمد داود- تمر بأزمة، وأزمتها تتلخص في عجزها عن توفير الأمان الوجودي والحرية؛ وهما هدفان أبديان للإنسان على مر التاريخ، وكل حضارة تفشل أو تتراجع عن تحقيقهما تصبح متوترة وانفعالية تجاه الآخرين، ويستدل مفكرنا على عجز الحضارة الغربية عن توفير “الأمان” و“الحرية” للإنسان برعونتها في التعامل مع بقية شعوب العالم، وعدوانيتها تجاه الآخر، وانتهاكها للتوازن الفطري بين القيم المادية والقيم الأخلاقية / الروحية، وحتى للتوازن البيئي إلى حد التسبب في خرق طبقة الأوزون، إضافة إلى أن نزعتها الطاغية نحو العولمة تهدد بإلغاء التعددية الحضارية، وفرض نمط واحد عن طريق مزيد من القسر والإكراه.
وفي ضوء ذلك سنفهم بشكل أفضل أبعاد أول تصريح للوزير أحمد داود عندما قال: “تركيا سوف تستشار، ويحترم رأيها في كل القضايا العالمية، من المناخ والاحتباس الحراري، إلى قضايا الشرق الأوسط”.
الدليل الثالث: أن للدكتور أحمد داود إسهاما أصيلا في صوغ نظريات العلاقات الدولية انطلاقا من “رؤية معرفية إسلامية للعالم”، وليس عالة على كيسنجر أو غيره من أساتذة العلاقات الدولية، حتى يصح أن نصفه منسوبا إلى غير ذات نفسه كأن نقول إنه “كيسنجر تركيا”، صحيح أنه استفاد بطريقة نقدية خلاقة من اطلاعه الواسع على أفكار ونظريات كيسنجر وغيره من فطاحل العلاقات الدولية (كان يستضيف منهم مثلا: جوهان جالتونج النرويجي صاحب النظرية الإمبريالية البنيوية في العلاقات الدولية، ليحاضر في مؤسسته العلمية في إستانبول، التي تحمل اسم “العلم صناعة الوقف!”).
أوغلو.. ثلاث نظريات متماسكة
للدكتور أحمد داود ثلاث نظريات أساسية تعبر عن رؤيته للعلاقات الدولية تعبيرا أصيلا في نسبته إلى أفكاره، وإدراكه لذاته الحضارية/الإسلامية، بحسب مصطلحاته هو في كتاباته، وهي: نظرية التحول الحضاري، ونظرية العمق الإستراتيجي، ونظرية العثمانية الجديدة.
1- نظرية “التحول الحضاري”:
طرح فيها أحمد داود رؤيته لمستقبل العلاقات الدولية، وفيها يبرهن على أن ما يجري في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ليس تعبيرا عن انتصار الرأسمالية/الليبرالية، ولا عن نهاية التاريخ، وإنما هو تعبير عن تحول حضاري واسع المدى، وبموجب هذا التحول ينزاح –تدريجيا- “المركز الحضاري الأطلسي/الأمريكي”، وتحاول القارة الأوروبية العجوز استرداده مرة أخرى من خلال “الاتحاد الأوروبي”، كما تحاول آسيا “المركز الباسيفيكي” بناء هذا المحور الجديد بقيادة الصين والهند واليابان، كما يحاول العالم الإسلامي من خلال حركات الإحياء الإسلامي أن يبني محورا حضاريا جديدا أيضا مرتكزا على تماسك رؤيته للعالم، وفي القلب من هذه الرؤية تقع قيمتا الحرية والأمان الوجودي بالمعنى الإنساني/الإسلامي.
يقول: “… فالحرية في المنظور الإسلامي هي تعبير عن نضج روحي يمكن الإنسان من أن يتحكم في أنانيته الذاتية، الحرية ليست موضوعا من موضوعات القوة بقدر ما هي موضوع للوعي بالذات ومعرفة النفس، وكذلك الأمن يكمن في شخصية الإنسان ووعيه الذاتي، ولا يأتيه من خارجه”.
ويرى أوغلو أن “النموذج الإسلامي” في رؤيته للعالم يضمن السلام مع البيئة بخلاف النموذج الغربي؛ لأن المسلم يدرك أن الكون هبة الله، وهو حق مشترك للجنس البشري، ولذا لابد من المحافظة على البيئة لأنها شرط جوهري لصلاحية الكون للحياة”. كذلك يؤكد على أن النموذج الإسلامي يعبر عن الأصالة والتعددية؛ فتصوره للتاريخ والزمن يؤكد على الطبيعة الدائرية وليست الخطية الأحادية كما الحضارة الغربية، ومن هنا أهمية التجديد وقدرة الحضارة الإسلامية على استعادة مكانتها، فالسيادة الحقيقية لا تنطلق من التفوق المادي وحده، وإنما من التفوق القيمي والروحي أيضا”.
في نظريته هذه، شرح د. أحمد داود العقبات التي تعترض نهضة المحور الحضاري الإسلامي، فنبه منذ منتصف التسعينيات إلى أن المحور الحضاري/الأمريكي سيسعى للاحتفاظ بتفوقه بشتى الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية بما في ذلك أن يتلاعب بالأسس الداخلية للمراكز الحضارية البديلة له، وكشف ببراعة وثقة كبيرتين عن جذور أزمة الأفكار والمؤسسات التي تعاني منها الشعوب الإسلامية، وأرجعها إلى “انفصال النخب الفكرية العلمانية عن المرجعية الإسلامية، ومحاولة النخب الحاكمة والمسيطرة فرض ثقافة جديدة مطابقة للمفاهيم الغربية وإنجاز التنمية الاقتصادية وبناء القوة العسكرية لتحقيق موقع أفضل على الساحة الدولية، وفي نفس الوقت تسويغ السياسات الاحتكارية لهذه النخب في مختلف المجالات”. ولكنه أكد أيضا أن هذه النخب العلمانية تواجه مأزقا اليوم لفشلها في إنجاز أي من الأهداف الكبرى التي حددتها منذ بدايات القرن العشرين على الأقل، وأولها الفشل في تكوين ثقافة قومية مستقلة عن المرجعية الإسلامية للمجتمعات العربية والإسلامية رغم احتكار التغريبيين لأغلبية قنوات التنشئة الاجتماعية والثقافية بسيطرتهم على أجهزة الدولة، وثانيها الفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية، وثالثها الفشل في تحقيق مكانة دولية متقدمة على مدرج هرمية القوة الدولية.
إذن: طبقا لنظرية “التحول الحضاري” لأحمد داود، فإن المرحلة الراهنة من تاريخ العلاقات الدولية تشهد منازعة بين أكثر من مركز أو محور حضاري باتجاه “نظام عالمي جديد”. وهو يؤكد حضور العالم الإسلامي في خضم هذه المنازعة، ويرسم تصورا من أربع مراحل قطع منها المحور الإسلامي ثلاثة ودخل في الرابعة، أولها مرحلة الخضوع للنزعة الاستعمارية، وثانيتها مرحلة تحدي الهوية بعد سقوط الخلافة العثمانية إلى قيام ثورات التحرر من الاستعمار، وثالثتها مرحلة نشأة دولة ما بعد الاستعمار وسيطرة النخب المتغربة عليها، ورابعتها يسميها “مرحلة تجدد الإدراك الذاتي الإسلامي” وتخلصه تدريجيا من عقدة الدونية التي سيطرت على الذهنية المسلمة إبان الحقبة الاستعمارية.
ويضرب داود مثالا على ذلك بخروج تركيا منذ منتصف الثمانينيات من سياسة الانكفاء على الذات، والعزلة عن محيطها الإستراتيجي الإسلامي، والقبول المتنامي لهذا التوجه في السياسة الداخلية التركية.
وعندما يصل إلى هذه النقطة نجده يمسك بأول خيط ينسج به نظريته الكبرى الثانية، وهي نظرية “العمق الإستراتيجي”، التي خصص لها كتابه الضخم، الذي أضحى معلما في الفكر الإستراتيجي للدكتور أحمد داود، واعتمد مرجعا أساسيا في الكليات العسكرية التركية، وأعيد طبعه أكثر من 17 مرة منذ صدور طبعته الأولى سنة 2001، وأخبرني قبل يومين من توليه وزارة الخارجية أن قناة الجزيرة القطرية حصلت على حقوق ترجمته من التركية وعلى وشك الصدور بالعربية لأول مرة.
2- نظرية “العمق الإستراتيجي”:
عبر أحمد داود عن هذه النظرية بكلمات موجزة في أول تصريح له عقب توليه الوزارة أول مايو الجاري بقوله: “إن تركيا لديها الآن رؤية سياسة خارجية قوية نحو الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة القوقاز.. سنسعى لدور إقليمي أكبر، ولم نعد بلد رد فعل”. هذه الكلمات المقتضبة لها تفاصيل وافية في كتابه “عمق الإستراتيجية: المكانة الدولية لتركيا”، الذي أشرنا إليه، وخلاصتها تتمثل في إخراج تركيا من بلد “طرف”، أو “هامش” يقتصر دورها في كونها عضوا في محاور وعداوات، إلى بلد “مركز” على مقربة واحدة من الجميع، وفي الوقت نفسه إلى بلد ذي دور فاعل ومبادر في كل القضايا الإقليمية والدولية.
في إطار هذه النظرية يبدي أحمد داود حساسية عالية جدا تجاه الرؤى الغربية والأمريكية التي وضعت بلاده في مكانة هامشية، أو طرفية ضمن النظام العالمي، وخاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يتحدث بثقة غير مفتعلة عن خطأ ما ذهب إليه “الكاتب هنتينجتون” من أن تركيا أطراف “دولة ممزقة توجد على أطراف الغرب من جهة وعلى أطراف الشرق من جهة أخرى، فهي تمثل أطراف أوروبا كما تمثل أطراف العالم الإسلامي”.
ويلقن أحمد داود هنتينجتون درسا قاسيا في علم الإستراتيجية والعلاقات الدولية، وهو يفند وصفه لبلده تركيا بأنها “دولة أطراف”، يقول: “إن تركيا دولة مركزية، والدليل على ذلك هو تواجد تركيا في مكان قريب من الجغرافيا التي تسمى “أفروآسيا”؛ أي إفريقيا وأوروبا وآسيا؛ فهي هنا ليست دولة أطراف، هي من الناحية الجغرافية دولة مركز وليست دولة أطراف، فتركيا ليست دولة أوروبية وحسب، بسبب موقعها المركزي، بل هي دولة آسيوية أيضا؛ وليست دولة آسيوية وحسب بل هي دولة أوروبية أيضا، وهي ليست دولة واقعة ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط وحسب، بل هي واقعة في حوض البحر الأسود أيضا، كما توجد أجزاء من تركيا في البلقان والقوقاز والشرق الأوسط… فتركيا، والحالة هذه، تمتلك القدرة على التأثير والتأثر بالدول المحيطة بها، وإذا ما ألقينا نظرة تاريخية، نجد أن تركيا تقع وسط المكان الذي تشكل فيه تاريخ الحضارات الموجودة في المنطقة، وعندما نلقي نظرة إلى حضارة ما بين النهرين والحضارات المصرية واليونانية والإسلامية والرومانية والعثمانية، نجد أن تركيا ليست دولة أطراف، بل هي دولة توثر في عدة حضارات وتتأثر بها في الوقت نفسه؛ فهي دولة مركز من الناحيتين التاريخية والثقافية”.
ويكمل داود بالقول: “إذا ما ألقينا نظرة إلى خطوط تدفق الطاقة، نجد أن هذه الخطوط تتوه وتُضيع طريقها إذا ما حذفتم تركيا عن الخريطة، إذ أنه يمر من تركيا خطوط أنابيب النفط والغاز الطبيعي وخطوط نفط باكو تبليس وجيهان، وخطوط أنابيب كركوك يمورتالك، وخطوط أنابيب أخرى”.
العمق الإستراتيجي كما يتصوره أحمد داود ينطوي على أبعاد حضارية، وثقافية، وتاريخية، وجغرافية، ودينية، لا تشكل عبئا عليها كما يتصور البعض، وإنما تشكل في مجملها فرصة كي تقوم تركيا بدور فعال ليس فقط في النظام الإقليمي المحيط بها، وإنما في النظام العالمي أيضا.
يقول أيضا: “إذا ما وحّدنا فضيلة الشرق، أي فضيلة الحضارة الإسلامية مع عقلانية الغرب ومع خصوبة اقتصاد الشمال مع البحث عن العدالة في الجنوب (وأنا مؤمن بأن ذلك سيتحقق) نجد أن تركيا تمتلك المؤهلات التي تمكنها من أن تصبح دولة نموذجية للمعطيات الثقافية للعولمة وللأفروآسيوية، وتمتلك قوة تستطيع من خلالها التدفق نحو محيطها.. نحن لسنا دولة أطراف”، قال ذلك وهو يرد مرة أخرى على هنتينجتون.
وكأن هنتينجتون -المقرب من كيسنجر- قد لامس الكبرياء العثماني لدى أحمد داود أوغلو، فانبرى يعرفه أصول الحديث عن “تركيا” في السياسة العالمية، وعلى أساس “نظرية العمق الإستراتيجي”، وضع الدكتور أحمد داود عدة نظريات “أقل” اتساعا، وأكثر عملياتية في شئون السياسة الخارجية التركية، ومن أهمها نظريته التي تقول: “إن التفوق العسكري لا يعوض ضعف المرونة الدبلوماسية”، ونظرية أخرى تقول: “الضعف هو اعتبار جار أو خصم غير موجود”!!، وثالثة تقول: “في علاقاتنا الدولية لسنا مع أحدهم ضد الآخر”، ومن هذه النظريات، وأمثالها، أمسكنا بنظريته الثالثة الكبيرة “العثمانية الجديدة”، أو بالأدق “نظرية الثقة بالذات”.
3 - نظرية العثمانية الجديدة:
هذه النظرية (وإن لم يسمها أحمد داود بهذا الاسم في كتبه) هي الأكثر إثارة للجدل على المستوى الداخلي؛ لأنها تقع في صميم معركة بين الحداثة والتقليد، أو الأصالة والتغريب، أو “الإسلام والعلمانية”، وهي المعركة التي تخوضها تركيا على أكثر من صعيد منذ ما قبل تأسيس الجمهورية وإلغاء الخلافة سنة 1924.
يخلص أحمد من قراءته المتقصية للتاريخ العثماني على مدى أكثر من أربعة قرون، ولتاريخ الجمهورية الكمالية خلال العقود الثمانية الماضية من القرن العشرين، إلى أن تركيا تصرفت بأقل من مكانتها، وبأدنى من إمكانياتها في سياساتها الإقليمية والعالمية منذ تأسست الجمهورية.
وانضم في رؤيته هذه إلى حركة المراجعة التي قادها في منتصف الثمانينيات الرئيس تورجوت أوزال (وظهر مفهوم العثمانية الجديدة آنذاك لوصف سياسته التجديدية، وإفساحه المجال لنمو التيار الإسلامي بدرجة ملحوظة). ووجد أحمد داود -هو وغيره من تيار العثمانية الجديدة- أن السبب في تراجع تركيا خلال الحقبة الماضية يعود إلى سياسة “القطيعة” التي سعت لفصل ماضي تركيا العثمانية وعمقها الإستراتيجي عن حاضر الجمهورية الكمالية ومحيطها الإقليمي، والتي عمقت أيضا الانقسام بين “العلمانية”، و”الإسلامية”، وغلبت الأمن على الحرية، وأحدثت أزمة “هوية” في أوساط النخب التركية، وخاصة بعد أن تبين فشل العسكر في فرض هوية جديدة بالقوة على المجتمع من أعلى هرم السلطة التي أمسكوا بها.
والحل هو في تبني “عثمانية جديدة”، والعثمانية الجديدة لا تعني بعث السياسات التوسعية للدولة العثمانية، ولا العودة للماضي الغابر، وإنما قوامها ثلاثة مرتكزات، أولها: أن تتصالح تركيا مع ذاتها الحضارية الإسلامية بسلام، وتعتز بماضيها “العثماني” متعدد الثقافات والأعراق، وتوسع الحريات في الداخل، وتحفظ الأمن في الخارج، وثانيها: استبطان حس العظمة والكبرياء العثماني والثقة بالنفس عند التصرف في السياسة الخارجية، والثالث: الاستمرار في الانفتاح على الغرب، مع إقامة علاقات متوازنة مع الشرق الإسلامي.
“العثمانية الجديدة” تعني باختصار الاعتماد على القوة الناعمة لا الخشنة في السياسة الخارجية.. إنها تعني: “علمانية أقل تشددا في الداخل، ودبلوماسية نشطة في الخارج، وخاصة في المجال الحيوي لتركيا”. وهناك بالفعل جدل متواصل حول جدوى المعايير الكمالية في التعامل مع القضية الكردية؟! وكيف أن هذه المعايير عندما تسيطر على السياسة التركية تغدو قلقة، وانفعالية، وغير واثقة من نفسها، وهناك أيضا جدل آخر حول “العلمانية السلبية”، و”العلمانية الإيجابية”، ويقود هذا الجدلَ عددٌ من منظري حزب العدالة والتنمية، إلى جانب أحمد داود، ومنهم وزير الخارجية الأسبق يشار أكيش.
في كتابات أحمد داود أوغلو نجد بذور نظرية “العثمانية الجديدة”، ولكن دوائرها تتسع رويدا رويدا في أوساط النخبة التركية بأطيافها السياسية والفكرية، وربما تكون قد وصلت إلى النخبة العسكرية ممثلة في رئيس هيئة أركان القوات المسلحة إيلكر باشبوغ -وهو ليس مجرد قائد عسكري من طراز رفيع، وإنما مثقف واسع الاطلاع على الفلسفات والنظريات السياسية والأدبية العالمية- ففي الخطاب السنوي لرئيس الأركان الذي ألقاه باشبوغ يوم 14 أبريل 2009، عبر عن رؤية جديدة أكثر مرونة وانفتاحا تجاه الأكراد عندما تحدث عن “هوية تركيا”، و”شعب تركيا”، ولم يستخدم تعبير “الهوية التركية”، ولا “الشعب التركي”، وبذلك تكون العسكرية/الكمالية قد غادرت واحدة من ثوابتها في التركيز على القومية التركية في المقام الأول، ثم بعدها تأتي القوميات الأخرى: العربية، والكردية، والأرمينية، والألبانية. تحدث أيضا هذه المرة عن أن الجمهورية الحديثة تتحقق “بالديمقراطية”، وليس “بالعلمانية” كما درجت قيادات الجيش على ذلك في السابق، والأهم من ذلك كله أنه شدد في خطابه على احترام المؤسسة العسكرية للدين، واستدعى كلمات لأتاتورك قال فيها: “لا يمكن للأمم أن تستمر دون دين، ولا يمكن للجيش التركي إلا أن يحترم قيم شعبنا، بل إن أحد الألقاب الشائعة للجيش وسط مجتمعنا التركي هو أنه “مدرسة النبي محمد” صلى الله عليه وسلم.
في رأينا أن ما ورد في هذا الخطاب الأخير لرئيس هيئة الأركان هو بمثابة “ثورة صامتة” في إدراك المؤسسة العسكرية، وخاصة أنه جاء على لسان باشبوغ الذي يوصف بأنه من أقوى حراس العلمانية شكيمة في الجيش، وجاء أيضا متوافقا مع ذكرى مرور مائة سنة على وقوع أول انقلاب عسكري ضد أطاح بالسلطان عبد الحميد سنة 1909.
لا تزال ملامح “العثمانية الجديدة” تتشكل كأحد الفروع التي تنمو يوما بعد يوم على جذع شجرة “نظرية التحول الحضاري”، ونظرية “العمق الإستراتيجي”، وهما النظريتان العملاقتان اللتان وضعهما أحمد داود أوغلو قبل أكثر من عشر سنوات، وستظل مرتبطة باسمه، ويعرف بها، وتعرف به، كإسهام أصيل في حقل العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية من خارج المركزية الأوربية/الأمريكية المهيمنة على هذا المجال منذ أكثر من قرن من الزمان.
ومن المرجح أن تكتسب نظريات أحمد داود قوة دفع كبيرة للأمام بعد تعيينه وزيرا للخارجية، وقد يشهد العالم في وقت ليس ببعيد بروزه كشخصية تقف في مصاف وزراء خارجية عظام مروا على فترات متباعدة في تاريخ العالم خلال القرنين الماضيين، ابتداء من الأمير كليمنصو فون ميترينخ مستشار النسما الذي خطط لمؤتمر فيينا 1815 ووضع أسس النظام الأمني الأوروبي الجديد بعد تراجع المد البونابرتي، مرورا بـ”بسمارك” المستشار الألماني ووزير خارجية بروسيا في عهد الملك فيلهلم الأول خلال السبعينيات من القرن التاسع عشر، وفؤاد باشا الصدر الأعظم ووزير خارجية السلطان العثماني عبد العزيز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكذلك جون فوستر دالاس وزير خارجية الرئيس الأمريكي إيزنهاور الذي قاد أمريكا (1953ـ1961)، وصولا إلى هنري كيسنجر الذي عمل مع عدة رؤساء أمريكيين، وكان وزيرا للخارجية في عهد الرئيسين نيكسون وفورد من 1973 إلى 1977… يقف أحمد داود أوغلو في مصاف أمثال هؤلاء، قامته بقامتهم، وكعبه في العلم يفوق كثيرين منهم، وليس من الإنصاف أن ننسبه لغير ذات نفسه… ليس هو “كيسنجر تركيا”، هو “أحمد داود أوغلو”.
أما نحن العرب، فأولى بنا أن نقرأ ما يكتبه هذا الرجل، وأن نغتنم فرصة وجوده في وزارة الخارجية وله “هوى عربي”، وأن نهتم أكثر بالنجوم الصاعدة في سماء السياسة التركية بفضل “فضيلة الديمقراطية” التي اكتشفت أحمد داود أوغلو، ومن قبله أردوغان، وعبد الله جول، وبولنت أرينج. وعيب أن يظل اهتمامنا محصورا في نجوم المسلسلات التركية مثل “نور”، و”سنوات الضياع”، و”قصة شتاء”، عيب كبير!!.
أستاذ العلوم السياسية ورئيس قسم الرأي العام بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية - مصر
تعقيب من إدارة الموقع : من الضروري فهم ما يجري في العالم ولا يعني ذلك التطابق