هناك إشارات كثيرة في القرآن الكريم حول موضوع الرأي العام ؛ بعضها مباشر وبعضها غير مباشر ولكنها في النهاية تبني رأياً عاماً ذا توجه واضح ، بل نستطيع القول إن أساس عمل الأنبياء كان زرع الهداية في كل جنبات المجتمع ، وتقوية روح الإيمان فيه ، وذلك بهداية الأفراد والمجتمعات معاً ؛ أي تحويل الرأي العام القائم على الباطل إلى رأي عام حامل للحق ، وهناك دائماً توجيه نحو نصرة الحق ، وتعرية الباطل إضافة إلى الحث على الترابط والتعاون والمؤازرة على ثلاثة مستويات: الجماعة المسلمة ، فالأمة المسلمة ، فالبشرية جمعاء :
فمن شواهد النوع الأول قوله تعالى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[1]، وقوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[2] ، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[3].
ومن شواهد النوع الثاني قوله تعالى : }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ{[4]، وقوله تعالى: }إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ{[5]، وقوله تعالى : }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ{[6].
ومن شواهد النوع الثالث قوله تعالى : }مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ{[7]،
وقوله تعالى : }يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{[8] ، وقوله تعالى : }يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{[9].
إن التوجيهات القرآنية السالفة عُززت وأكدت بسنن ربانية شاملة تحفظ المجتمع الإيماني بل الإنساني من سطوة الظلم والفساد.
يتحدث القرآن الكريم أيضاً عن المحاولات المضنية لأهل الباطل للتأثير السلبي على الرأي العام وخلخلته[10]، ومن ذلك تكذيب الرسل والاتهامات الباطلة ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ﴿وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾[11] ، وقوله تعالى : ﴿وَإِنْ يَرَوْا ءَايَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾[12] ، وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾[13].
وقد يكون الأمر بالإرجاف في الجماعة المؤمنة والتشكيك بتوجهها ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[14] ، وقوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[15]، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾[16].
يعالج القرآن الكريم موضوع الأسباب الضرورية للثبات ، وقد وردت آيات كثيرة تثبت الرسل والمؤمنين في وجه الرأي العام الباطل ، ومن ذلك قوله تعالى:
}وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ{[17] ، وقوله تعالى: }تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ{[18] ، وقوله تعالى: }وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ{[19]، وقوله تعالى: }فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ{[20] ، وقوله تعالى: }فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ{[21].
وضمن سياق جماعي يقول تعالى: }وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ{[22]، ويقول تعالى :}إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{[23].
كما يعالج القرآن الكريم الأسباب الداخلية التي قد تضعف أو تؤثر في الرأي العام ، ومن ذلك قوله تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{[24]، وقوله تعالى: }أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{[25]، وقوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ{[26].
مصطلح الملأ : يلفت النظر أن كلمة –الملأ- استخدمت في القرآن الكريم غالباً لدلالة سلبية ، ومن الناحية اللغوية فقد جاء مايلي : (الملأ: الرؤوساء ، سموا بذلك لأنهم مِلاءٌ بما يُحتاج إليه. والملأ ، مهموز مقصور: الجماعة ، وقيل أشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم ، الذين يُرجع إلى قولهم … وكذلك الملأ إنما هم القوم ذَوُو الشارة والتجمُّع للإدارة)[27] ، وفي تفسير القرطبي: (الملأ: الأشراف من الناس ؛ كأنهم ممتلئون شرفا. وقال الزجاج:سُموا بذلك لأنهم ممتلئون مما يحتاجونَ إليهِ مِنهم ، والملأ في هذه الآية: القوم)[28].
ولدى البحث وجدت أن تلك الكلمة قد وردت ثلاثين مرة في كتاب الله ؛ أربع مرات بشكل حيادي ، وبمعنى أهل الشورى ؛ أولها في كلام الملك : }يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ{[29]، ومرتين منهما في وصف ملكة سبأ واستشارتها لقومها وذلك في سورة النمل : }قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ{[30]، }قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ{[31]، ومرة هي الوحيدة التي وصف بها طرف مؤمن في عالم الشهود ؛ حيث طلب سليمان r الرأي من مستشاريه وهم مؤمنون : }قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ{[32]، وأتت كلمة الملأ مرتين تتحدث عن عالم الغيب وبعبارة : الملأ الأعلى ، وذلك في سورة الصافات :
}لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ{[33]، وسورة ص : }مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ{[34].
ماعدا ذلك فكلمة – الملأ - إذا لم تعن أهل الشورى ، أوعالم الغيب فقد استخدمها القرآن الكريم أربعاً وعشرين مرة في وصف القوم : الظالمين ، الكافرين ، المسفهين للحق ، المكذبين للرسل ، المشككين برسولهم ، المستكبرين ، المخرجين لأهل الحق من قريتهم ،
المُكرهين على الباطل ، المفسدين ، المتهِمِين رسولهم بالسحر ، المحرضين على القتل واستحياء النساء ، المجرمين ، الذين يفتنون المؤمنين ، أصحاب زينة وأموال يضلون عن السبيل ، الساخرين من المؤمنين ، المتبعين غير ذا رشد ، المكذبين بلقاء الآخرة ، من أُترفوا في الدنيا ، العالين ، المؤتمرون للقتل ، الفاسقين ، الصابرين على آلهتهم.
وقد ورد ذلك في سور : البقرة – الآية 246 ، الأعراف 60-66-75-88-90-103-109-127، يونس 75-83-88، هود 27-38-97، المؤمنون 24-33-46، الشعراء 34، القصص 20-32-38، سورة ص- الآية6، الزخرف46.
[1] - سورة الأنفال ، 45.
[2] - سورة الفتح ، 10.
[3] - سورة الأنفال ، 74.
[4] - سورة البقرة ، 208.
[5] - سورة الأنبياء ، 92.
[6] - سورة الحجرات ، 10.
[7] - سورة المائدة ، 32.
[8] - سورة الحجرات ، 13.
[9] - سورة النساء ، 1.
[10] - رؤوف شلبي ، سيكولوجية الرأي والدعوة ، ص96.
[11] - سورة الصافات ، 15.
[12] - سورة القمر ، 2.
[13] - سورة الحجر ، 6.
[14] - سورة البقرة ، 135.
[15] - سورة البقرة ، 142.
[16] - سورة النساء ، 81.
[17] - سورة يونس ، 109.
[18] - سورة هود ، 49.
[19] - سورة النحل ، 127.
[20] - سورة الروم ، 60.
[21] - سورة الأحقاف ، 35.
[22] - سورة الأعراف ، 87.
[23] - سورة آل عمران ، 120.
[24] - سورة آل عمران ، 156.
[25] - سورة آل عمران ، 165.
[26] - سورة النور ، 11.
[27] - محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري ، أبو الفضل جمال الدين (711هـ/ 1311م) ،لسان العرب ، بيروت ، دار صادر ـ دار بيروت ، 1374/1955 ، 1 ، ص159.
[28] - محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، أبي عبد الله (671هـ/1273م) ، الجامع لأحكام القرآن ، القاهرة ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، 1387/1967 ، 3، ص243.
[29] - سورة يوسف ، 43.
[30] - سورة النمل ، 29.
[31] - سورة النمل ، 32.
[32] - سورة النمل ، 38.
[33] - سورة الصافات ، 8.
[34] - سورة ص ، 69.