مقال للأستاذ محمد بن المختار الشنقيطي
إسماعيل الفاروقي.. حامل همِّ الشرق في الغرب
سيرة حياته
ولد الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي في مدينة يافا الفلسطينية عام 1921، وبدأ دراسته الإسلامية بالمسجد وفي البيت على يد والده الذي كان قاضيا شرعيا. وتابع دراسته الابتدائية والثانوية في مدارس الدومينيكان الفرنسية، ثم حصل على الباكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1941. عمل في ظل الانتداب البريطاني محافظا لمنطقة الجليل إلى حين ميلاد الدولة الصهيونية، فالتحق بالمقاومة برهة، ثم هاجر إلى أميركا حيث حصل على شهادتيْ الماجستير في فلسفة الأديان: الأولى من جامعة إنديانا عام 1949، والثانية من جامعة هارفارد عام 1951. وفي عام 1952 حصل على الدكتوراه من جامعة إنديانا، وكانت أطروحته بعنوان: “نظرية الخير: الجوانب الميتافيزيقية والإبستومولوجية للقيم”.
بعد تضلعه بالفلسفة الغربية وبتاريخ وتعاليم الديانتين اليهودية والمسيحية في دراسته بأميركا، أحس الفاروقي بالحاجة إلى تعميق معرفته بدينه الإسلامي، فرحل إلى مصر، ودرس في الأزهر أربع سنوات (1954-1958) بنى فيها ثقافة إسلامية رصينة، ثم عاد إلى الغرب وبدأ التدريس بجامعة ماكجيل الكندية، وباحثا في كلية اللاهوت بالجامعة ذاتها، حيث أسفرت أبحاثه هناك عن كتابه القيم: (الأخلاق المسيحية: تحليل تاريخي ومنهجي لأفكارها المهيمنة). انتقل الفاروقي إلى باكستان عام 1961، ليساهم في تأسيس (معهد البحوث الإسلامية) في كراتشي، ثم عاد إلى أميركا أستاذا بجامعة شيكاغو 1963-1964، وفي جامعة سيراكيوز 1964-1968. ثم استقر قراره بجامعة تمبل التي مكث فيها حوالي ثمانية عشر عاما من العام 1968 إلى عام استشهاده 1986.
السفير المغدور
من عادة الملوك الأقدمين أن لا يقتلوا السفراء الذين يحملون الرسائل بينهم، وهم يعتبرون هذا العرف السياسي من أمارات المروءة والشهامة. لكن سفير الشرق الإسلامي إلى الغرب المسيحي إسماعيل الفاروقي قتل غدرا وغيلة. جاء الفاروقي إلى الغرب حاملا معه مظلمته من الشرق، فوجد الظلم في انتظاره في غرب أحلَّ عبادة إسرائيل محل ديانته المسيحية. ففي ليلة 18 رمضان 1406 هـ، 27 مايو 1986 م، قُتل إسماعيل الفاروقي وزوجته الدكتورة لمياء الفاروقي- وهي عالمة متمرسة بالفن والعمارة الإسلامية- بسبب مواقفه الصلبة في الدفاع عن قضيته وقضية شعبه الفلسطيني، وتعريته الأديولوجية الصهوينية وجذورها العنصرية في الثقافة اليهودية، وبسبب عمله الدعوي الدؤوب لنشر الإسلام وثقافته، وتصحيح صورة الإسلام في المجتمع الأميركي. بيد أن فكر الفاروقي لم يمت، بل شكل زادا على الطريق الشائك الذي اختطه، طريق كلمة الحق في وجه الجبروت.
العالم الموسوعي
كان الفاروقي مثالا للعالم المسلم الموسوعي، فهو متضلع في الفلسفة، والأديان، والتاريخ، وفي مختلف العلوم الإنسانية الأخرى، وهو يتقن العربية والفرنسية والإنكليزية ويكتب باللغات الثلاث وكأن كلا منها لغته الأم. يحكي الدكتور جمال البرزنجي أنه استدعى الفاروقي لعشاء في بيته عام 1972، وتحدث الضيف أمام جمع من أتباع ديانات شتى لمدة ساعة. وفي ختام الحديث، رفع قسيس يده طالبا التعقيب، فقال: “لقد تعلمتُ عن المسيحية هذه الليلة وحدها أكثر مما تعلمته في دراستي لها خلال الثلاثين سنة الماضية”. خلف الفاروقي ثروة فكرية متميزة، منها خمسة وعشرون كتابا، وأكثر من مائة بحث ومقال أكاديمي. ولا تزال جل كتبه في أصلها الإنكليزي، وهي بحق مساهمة نوعية في تحرير العقل المسلم وتجديد الفكر الإسلامي. وقد ترجمت له بضعة كتب إلى العربية، منها “أطلس الحضارة الإسلامية”. كما تخرج على يديه عدد وافر من العلماء المتخصصين في الأديان، منهم الأستاذ الدكتور محمد خليفة حسن، مدير مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية والتجديد في الدوحة. ويمكن إجمال المساهمة التجديدية التي قدمها الفاروقي في أربعة محاور: الحضارة الإسلامية، ومقارنة الأديان، وأسلمة المعرفة، والظاهرة الصهيونية.
الحضارة الإسلامية
ففي مجال الحضارة الإسلامية ألف الفاروقي وزوجته لمياء سفرا ضخما وقيما جدا، هو “أطلس الحضارة الإسلامية”، الكتاب الذي “ولد يتيم الأبوين” كما كتب مقدمُه الدكتور هشام الطالب، لأن الدكتور إسماعيل وزوجته استشهدا والكتاب لا يزال في المطبعة. فكان من نعم الله أن خرج الكتاب شاهدا لهما، وحافظا لجهدهما وجهادهما. وهو عصارة فكرهما في مرحلة النضج والتمكن. ولعل بقاء هذا الكتاب دليل على ما ذهب إليه برويز منصور إذ كتب في نعي الفاروقي: “إن حبر العالِم أقوى من سكين الغادر”. ويمتاز هذا الكتاب برحابة النظرة وامتدادها في الزمان والمكان، فالمعرفة الواسعة التي بناها الفاروقي في تاريخ الأديان، خصوصا اليهودية والمسيحية، والخبرة العميقة التي اكتسبتها لمياء في الفن والعمارة الإسلامية، جعلتهما يضعان الحضارة الإسلامية في إطار رحب لا مثيل له في الكتابات الشائعة في هذا المضمار، وقد تبنى المؤلفان منهجا مبتكرا، بيَّنا فيه “السياق” الذي ولدت فيه هذه الحضارة، و”الجوهر” التوحيدي الذي تمحورت حوله، و”الشكل” الذي عبرت به عن نفسها، و”التجليات” التي ظهرت بها (وهذه هي المحاور الأربعة للكتاب).
مقارنة الأديان
وفي مجال الدراسة المقارنة للأديان حرر الفاروقي “الأطلس التاريخي لأديان العالم” وكتب الفصل الخاص بالإسلام في ذلك الأطلس، كما قدم له بمدخل ضافٍ بين فيه جلال الرسالة الإسلامية وتفوقها على كل الأديان، واحتواءها جميع الفضائل التي جاءت بها الرسالات السماوية السابقة، واعتمادها على العقل والمنطق. كما ألف كتاب “الأخلاق المسيحية” الذي نقض فيه الأساس النظري والتاريخي لهذه الديانة من خلال مصادرها الأولى. وقد حاول عدد من القسس في جامعة ماكجيل التي كتب الفاروقي الكتاب في رحابها أن يمنعوا نشره، قائلين إنه يزلزل الإيمان المسيحي في قلوب قرائه. وللفاروقي كتب أخرى في الأديان، منها “الإسلام والديانات الأخرى” و”ثلاثية الحوار اليهودي-المسيحي-الإسلامي”، كما اشترك في تأليف كتاب “الديانات الآسيوية الكبرى”، هذا إلى جانب كتبه الخاصة بالإسلام، ومنها كتاب “التوحيد ومقتضياته في الفكر والحياة”.
أسلمة المعرفة
وفي مجال أسلمة المعرفة وضع الفاروقي الأسس النظرية لإعادة صياغة العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة صياغة إسلامية، بحيث تصبح هذه العلوم رافدا إيجابيا لثقافة المسلمين، لا سيلا جارفا يسلبهم هويتهم ودينهم وثقتهم في الذات. وقد شخص الفاروقي داء المسلمين المعاصرين في نظامهم الفكري والتعليمي السائد، وانعدام الدافع القوي والفكرة المحركة في ثقافتهم. وندد بازدواجية التعليم بين ديني تقليدي ومدني معاصر، مما أنتج ذاتا منشطرة مهزوزة، لا تحسن غير التقليد: تقليد الأجداد الذين رحلوا، أو الغربيين المختلفين دينيا وثقافيا. بينما المطلوب هو تعليم واحد تسري فيه الروح الإسلامية من خلال تدريس مادة الحضارة الإسلامية في كل الجامعات والأقسام بغض النظر عن التخصص. أما المتخصصون في الدراسات الإسلامية فلا بد أن يتضلعوا بالعلوم الإنسانية الحديثة لإثراء ذواتهم وبناء قدراتهم النظرية لتكون على مستوى الثقافة العقلية المعاصرة. وقد أسس الفاروقي مع الدكتور عبد الحميد أبو سليمان المعهد العالمي للفكر الإسلامي ليكون مركز تنظير وتخطيط للثقافة التركيبية التي يحتاجها المسلمون اليوم.
الظاهرة الصهيونية
وفي مجال التعريف بالظاهرة الصهيونية كتب الفاروقي ثلاثة كتب هي: “الإسلام ومشكلة إسرائيل”، و”أصول الصهيونية في الدين اليهودي”، و”الملل المعاصرة في الدين اليهودي”. وكان طرحه متميزا بالعمق والرحابة، وإن لم تخل نبرته من مرارة الظلم. كان الفاروقي متضلعا بتاريخ الديانة اليهودية وبتطور الحضارة الغربية، وقد وضع الصهيونية في ذلك السياق التاريخي، وتوصل إلى أن المسلمين يسيئون فهم أهم عدو لهم اليوم وهو إسرائيل، بالنظر إليها على أنها مجرد ظاهرة استعمارية غربية أو مجرد تكرار للحروب الصليبية، وهي كل ذلك وأكثر بكثير. ثم وضع ميلاد إسرائيل في سياق ثلاثة أفكار مهمة هي: عقيدة “الانتقال الوجودي للخطيئة” ontological passage of guilt في المسيحية، وتراجع وعود عصر الأنوار الأوربية عن تحقيق المساواة لليهود، ثم المركزية العرقية في الديانة اليهودية. وهكذا اقتلع اليهودي جذوره من أوربا وزرعها في فلسطين وهو محمَّل بكل هذه الأثقال. لكن الحقيقة أنه فعل ذلك متأخرا جدا، وأن عمله هذا مجرد حل مؤقت ويائس لن يكون هو الحل النهائي للمعضلة اليهودية. فتلك معضلة مسيحية غربية لا يمكن حلها على حساب أمة عظيمة تتقدم اليوم إلى مسرح التاريخ من جديد.
رحم الله الشهيد إسماعيل الفاروقي.. حامل همِّ الشرق في الغرب