صحيفة الشرق القطريه الثلاثاء 25 ذو القعدة 1431 – 2 نوفمبر 2010
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2010/11/blog-post_02.html
من غرائب زماننا وعجائبه أنه صار بمقدورنا أن نتعرف على معالم الرؤية الإستراتيجية لبلد مثل تركيا، في حين يستشكل علينا ذلك بالنسبة لمصر، بحيث لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟!
(1)
قبل أسبوعين كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في أثينا وطرح على نظيره اليوناني السؤال التالي:
لماذا لا نعيد النظر في علاقات بلدينا بحيث يتحول التنافس بينهما من مباراة لكرة السلة إلى مباراة للكرة الطائرة؟.
كان أردوغان يتحدث عن تفكيك بعض العقد التي تحكم علاقات الجارين، بحيث يكفان عن تدافع الأكتاف بينهما كما في كرة السلة، ويتجهان إلى إقامة منطقة عازلة بينهما، كما في الشبكة التي تفصل بين اللاعبين في لعبة الكرة الطائرة.
الاقتراح استهدف تخفيف التوتر العسكري المستمر بين البلدين وتذويب بقايا الصراع القائم بينهما منذ سنوات الدولة العثمانية وحتى بعد قيام الجمهورية في القرن الماضي. وهو نموذج تطبيقي للموقف المبدئي الداعي إلى طي صفحة المشاكل مع الجيران، اهتداء بسياسة «زيزو مشاكل»، التي أصبحت تعد حجر الزاوية في السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية.
ذلك أن ثمة خلافا بين تركيا واليونان حول الحدود البحرية والجوية والبرية في بحر إيجه الفاصل بين البلدين، وهو يتصاعد بين الحين والآخر بسبب المناورات العسكرية المستمرة لمقاتلات البلدين، الأمر الذي يكلفهما مبالغ طائلة واشتباكا دبلوماسيا مستمرا.
ولحل ذلك الإشكال حمل أردوغان معه حزمة من المقترحات التي دعت إلى ترك مسافة أو مساحة بين الحدود المقترحة والمتنازع عليها بين البلدين.
ثمة تفاصيل للمقترحات التركية لا مجال للخوض فيها. لأن ما يهمنا هو الفكرة الأساسية في الموضوع التي تمثلت في الإلحاح على تهدئة المحيط الإستراتيجي (كانت تلك زيارته الثانية إلى أثينا خلال خمسة أشهر). والهدف المرتجى من ذلك أن تصبح تركيا دولة صانعة للسياسات وليست طرفا في المشكلات.
(2)
خلال شهر أكتوبر المنقضي تلاحقت إشارات أخرى محملة بالدلالات التي ترسم معالم الرؤية الإستراتيجية وأهدافها المتوخاة. من تلك الإشارات ما يلي:
* عقد مؤتمر في اسطنبول لدول آسيا الوسطى التي تتحدث اللهجات التركية، والتي تصنف في أدبيات الجغرافيا السياسية بحسبانها تنتسب لغويا وتاريخيا إلى «العالم التركي». وهى التي تتوزع بين آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان، وتمثل كتلة بشرية تصل إلى 250 مليون نسمة يعيشون فوق مساحة من الأرض تصل إلى 11 مليون كيلو متر مربع.
غابت عن المؤتمر اثنتان من دول آسيا الوسطى هما أوزبكستان وطاجكستان، لكن ذلك لم يغير من الرسالة التي لخصها الرئيس التركي عبدالله جول حين قال «إننا ست دول ولكننا أمة واحدة».
تستطيع أن تتصور الخلاصات التي انتهى إليها المؤتمر والتي ركزت على تعميق الروابط الثقافية (اتفقوا على اعتبار الثالث من أكتوبر من كل عام يوم اللغة التركية). والسعي إلى تحقيق التكامل الاقتصادي من خلال المشروعات المشتركة.
* عقد القمة التركية الخليجية بالكويت، الذي يعد اللقاء الاستراتيجي الثالث بين الطرفين خلال ست سنوات. وهو ما تعتبره تركيا إسهاما في تعزيز أمن الخليج واعتبار استقرار ذلك الأمن داخلا في إطار الأمن الإقليمي وصلته وثيقة بالعمق الإستراتيجي لتركيا،
وهذه اللقاءات استصحبت عقدها سلسلة من التفاهمات والاتفاقات التجارية، التي تخدم المصالح المشتركة وتعد تجاوزا للفكرة التقليدية التي طرحت منذ عقدين من الزمان، وتحدثت عن معادلة «المياه التركية مقابل النفط العربي»،
وإذا أضفت إلى الجسور التركية الممتدة إلى الخليج، تلك الخطوات التي اتخذت لإلغاء تأشيرات الدخول بين تركيا وخمس دول عربية أخرى (سوريا ولبنان والأردن والعراق وليبيا)، فستدرك أن انفتاح أنقرة على الشرق وصل إلى مدى لم يخطر على بال أحد من قبل.
عقد المؤتمر الرابع عشر لرجال الأعمال في العالم الإسلامي، الذي اشترك فيه 3200 رجل أعمال قدموا إلى اسطنبول من أطراف ذلك العالم، كما اشترك فيه 32 وزيرا يمثلون تلك الدول. وشهده رئيس الجمهورية التركي ورئيس الوزراء.
وعلى هامشه عقد مؤتمر لرجال الأعمال الفلسطينيين اشترك فيه 300 شخص مهم. الأمر الذي يعطي انطباعا مباشرا بقوة الحضور الاقتصادي لتركيا في العالم الإسلامي، الذي بات يحتل موقعا متقدما في أولويات الإستراتيجية المرسومة، يدل على أن السياسة التركية تركز على تبادل المصالح باعتباره حجر الزاوية في علاقتها بالعالم العربي والإسلامي.
فقد أدى ذلك إلى مضاعفة حجم التبادل التجاري بين تركيا والعالم العربي لأكثر من أربع مرات منذ سنة 2002 وحتى العام الحالي، بحيث تجاوز 50 مليار دولار، نصيب مجلس التعاون الخليجي منها 20 مليارا.
* وفي منتصف الشهر واجهت تركيا موقفا دقيقا. ذلك أنها باعتبارها عضوا في حلف الأطلنطي طلب منها المشاركة في مشروع الحلف للدرع المضادة للصواريخ. وهى منظومة دفاعية أمريكية موجهة ضد إيران، تبناها حلف الأطلنطي ويفترض أن تدخل حيز التنفيذ في عام 2015..
وقد تحفظت أنقرة على هذه الخطوة لأنها لا تعتبر إيران عدوا يجب التحسب له. ورغم أن الأمر يفترض أن يحسم قبل اجتماع قمة «الناتو» في لشبونة بعد أسبوعين (في 19 و20 نوفمبر)، إلا أن مسؤولا تركيا قال إن بلاده حريصة على تأمين وحماية أراضيها كلها، وليس فقط تلك القريبة من إيران.
وهذا الموقف التركي المتردد اعتبرته دوائر عدة نوعا من التمرد على الهيمنة الأمريكية.
(3)
شاءت المقادير أن يختتم المشهد بحدثين وثيقي الصلة بالمؤشرات سابقة الذكر، هما:
* أن مجلس الأمن القومي التركي، أعلى هيئة استشارية في البلاد أدخل تعديلات جوهرية على تعريف المخاطر الداخلية والخارجية، وصفت بأنها الأضخم والأشمل في وثيقة الأمن القومي التركي منذ حقبة الحرب الباردة.
وهذه الوثيقة تعرف باسم «الكتاب الأحمر». وتتضمن تحديدا للرؤية الإستراتيجية للنظام القائم إزاء مختلف الملفات الداخلية والخارجية. وبمقتضى التعديل الجديد تم إخراج الجماعات الدينية من خانة التهديد الداخلي، وكانت أنشطة تلك الجماعات تعد قبل التعديل «رجعية» وتهمة سياسية يعاقب القانون كل من يثبت انتسابه إليها.
واكتفى التعديل بحصر التهديد الداخلي في الأحزاب اليسارية الثورية والكردية الانفصالية والدينية المتطرفة التي تلجأ إلى العنف. وإزاء ذلك أصبح من حق الجماعات الدينية أن تمارس أنشطتها العادية طالما أنها ظلت بعيدة عن التطرف والعنف.
من ناحية أخرى اعتبرت الوثيقة أن التخطيط لانقلاب عسكري أو السعي إليه بمثابة تهديد للأمن القومي. وهو ما يعزز موقف الحكومة في اتجاهها إلى محاكمة العسكريين الذين اتهموا في القضايا الانقلابية.
فيما يخص التهديد الخارجي، فإن الوثيقة أخرجت إيران وروسيا وسوريا من خانة العدو. ووضعت روسيا وسوريا في مرتبة الدول التي يجمعها مع تركيا تعاون وثيق. وتلك خطوة أزالت تماما آثار الحرب الباردة من الوثيقة. في الوقت ذاته أثار الانتباه أن التعديلات الجديدة اعتبرت السلاح النووي الإسرائيلي تهديدا حقيقيا للأمن القومي التركي.
وفي الوقت ذاته شددت على ضرورة إخضاع البرنامج النووي الإيراني “للمتابعة الحثيثة”، حيث اعتبرت الوثيقة أن امتلاك إيران للسلاح النووي ــ إذا ما تحقق ــ من شأنه أن يخل بالتوازن الإستراتيجي في المنطقة.
* الحدث الثاني أن الدكتور أحمد داود أوغلو مهندس السياسة الخارجية لحكومة حزب العدالة والتنمية صدرت له في الأسبوع الماضي (عن مركز الجزيرة للدراسات) طبعة عربية منقحة لكتابه «العمق الإستراتيجي» الذي تحدث عن موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية.
وهو الكتاب الذي ينظر للجمهورية التركية الثانية (ما بعد الكمالية)، وقد صدر حتى الآن في 50 طبعة، كما أنه ترجم إلى عدة لغات.
و من الأفكار المحورية التي وردت فيه أن التاريخ والجغرافيا يمثلان العنصرين الأساسيين اللذين تبنى عليهما الإستراتيجية. وهما ثابتان، في حين أن المتغير الذي يجب العمل عليه هو كيفية قراءتهما. وفي رأيه أن تركيا انتزعت عنوة من محيطها بعد الحكم العثماني وخلال سنوات الحرب الباردة. حيث لم يكن من الطبيعي أن توجد تركيا المنتمية إلى حلف الناتو على حدود سوريا المتحالفة مع الاتحاد السوفييتي. وهو أيضا حال تركيا مع العراق وكذلك مع جورجيا وبلغاريا.
في رأيه أيضا أنه لا نهوض لتركيا دون أن تتواصل مع عمقها الإستراتيجي الذي يمتد باتجاه العالمين العربي الإسلامي والقوقاز وأرمينيا وإيران، وأيضا أوروبا. أي أن عليها أن تمتد غربا كما تمتد شرقا وفي كل الاتجاهات. وهو ما تؤهله لها حدودها المتعددة وهويتها المركبة بين آسيا وأوروبا. وتركيا حين تتصالح مع جيرانها فإنها تستثمر الجغرافيا وصولا إلى «تطبيع التاريخ»، بمعنى أن تسير في الاتجاه الطبيعي للأمور وليس على العكس من المعطيات الحاضرة.
من الأفكار المثيرة للانتباه في الكتاب أن الدكتور أوغلو لا يرى أن العلاقة بين تركيا وإسرائيل حققت إيجابية تذكر، وإنما كان تأثيرها سلبيا لأنها همشت تركيا وأبعدتها عن لعب دورها الأساسي في المنطقة، خصوصا أن تلك العلاقة لم تسهم في تحقيق السلام المنشود. أما العلاقة مع إيران فهي في رأيه أكثر أهمية بل هي جوهرية لتركيا من أكثر من زاوية، الأمر الذي يستدعي تنسيقا دائما بين البلدين.
(4)
الذي يقرأ الوقائع والمشاهد التي تحدث على الأرض، ويتابع متغيرات وثيقة الأمن القومي، والأفكار التي طرحها الدكتور أوغلو في كتابه، يدرك أن هناك سياقا مفهوما وخطوطا واحدة، إذ يجد المرء نفسه بإزاء إرادة مستقلة لقيادة امتلكت رؤية واضحة، وضعت المصالح العليا للبلد ودوره في المقام الأول، واهتدت في ذلك بسياسة التطبيع مع التاريخ والجغرافيا.
لا يستطيع المرء أن يطالع هذه الصورة دون أن يقارنها بما يحدث في مصر الآن، التي تعيش في ظل اللايقين واللامشروع. الأمر الذي يحير كل من يحاول أن يتعرف على معالم رؤيتها الإستراتيجية. فمستقبل الحكم في مصر محاط بالغموض وتذهب فيه التكهنات مذاهب شتى. ثم إن موقفها غير واضح سواء في انتمائها العربي ودورها الأفريقي (الانتماء المتوسطي دخل على الخط مؤخرا).
وفي حين أن تركيا فرقت في النشاط الديني بين ما هو سلمي وما هو متطرف ويلجأ إلى العنف، فإن هذه التفرقة ليست معتمدة ولا واضحة في مصر. بنفس القدر،
فالموقف غير واضح إزاء انفصال جنوب السودان، ولا إزاء القضية الفلسطينية أو سوريا ناهيك عن إيران.
وقد أبدى بعضنا استغرابا لدخول مصر في تحالف استراتيجي مع العدو الإستراتيجي (المستشار طارق البشري)، في حين أن نسبة غير قليلة من الناس لم تعد تعرف بالضبط من هو الصديق ومن هو العدو. وهل صحيح أن إسرائيل أقرب إلينا من سوريا؟،
وهل صحيح أن العالم العربي والخليج تحديدا مهدد من إيران وليس من إسرائيل؟.
الأسئلة كثيرة في شأن الرؤية الإستراتيجية، حيث لا يعرف أغلبنا معالمها، في حين أن بعضنا يتساءلون عما إذا كانت تلك الرؤية موجودة أم لا. لكن القدر الثابت أن توفر الإرادة المستقلة يعد مفتاحا مهما لتطبيع العلاقات مع التاريخ والجغرافيا، بمعنى الاتساق مع الثقل التاريخي وإدراك عبقرية المكان وذلك التطبيع المنشود لا يتم في غياب الديمقراطية.
وفي ظل غياب الرؤية المنشودة انقلبت الآية، بحيث وجدنا أنفسنا قد تورطنا في التطبيع مع إسرائيل، وأدرنا ظهورنا تلقائيا للتطبيع مع التاريخ والجغرافيا.