هذا من تصلب معظم القوى المعارضة
لم تنجح قوة معارضة عربية في تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي واحد منذ أن بدأت موجات التحول الديمقراطي في سبعينيات القرن العشرين، وذلك لأسباب متعددة منها القوة الأمنية الضاربة للأنظمة، ومنها عدم إيمان النخب الحاكمة بالديمقراطية، ومنها الدعم الخارجي وارتهان مصالح النخب بمصالح قوى وشركات دولية وغير ذلك.
سأكتب اليوم عن عامل آخر أراه مهما في الحالة العربية، وهو تعلم الكثير من الحكام دروس الآخرين في كيفية تجنب نجاح الإصلاح الديمقراطي، وعدم استيعاب القوى المعارضة -من أحزاب وجماعات- دروس حالات الانتقال الديمقراطي.
الدروس سنن كونية
تأتي أهمية هذا العامل من حقيقة أن طبيعة النظم العربية تشبه إلى حد كبير طبيعة النظم الشمولية التي كانت قائمة في أفريقيا وبعض الدول الأخرى، والتي لم تتغير إلا بثورة شعبية أو حرب عصابات. فالمباراة كانت صفرية بين الحكومات ومعارضيهم الذين شنوا حرب عصابات أو حركات عصيان مدني ضد حكامهم لإزاحتهم عن السلطة، وذلك كما حدث في إيران وكوبا وزائير ورومانيا والبرتغال.. وفي هذه الحالات جاءت أنظمة حكم جديدة لكن غير ديمقراطية..
ولتجنب هذا المصير، ونظرا لأننا لا نريد لدولنا تغييرا دمويا يؤدي إلى أنظمة جديدة غير ديمقراطية، فلابد من الاستفادة من تجارب الآخرين في عمليات الإصلاح السلمي. فما نريده هو إصلاح سلمي يؤدي إلى انتقال هذه الأنظمة إلى الديمقرطية التي تعني تقوية الحكومات بشعوبها عن طريق وجود حكومات ديمقراطية منتخبة من الشعب وتعمل من أجله ويمكن محاسبتها.
ولتحقيق هذا هناك سنن كونية للتغيير، تتطلب أولا التخلي عن أفكار تسود في أوساط المعارضة العربية، وأهمها الاعتقاد الزائف بأن الأوضاع في بلدانهم ليس لها مثيل، وعدم جدوى التعلم من الآخرين.
بالطبع هناك الكثير من الصعوبات أمام التغيير، غير أنه لا بد من إدراك أن زرع روح الاستسلام والعجز هو في حد ذاته أحد أساليب محاربة أنصار الإصلاح، ولا بد من إدراك أن الأوضاع كانت أكثر سوءا في دول أخرى شهدت عمليات انتقال ناجحة.
فالفلبين كان بها ماركوس، رجل أميركا في جنوب آسيا، وصاحب نظام يفوق في تجبره ما نشاهده من حولنا.. والمكسيك شهدت نظاما للحزب الواحد المسيطر (يشبه إلى حد كبير الأحزاب الحاكمة العربية) ظل قائما لأكثر من سبعين عاما، متجاوزا حروبا أهلية وأزمات عالمية مثل أزمتي الكساد العظيم والديون ومعاصرا لحربين عالميتين.
ما الذي لم تتعلمه المعارضة؟
من سنن التغيير أن الأنظمة الشمولية لا تسقط من تلقاء نفسها، وإنما تضعف وتتغير عندما تجد أمامها معارضة صلبة، فالقوة لا يوقفها إلا القوة. ولهذا فتطور الانفتاح السياسي الموجود الآن يعتمد بدرجة كبيرة على طبيعة قوى المعارضة الديمقراطية (الحقيقية لا الشكلية) وتوافقها على قواسم مشتركة، وعلى طبيعة تحركات تلك القوى وأساليبها..
ففي شأن التكتل هناك درس إسباني واضح، فبعدما كانت كل التيارات منقسمة على نفسها، وبعدما كان الشيوعيون يعادون الاشتراكيين، وبعد الخصام بين اليسار واليمين، توحد كل تيار، ثم تكتل الشيوعيون والاشتراكيون، ثم اتفق اليمين واليسار على قواسم مشتركة.
والأهم هنا هو إدراك أن القواسم المشتركة تتطلب تجاوز خلافات المصالح والأيدولوجيا “مؤقتا” والاتفاق “إستراتيجيا” على قواعد اللعبة الديمقراطية (الإجراءات والقيم)، وليس على نتائجها (السياسات).. ولهذا تمحورت القواسم حول أمور محددة، كإجراء انتخابات ديمقراطية (الفلبين وكوريا)، وتحقيق التعددية السياسية (دول شرق أوروبا)، والحكم المدني وإعادة العسكر إلى ثكناتهم (البرازيل)، وإنهاء العنصرية وتحقيق المواطنة (جنوب أفريقيا)..
بالطبع هناك نوع من القواسم المشتركة في بعض الدول العربية، ففي مصر هناك المطالب السبعة عند البرادعي والجمعية الوطنية، لكن حدث أول شرخ للتوافق بإعلان معظم القوى السياسية دخول الانتخابات. وفي اليمن نشأ تكتل حقيقي هو الأفضل عربيا (اللقاء المشترك) ضم معظم القوى الرئيسية، لكن لا يزال الطريق طويلا في ضوء أساليب الحكومة تجاهه وموقف الخارج منه.
وهناك درس آخر يقول إن التكتل يحتاج إلى عمليات تعبئة شعبية لصالح التغيير، ولهذه العمليات سنن كونية، أهمها التركيز على هدف محدد والتنظيم الجيد والمداومة. كما أن أعداد المتظاهرين من العوامل الحاسمة، فلم تنجح المعارضة في أي دولة بمظاهرات يسير فيها مئات أو حتى ألوف من الناس فقط.
في شرق أوروبا وفي الفلبين وفي جنوب كوريا وأوكرانيا وجورجيا سار الملايين في الشوارع، وفي جنوب أفريقيا مثلت التعبئة وسيلة لظهور سلوك جماعي مناهض للعنصرية ولبلورة قيادة معارضة، الأمر الذي رفع تكلفة بقاء النظام ودفعه دفعا إلى التفاوض حول الديمقراطية.
وبرغم أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة تقريبا التي تشهد مظاهرات شعبية من أجل الإصلاح، فإن هناك حاجة إلى ضبط هذه التحركات والتركيز على المطالب السبعة للتغيير، وتحديد الشعارات بدقة وربطها بأهداف محددة، ونبذ فكرة أن المباراة صفرية مع الحكومة حتى يتم جذب المزيد من المتظاهرين.
ولا شك أن التكتل والتعبئة يتطلبان نوعية معينة من السياسيين، ففي الدول متعددة الأعراق -كالهند وماليزيا- كان لتوافق الآباء المؤسسين على الديمقراطية كنظام للحكم وعلى إنشاء منظمة عابرة للأعراق والأديان، بالغ الأثر في خروج البلدين من الحكم الاستعماري إلى الحكم الديمقراطي مباشرة.
كما ساهم انفتاح سواريز واعتداله في إسبانيا، ومهارات فاونسا التفاوضية في بولندا، واعتدال وحكمة مانديلا ودي كليرك في جنوب أفريقيا، وإصرار أكينو واعتدال قادة الجيش في الفلبين والبرازيل.. في استكمال الانتقال في دولهم. هذه النوعية من السياسيين هي التي تحتاجها دولنا في الحكومات وفي المعارضة.
وهناك ظاهرة أكثر سوءا يجب تجاوزها، وهي ترفع الكثير من المستقلين عن العمل السياسي وتأكيدهم على استقلالهم عن كافة القوى. إن الوقت وقت التقدم والاصطفاف مع قوى التغيير وتقديم النصح وتصويب الأخطاء، وكم كان مارتن لوثر كينغ حكيما حين قال إن المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار.
دروس أخرى من إسبانيا والفلبين وكوريا تتعلق بخطاب المعارضة تجاه الخارج، فتغيير مواقف القوى المؤثرة كان بسبب وجود بديل ديمقراطي معتدل، يتواصل مع منظمات المجتمع المدني في الخارج، ولا يخلط قضية الديمقراطية في الداخل مع القضايا الإقليمية والدولية.
وهناك درس هندي لم تستوعبه المعارضة العربية، وعلى الأخص الإسلامية، فحزب المؤتمر آمن بعبثية الانفراد ومحاولة فرض أجندة ضيقة على الآخرين، واختار قادته تشكيل حزب مفتوح أمام الجميع بغض النظر عن دياناتهم وأعراقهم وأيدولوجياتهم، وبهدف مشترك هو خلق هوية هندية جامعة وبناء مؤسسات هندية ديمقراطية تسع الجميع.
أما الدرسان التركي والماليزي فيقولان لنا إن استعصاء الآخر على التغيير لا بد أن يقابله قدرات أكبر على المناورة وخيال أوسع من قبل المعارضين، وذلك بالعمل على تغيير أنفسهم ووسائلهم حتى يمكنهم تغيير الواقع بعد ذلك. فأمام تصلب العلمانيين الأتراك واستهدافهم الإسلاميين، راح الإسلاميون يغيرون من إستراتيجيتهم وأعينهم على الهدف بدلا من الوسائل، فكان أن تجاوز حزب العدالة أساليب أسلافه، لا تخليا عن قناعاته وأهدافه، وإنما لإدراكه أن الفشل في إنجاز الأهداف يعني أن الوقت حان لأساليب أخرى أكثر براغماتية وأكثر قبولا من المجتمع التركي والجماعة الدولية.
وفي ماليزيا آمنت حركة أمنو بأن سياسة بريطانيا لتغيير التركيب السكاني وزرع أقلية صينية لا ينبغي أن تقابل بعد الاستقلال بسياسات انتقام، فكان البديل بتعاملهم مع الأمر الواقع وبناء مؤسسات ديمقراطية تسع الجميع ونظام اقتصادي يقوي الأغلبية ولكن ليس على حساب الأقلية.
وفي النهاية ليس الوضع مثاليا في ماليزيا، لكنه ليس كارثيا كما في معظم دولنا، فماليزيا دولة صناعية كبرى وهي نموذج يحتذى به في التنمية وفي الدمج بين الإسلام والمدنية.
أين هذا من تصلب معظم القوى المعارضة في بلادنا وراء أهداف تاريخية، ومن تحجر طرق تفكيرها وراء شعارات وأساليب عمل يرفضها الواقع؟
دروس يتعلمها الحكام
في المقابل تعلم الحكام أن تآكل شرعية أنظمتهم لا يمكن أن يستتبعه انفتاح سياسي حقيقي، لأن هذا الطريق أدى إلى ديمقراطية حقيقية في دول مثل المجر وبولندا والبرازيل والمكسيك وكوريا وإسبانيا وغيرها، وذلك عندما استغلت قوى المعارضة الانفتاح وكثفت من ضغوطها لخلخلة تماسك الحكومات ودفعها دفعا إلى التنازل.
ولتفادي نفس المصير لجأت حكومات عربية إلى ترميم شرعيتها المتآلكة بتبني انفتاح سياسي محدود انقلب إلى انغلاق سياسي -كما كتبت باحثة غربية- وإلى تعددية حزبية شكلية تحجب الشرعية عن قوى بعينها.
والانتخابات الديمقراطية خط أحمر عندهم، فكم من حاكم شمولي غير عربي ظن أن الانتخابات الديمقراطية ستثبته في الحكم فكانت المفاجأة بهزيمته. لهذا كان رد فعل المؤسسة العسكرية الجزائرية حاسما بإلغاء انتخابات 1990 أمام انتصار جبهة الإنقاذ، وبنفس المنطق كان رد فعل الحكومة المصرية بعد الجولة الأولى من انتخابات 2005 وانتصار الإخوان المسلمين بتزوير الجولتين التاليتين وكل انتخابات جرت بعد ذلك.
أما المشكلات الاقتصادية وأثرها السلبي على شرعية الأنظمة فقد ووجهت بعمليات ترهيب وترغيب ليس لها مثيل أفسدت الإنسان ذاته وجعلته شعلة فساد وإفساد بدلا من أن يرفض الظلم ويحاربه بكل ما أوتي من قوة.
ومن جهة أخرى أدرك الحكام أن كف المؤسسات العسكرية والأمنية -أو جناح منها– عن دعم النظام من العوامل التي أضعفت تماسك حكومات شمولية كثيرة، ولهذا كان إحكام السيطرة على هذه المؤسسات الوطنية وإقحامها في خصومة مع الشعوب وخلق حالة من المصالح المتبادلة بين الفئات الحاكمة وفئات متنفذة داخل هذه المؤسسات.
وللأسف ساعد جو التسطيح والتجهيل العام للنخب والمثقفين في هذا الأمر وصار من المحرمات الحديث عن دور وطني لهذه المؤسسات ضد الفساد والاستبداد، وصار هناك ربط زائف بين تغيير الأنظمة وعدم استقرار البلاد.
وتعلم الحكام أن لا أمان أمام أي تكتل سياسي معارض جاد، ولهذا تعاظمت الاختراقات الأمنية والقمعية وتواصلت عمليات الترهيب والترغيب تجاه فئات كثيرة في المجتمع بدءا من أساتذة الجامعات وانتهاءً بالمشاهير من فنانين ورياضيين وغيرهم خوفا من انضمامهم إلى المعارضة.
ولأن الحركات الديمقراطية في شرق أوروبا والفلبين وغيرها نجحت في وضع قضية التعددية السياسية على الأجندة الأميركية والأوروبية حاصلة بذلك على دعم خارجي قوي، فقد تعلم الحكام عندنا ضرورة الهجوم على كل من يقترب من الخارج بوضع معادلة في غاية التناقض، ففي الوقت التي تربط النخب الحاكمة مصالحها وثروات بلادها بالخارج، تصف كل من يتصل بالخارج لكسر هذه المعادلة بالعمالة وعدم الوطنية!
تتبقى عبرة أخيرة هي أن دوام الحال من المحال، فكم من نظم مستبدة زالت وصارت من ودائع التاريخ. إن التغيير يصنعه -بعد إرادة الله- الإنسان، وللتغيير سبل وآليات أهمها تقدم الإصلاحيين الصفوف ونبذهم اليأس وتكتلهم وامتلاكهم للإرادة وتركيزهم على الأهداف النهائية.
المصدر: الجزيرة