للأستاذ محمد بن المختار الشنقيطي
يروي الأديب عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب (البخلاء) أن شاعرا امتدح والي خراسان بقصيدة عصماء، فلما فرغ قال: قد أحسنت. ثم أقبل على كاتبه فقال: أعطه عشرة آلاف درهم. ففرح الشاعر فرحاً قد يستطار له. فلما رأى حاله قال: وإني لأرى هذا القول قد وقع منك هذا الوقع.. اجعلها عشرين ألف درهم، فكاد الشاعر يخرج من جلده. فلما رأى فرحه تضاعف قال: وإن فرحك ليتضاعف على قدر تضاعف القول، أعطه يا فلان أربعين ألفا. فكاد الفرح يقتله. ثم إن كاتب الوالي أقبل عليه فقال: سبحان الله! هذا -أي الشاعر- كان يرضى منك بأربعين درهماً، تأمر له بأربعين ألف درهم! قال: ويلك! وتريد أن تعطيَه شيئاً؟ قال: وهل من إنفاذ أمرك بدّ؟ قال الوالي: يا أحمق! إنما هذا رجل سرَّنا بكلام فسررناه بكلام. وهو حين زعم أني أحسن من القمر، وأشد من الأسد، وأن لساني أقطع من السيف، وأن أمري أنفذ من السنان، هل جعل في يدي من هذا شيئاً أرجع به إلى بيتي؟ ألسنا نعلم أنه قد كذب؟ ولكنه قد سرنا حين كذب لنا، فنحن أيضاً نسره بالقول ونأمر له بالجوائز وإن كان كذباً، فيكون كذب بكذب وقول بقول. فأما أن يكون كذب بصدق، وقول بفعل، فهذا هو الخسران المبين”.
يبدو أن الرئيس الأميركي أوباما قد أدمن على مخاطبة المسلمين على طريقة شاعر خراسان، أي أنه منحهم بضع جملٍ مجامِلة عجز عنها سلفه العييُّ بوش، لكنه لم يمنحهم “شيئا يرجعون به إلى بيوتهم
“
ويبدو أن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد أدمن على مخاطبة المسلمين على طريقة شاعر خراسان، أقصد أنه منحهم بضع جملٍ مجامِلة عجز عنها سلفه العييُّ جورج بوش، لكنه لم يمنحهم “شيئا يرجعون به إلى بيوتهم” بحسب تعبير أمير خراسان:
ففي خطاب استلام منصبه الرئاسي كشف أوباما عن عزمه على تبني طريقة جديدة في التعامل مع العالم الإسلامي، أساسها المصالح المشتركة والاحترام المتبادل.
وفي خطابه بالقاهرة قال أوباما إنه جاء إلى مصر “بحثا عن بداية جديدة للعلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي”، ووعد بالتعاون في مجالات كثيرة.
وفي خطابه في إندونيسيا ادَّعى أوباما أنه جعل إصلاح العلاقات مع العالم الإسلامي أولوية، وأكد أن “أميركا ليست في حرب ولن تكون في حرب مع الإسلام”.
وإذا كان من صدقٍ في أحاديث أوباما إلى العالم الإسلامي فهو إقراره باتساع الهوة، وانعدام الثقة، وبعمق الجذور التاريخية للخلاف مع الولايات المتحدة، وخصوصا اتخاذ الدول المسلمة أثناء الحرب الباردة “وكلاء دون مراعاة لمطامحها الخاصة” حسب تعبير أوباما في خطاب القاهرة.
ولو أراد الرئيس الأميركي أن يكون أكثر نزاهة لأضاف أن وضع “الوكالة” أو “العمالة” هذا لا يزال كما هو، وأن الولايات المتحدة هي أكثر الدول الغربية استعمالا لقادة الدول المسلمة وكلاء عنها ضد مصالح شعوبهم ومطامحها المشروعة في الحرية والتحرر والعدل.
ومن الواضح –حتى من كلمات أوباما نفسه- أن المسلمين ليسوا السبب في اتساع الهوة وانعدام الثقة، بل النخبة السياسية الأميركية هي السبب. فالدول المسلمة لا تملك قواعد عسكرية في غابات فرجينيا أو في صحراء نيفادا، وليس لديها عملاء من بين حكام الولايات الأميركية، وهي لا تظاهر دولة فاشية على اقتلاع جزء من الشعب الأميركي من أرضه… ولا تفرض عقوبات مدمرة على الدول الأخرى.
لقد اخترق أوباما سقف النخبة السياسية الأميركية بشكل مذهل لا يمكن تفسيره بالكفاءة السياسية ولا ببلاغة الخطاب، ولا يزال الوقت مبكرا للكشف عن السر وراء صعود الشاب الأفريقي، ذي الأب الكيني المهاجر والأم الأميركية المتشردة، إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وهي الدولة التي لا تزال كثير من أبوابها السياسية موصدة أمام مواطنيها ذوي الأصول الأفريقية، حتى الذين عاش أجدادهم هناك منذ قرون.
وقد كشف أوباما في كتابه (أحلام من أبي) ألوانا من مظاهر الثقافة العنصرية في الولايات المتحدة. فهو يذكر –مثلا- أن جدته لأمه ترتبط بقرابة دم مع أناس من إحدى قبائل الهنود الحمر، وقد “كان ذلك النسل مصدرا للخزي الشديد لوالدة جدتي، وكلما ذُكر أحدهم شحب وجهها، وتمنَّتْ أن تحمل هذا السر معها إلى قبرها” (ص 31). كما يذكر أوباما أن شابا أبيض سأله مرة هل كان أبوه “من أكلة لحوم البشر” (ص 80).
ومثل الاختراق العظيم لقمة السلطة الأميركية، حصل أوباما بقدرة قادر على جائزة نوبل للسلام، رغم أنه لم يقدم في خدمة السلام العالمي مثقال ذرة. ولا يزال الوقت مبكرا أيضا للكشف عن دوافع الذين تبرعوا بتسليم تلك الجائزة الثمينة لأوباما على طبق من ذهب، في محاولة لرفعه إلى مصافِّ عمالقة القادة، الذين أعتقوا شعوبهم بحكمة وشجاعة، من أمثال نيلسون مانديلا، ومارتن لوثر كينغ، والماهاتما غاندي… لكن للتاريخ حكمه الذي لا يرحم الزيف، ولا يخضع لموازين القوى الظرفية.
إذا كان أوباما نجح في اختراق سقف النخبة السياسية الأميركية اختراق السهم النافذ، فهو يطمح اليوم إلى اختراق العقل المسلم، بجُملٍ منمَّقة ومجاملات باردة
“
وإذا كان أوباما نجح في اختراق سقف النخبة السياسية الأميركية اختراق السهم النافذ، فهو يطمح اليوم إلى اختراق العقل المسلم، بجُملٍ منمَّقة ومجاملات باردة. وهيهات له أن ينجح في ذلك. فهو رجل يقود دولة تُشعل الحروب في أرجاء العالم الإسلامي سعيا وراء أمجاد إمبراطورية وهمية، وتسلط قوتها في ضرب المسلمين أينما كانوا في مكامن قوتهم المعنوية والعلمية والمادية.. وبدلا من أن يصحح أوباما مظالم سلفه سيئ الصيت، ويطفئ لهيب الحروب التي أشعلها بلده في بلداننا، زاد من القوات الأميركية في أفغانستان. وهو اليوم يحاول اليوم استبدال الاحتلال العسكري للعراق باحتلال سياسي تحت مسمى العلاقات الإستراتيجية والتعاون الأمني.
وليس يهم إذا كان أوباما “مسيحيا بالاختيار” كما قال عن نفسه، أو كان “أول رئيس يهودي للولايات المتحدة” كما قال عنه صديقه المحامي اليهودي من شيكاغو آلان سولو (صحيفة هآرتس 13/11/2008). بل لا يهم إن وصفه المتعصبون الأميركيون -الذي يرون الإسلام سُبَّة- بأنه مسلم يكتم إيمانه، حتى إن أحدهم لقبه “الإمام أوباما”.
ما يهم المسلمين هو سياسة الولايات المتحدة في العالم الإسلامي، وليس شخصية الرئيس الأميركي أو ديانته. وما دامت إسرائيل تستعبد النخبة السياسية الأميركية، والحكومات الأميركية تستعبد حكامنا، وحكامُنا يستعبدوننا، فسيظل من بين المسلمين من يصر على رفع الظلم ومحو الضيم، ويتغنى مع الشاعر أحمد مطر:
أنا عَبدُ رَبِّ غَفورٍ رَحيمٍ
حكيمٍ مَجيدْ
أنا واحِدٌ مِن بقايا العِبادِ
إذا لم يَعُدْ في جميعِ البلادِ
سوى كُومَةٍ من عَبيدِ العَبيدْ.
لقد دعا أوباما في خطابه بجاكرتا إلى التخلص من “الريبة وعدم الثقة” وإلى “صياغة أرضية مشتركة” للتعايش والتعاون. لكنه نسي أن الأرضية المشتركة تستلزم الاعتراف بإنسانتنا المشتركة. والولايات المتحدة تعتبر ستة ملايين مستعمِر يهودي أهم من مليار ونصف المليار مسلم، وتستسهل غزو الدول المسلمة واحتلالها بعد أن تابت كل القوى الاستعمارية من خطيئة الغزو والاحتلال، وتدعم الحكام المستبدين الذين يستعبدون الشعوب المسلمة في الوقت الذي تعظنا بالديمقراطية.. لذلك فليس من أرضية مشتركة أصلا للتعاون والتعايش، فضلا عن الودِّ والاحترام. لأن من التنكر لإنسانيتنا المشتركة أن يكون البعض منا مقدَّسا والآخر مدنَّسا، والبعض منا دمه غال وكرامته مصونة، والآخر دمه رخيص وكرامته مستباحة؟
يحمل بعض المسلمين هما كبيرا حول الصور النمطية السلبية في نظرة الأميركيين إلى الإسلام، ولذلك تسرهم وتدغدغ مشاعرَهم بضعً كلمات إيجابية عن الدين الإسلامي في خطابات أوباما. ولكن هذه الصورة الشوهاء ليست جديدة، وهي لم تولد مع عنف تنظيم القاعدة في العقد الأخير، بل هي ضاربة في عمق الثقافة الأميركية، منذ أن كتب كريستوف كولومبوس في يومياته بشماتة وحقد –وهو متجه إلى القارة الأميركية- يمجِّد ملك وملكة إسبانيا فرديناند وإيزابيلا اللذين بعثاه في رحلته الاستكشافية، ويمتدحهما بأنهما “أعداء دين محمد وكل الضلالات والبدع الأخرى” حسب تعبيره، وأنهما أجهزا على بقية المسلمين في إسبانيا من خلال السيطرة على مدينة غرناطة “حتى لقد رأيتُ بأم عيني أعلامكما الملكية ترفرف على قصر الحمراء… ورأيت ملك المسلمين يخرج من بوابة المدينة ويقبِّل أيديكما” على حد قوله.
وقد تتبع البروفسور جاك شاهين في كتابيْه: (العرب الحقيقيون الأشرار) و(عربيُّ التلفزيون) الجهدَ المنهجي المنسق في هوليوود وفي الإعلام الأميركي لتعميق وإدامة الصور النمطية السلبية عن العرب والمسلمين على مدى مائة عام تقريبا، من نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين.
ليس صحيحا أن الصورة السلبية عن المسلمين هي وليدة هجمات 11 سبتمبر/ أيلول الدامية، بل هي صورة ضاربة الجذور، وهي مرتبطة بما يُفعل بالمسلمين أكثر من ارتباطها بما يفعلونه
“
فليس صحيحا أن الصورة السلبية عن المسلمين هي وليدة هجمات 11 سبتمبر/ أيلول الدامية، أو غيرها من ردود الأفعال الفوضوية التي يرتكبها بعض أفذاذ المسلمين ردا على المظالم الأميركية. بل هي صورة ضاربة الجذور، وهي مرتبطة بما يُفعل بالمسلمين أكثر من ارتباطها بما يفعلونه. فلتشريع ظلم العرب والمسلمين، لا بد صياغة تلك الصورة الشيطانية، وتغذيتها وإدامتها على مر السنين، بغض النظر عن موقفهم من الولايات المتحدة، ولذلك تشمل تلك الصورة الشوهاء أعداء أميركا وأصدقاءها من العرب والمسلمين على حد السواء.
فما يحتاجه المسلمون من أميركا ليس المحبة والمودة وتغيير الصور النمطية السلبية –رغم أهمية تلك المطالب وشرعيتها- بل هم يطالبون بأقل من ذلك بكثير، ألا وهو احترام دمائهم وأموالهم، ورفع الظلم الذي تمارسه أميركا عليهم بشكل مباشر من خلال جيوشها، أو غير مباشر من خلال زبائنها من الحكام ومن الصهاينة.
وإذا كان أوباما جادا بالفعل حول أمن وسلامة المواطنين الأميركيين، فإن اقتلاع الإرهاب من جذوره أمر سهل للغاية، وهو رفع المظالم المزمنة التي يعاني منها العالم الإسلامي على أيدي الأميركيين وحلفائهم. فإن لم يفعل –ولن يفعل- فالأولى أن يوفر على نفسه الخطب الرنانة والمجاملات الباردة. فالمسلمون -شأنهم شأن أي بشر من لحم ودم- سيظلون يمقُتون من يظلمهم، ويقاومونه بما أوتوا من قوة، ولو بالإنكار القلبي.. وذلك أضعف الإيمان.
وقد وصف أوباما جده لأمه بأن “شخصيته كانت شخصية أميركية” لأنه جمع “ذلك المزيج الغريب من الخبرة والمعرفة، وضيق الأفق، وسذاجة المشاعر” (أوباما: أحلام من أبي ص 35) وقد يكون هذا تشخيصا دقيقا للشخصية الأميركية. وقد يتسم بعض الناس في العالم الإسلامي بـ”ضيق الأفق وسذاجة المشاعر”، لكن ليس إلى الحد الذي يجعلهم يحبُّون من يذبحهم، ويحتل أوطانهم، ويستهدفهم في مكامن قوتهم.
لقد صفَّق العديد من العرب والمسلمين لأوباما على كلامه المعسول تصفيقا حارا، ودبّجوا المقالات في الإشادة بخطابه، حتى إن بعض المتعلقين بأميركا تعلقا وثنيا عقدوا مؤتمرات لشرح معانيه وفك مبانيه، مثل مؤتمر الإسكندرية بعنوان “العلاقات بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة الأميركية.. بداية جديدة” الذي حُشد له ثلاثمائة من مثقفي العرب ليناقشوا خطاب أوباما بالقاهرة. وقد كتب كثيرون عن توضيح الخطاب وتشريحه وتمليحه بما لذَّ وطاب من شروح وحواش.. وهذا يكفي.. أمّا أن نمنح كلمات أوباما أكثر من ذلك، أو نبادل القول بالفعل، فـ”هذا هو الخسران المبين” بتعبير بَخيل الجاحظ.
أنصح العالم الإسلامي أن يعامل أوباما كما عامل والي خراسان شاعره، فهو قد سرَّنا بكلام وسررناه بكلام، لكنه لم يمنحنا حقا ضائعا، ولا رفع عنا مظلمة واحدة، وما أكثر مظالم بلده ضد أمتنا.
الحق أني أبغض البخل والبخلاء، لكن كتاب الجاحظ عن (البخلاء) أحب إليَّ من كتاب ابن الجوزي عن (الحمقى والمغفلين).
نقلا عن : http://www.aljazeera.net/NR/exeres/4F3D5641-1CC8-4D2A-B1F5-E29500977D0F.htm?GoogleStatID=1