د. جعفر شيخ إدريس
المنهج العلمي الذي نريد إتباعه في نقدنا هذا هو منهج كان قد اتبعه علماؤنا السابقون الذين تعرضوا لنقد مخالفيهم من المسلمين وغير المسلمين، علماء من أمثال ابن حزم والغزالي والشهرستاني وابن تيمية وغيرهم.
مما تميز به هذا المنهج:
أولا: أن أصحابه كانوا حريصين على أن يقرروا أقوال مخالفيهم كما هي فلا يزيدون عليها ولا ينقصون منها. وهذا أمر مهم لأن الذي يحرف كلام خصمه لا يكون قد انتقده بل انتقد شخصا اخترعه من خياله. وهذا أمر قد يزيد الخصم إصراراً على رأيه الذي يراه الناقد باطلا، وقد يكون فيه تضليلا للذين يثقون بالناقد فيظنون أن ما قاله عن خصومه حق. من أمثلة ذلك ما فعله الشهرستاني.
ثانيا: كان من القواعد التي التزموا بها أن لازم القول ليس بقول. وعنوا بذلك أنه لا ينسب إلى الخصم قول يلزم لزوما عقليا عن قوله ما دام هو لم يصرح به. من أوضح الأمثلة على ذلك قول المعتزلة إن الإنسان يخلق أفعاله الاختيارية. يلزم عن هذا القول أن هنالك أشياء لا يخلقها الله تعالى، وهذا مخالف لقوله تعالى {الله خالق كل شيء} فهل نقول إن المعتزلة ينكرون هذه الآية؟ كلا لأنهم لم يصرحوا بشيء كهذا.
ثالثا: كانوا يميزون بين ما في كلام الخصم من حق وما فيه من باطل فينتقدون الثاني ويزيفونه ولا يترددون في إقرار الأول. من أمثلة ذلك ما قاله الإمام الغزالي في مقدمة كتابه تهافت الفلاسفة. قال -رحمه الله-: «القسم الثاني ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلا من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل منازعتهم فيه».
ثم ذكر مثالاً على ذلك بكسوف القمر ثم قال: «وهذا الفن أيضا لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض. ومن ظن أن إبطال هذا من الدين فقد جنى على الدين وضعّف أمره، فإن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية لا يبقى معها ريبة فمن يطلع عليها ويتحقق أدلتها… إذا قيل له إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيها وإنما يستريب في الشرع. وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقه أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه. وهو كما قيل عدو عاقل خير من صديق جاهل».
رابعا: وكان منهم من ينتقد دعاوى المخالفين نقدا عقلانيا بحتا كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه التي رد فيها على المخالفين ككتاب (الرد على المنطقيين) وككتابه الكبير المسمى (درء تعارض العقل والنقل).
خامسا: وكان الكثير منهم يقارن بين الأفكار التي ينتقدها ليبين أنها رغم بطلانها فإن فيها ما هو أقرب إلى الحق من غيره.
سادسا: ومما لا شك فيه أنهم كانوا يقارنون بين الفكر الذي ينتقدونه والقول الحق الذي يعتقدونه. لكن هذه المقارنة أيضا كانت عند الكثيرين منهم مبنية على حجج وبراهين.
سابعا: مما يتطلبه هذا المنهج العلمي بيان الآثار المترتبة على الأقوال حسنة كانت أم سيئة.
نقول أخيراً:
إن هنالك أمراً يجب التنبيه إليه هو أن التزام المنهج العلمي لا يعصم من الخطأ حتى في العلوم الطبيعية. ولذلك تجد الملتزمين به يرد بعضهم على بعض ليبين خطأه ويبين الصواب الذي اعتقده. وهذا ما كان يفعله أولئك العلماء المسلمون.
قد يقول قائل ما فائدة المنهج العلمي إذن؟ نقول: فائدته أولا أنه وإن كان لا يعصم من الأخطاء إلا أنه يقللها. وفائدته ثانيا أنه يمكن المختلفين من التحاور والرجوع إلى الحق.
سنحاول إذن أن نلتزم بهذا المنهج العلمي في تناولنا للفكر الغربي، وسنركز على جوانبه الجوهرية وجوانبه التي كان لها وما يزال تأثير كبير على المسلمين. سنحاول أن نبين مدى موافقة هذا الفكر وهذه القيم الغربية للإسلام ومدى مخالفتها له.
الفكر الغربي
من البدهي أننا لن نستطيع أن نتعرض للفكر الغربي كله عرضا أو نقدا في هذا المقال القصير. ولهذا فسنكتفي بما نراه أصولا لهذا الفكر وعلى جوانبه المؤثرة في المسلمين حاليا أو ما نظنه مستقبلا. ولن نركز كثيرا على شرح الفكر فإن كثيرا منه معروف، لكننا سننشغل بنقده بذلك المنهج العلمي، وبمقارنته بحقائق الدين الإسلامي والفكر الإسلامي.
في الفكر الغربي تياران كبيران أحدهما هو التيار الغالب في المؤسسات والشخصيات الأكاديمية ولاسيما في أوربا. وهو الفكر الذي بدأ في القرن الثامن عشر وانتشر في أوربا كلها ثم في أمريكا، وهو الفكر الذي سماه أصحابه بالفكر التنويري والذي غلب عليه الصدام مع الدين.
والتيار الآخر هو التيار المحافظ الذي ظل مرتبطا بالدين النصراني نوعا من الارتباط والذي ما يزال له تأثير كبير على السياسة ولاسيما في الولايات المتحدة.
لكن الفكر الغربي كانت وماتزال فيه تيارات مخالفة لهذين التيارين الغالبين كتيار الفكر الماركسي، ثم إن كونه غربيا لا يعني أنه الفكر الذي يسير في ضوئه كل الغربيين إذ أن من الغربيين من ظل منتميا إلى الدين كما قلنا، ومنهم من أنكر أساس هذا الفكر بفطرته.
ما الحركة التنويرية؟ Enlightenment
سمى الغربيون الفكر الجديد هذا بالفكر المستنير وسموا عهده بعهد العقل (Age of Reason) واعتقدوا أن العقل هو الذي يمثل المشروعية والمرجعية النهائية في كل نواحي الحياة البشرية من أخلاق وسياسة واقتصاد وعلوم طبيعية واجتماعية وقضايا دينية وفلسفية.
ولما كان استعمال العقل والاعتماد عليه يقتضي أن يكون الإنسان حرا لا تقيده قيود تشل تفكيره وتعبيره فقد ركزوا تركيزا كبيرا على قضية الحرية.
ولما كان هذا الاتجاه العقلاني رد فعل للتقليد الذي كان سائدا في مجال الدين والفلسفة بل وحتى العلوم الطبيعية، فقد تميز بحدة نقده للأفكار المتوارثة وتشجيعه للناس عامة بأن يستعملوا عقولهم ويحرروا أنفسهم من التبعية العمياء، وكان يهدف لذلك إلى إعطاء عامة الناس حرية أكبر تتمثل في ما أسموه بحكم الذات والحقوق الطبيعية والقانون الطبيعي والربوبية الطبيعية أو الإله الطبيعي.[1]
وقد كانت هذه المبادئ ثورة على اللاهوتية والأليكاركية (حكم الأقلية) والارستقراطية والقانون الإلهي للملوك. لقد كان عهد التنوير عهدا مفارقا للقرون الوسطى التي تميزت بالسلطة الدينية والاقتصاد الموجه، والرقابة على الآراء، إلى عهد الكلام العقلاني والتقويم الشخصي والجمهورية واللبرالية والطبيعية[2] naturalism والمنهج العلمي والحداثة.
ولما كانت التنويرية حركة اشترك فيها عدد كبير من المفكرين فإنها لم تكن تمثل فكرا واحدا متسقا، بل كان هنالك تناقض بين أقوال مؤسسيها. لكن المبدأ الذي كان يجمعهم هو عدم التسليم بالموروثات الدينية والفلسفية وغيرها، والتشكيك فيها ونقدها نقدا عقلانيا كما يتصورون.
في التنويرية القليل مما هو حق ومفيد والكثير مما هو باطل وضال. وكثير من هذا الأخير كان بسبب الظروف الخاصة بأوربا.
إذا كان المنتمون إلى الحركة التنويرية مختلفين بل متناقضين كما تقول مراجع هذا الفكر، فإن منهم من كان أكثر شهرة وتأثيرا من غيره. من هؤلاء الفيلسوف الألماني الشهير عمانيويل كانت. سنبدأ بما كتبه في مقدمة مقال له بعنوان (إجابة عن السؤال:ما التنويرية؟) الذي تقول المراجع إنه كان من أكثر كتاباته ذيوعا وتأثيرا؟
يقول (كانت)، وأنا هنا أترجم عن إحدى الترجمات الانجليزية المنشورة على الشبكة:
«إن التنويرية هي خروج الإنسان من عدم النضح الذي فرضه على نفسه. عدم النضج هو عدم مقدرة الإنسان على أن يستعمل فهمه من غير إرشاد من غيره. يكون عدم النضج هذا مفروضا على الإنسان من نفسه عندما لا يكون سببها عدم الفهم ولكن عدم العزيمة والشجاعة في أن يستعملها من غير إرشاد من غيره. “لتكن لك الشجاعة على استعمال فهمك.” هذا هو شعار التنويرية».
هذا في مجمله كلام صحيح لا يعترض عليه المسلم، بل يجد له أصلا في دينه وكلام علمائه كما سنبين، لكنّ هنالك فرقا بين أن يعطل الإنسان عقله ويعتمد على غيره في فهمه، وبين أن يستعين بغيره على الفهم. الأول هو المذموم وأما الثاني فلا يمكن أن يكون فهم مستقيم إلا به، وإلا كان على كل إنسان أن يبدأ من جديد كلما أراد أن يفكر في أمر من الأمور.
لكن كانت كما يقول أحد مقدمي مقاله هذا كان كسائر التنويريين يعني بهذا الاستقلال أن لا يعتمد الإنسان على تشريع ديني بل ولا حتى على إرادة الله تعالى[3].
وإنما يعتمد فقط على عقله لأن العقل مكون بطريقة تمكن صاحبه من الوصول إلى الحقائق بغير استعانة بتلك المراجع الدينية.
هذا الاعتقاد الذي ساد كما ذكرنا في القرن الثامن عشر كان فيما يبدو لي الأساس الذي اعتمدت عليه كل أنواع الفكر الغربي في كل نواحي الحياة تقريبا سواء في ذلك ما كان منها حسنا وما كان سيئا. فالدعوة إلى اعتماد الإنسان على نفسه في الفهم قادت إلى الفردية ثم إلى الأنانية. وكانت أيضا سببا في الدعوة إلى المساواة ثم الدعوة إلى أن يكون الناس هم الحاكمين لأنفسهم لا يعتمدون في ذلك على رضى ربهم ولا على تشريع منزل من عنده، ولا يرضون بأن يكون الحكم ملكيا أو حكم قلة.
وهذا هو الذي دعاهم لأن يعودوا إلى الحكم الديمقراطي الذي كان سائدا في أثينا لفترة من الزمان. وعدم الثقة بالأديان وكثرة النقد الموجه لها أدى إلى التسامح الديني، لأنه إذا كان كل دين مشكوكا في صحته، فما مسوغ شدة الخلاف بسببه، وما مسوغ امتناع أي أحد في أن يختار منه ما شاء؟ وقد اغتر كثير من الغربيين بالدعوة إلى الاعتماد على العقل فلم يميزوا بين استعمال العقل والسير مع الهوى، بل حسبوا أن كل ما يخطر ببال أحدهم مما يراه محقق لما يظن أنه مصلحة أو ما يراه مشبعا لما هو شهوة إنما هو دليل على استقلاله واعتماده على عقله.
لماذا وقف التنويريون من الدين ذلك الموقف شبه العدائي؟
لهذا سببان:
أولهما: الاستكبار فكثير من الناس لا يريد أن يكون لله تعالى سلطان عليه ولا تشريع يلزمه به وهذا أمر قديم. فالقرآن يذكرنا بأن بعض الناس كانوا رغم اعترافهم بوجود الخالق ينكرون أن يكون سيبعثهم فيحاسبهم أوأن يرسل لهم رسلاً يأمرونهم وينهونهم. ولأمثال هؤلاء قال الله تعالى: )أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى . أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى . فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى . أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى( [القيامة: 36 ـ40]
أما السبب الثاني: فهو أن هؤلاء التنويريين وكثيرين غيرهم من غير المسلمين لم يجدوا بين أيديهم كتباً منزلة صحيحة يعتمدون عليها بل اكتشفوا بعقولهم أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون وحيا من الله تعالى. لكن الذي يؤخذ عليهم أنهم لم يبحثوا عن الدين الصحيح، بل اعتقدوا كما لا يزال يعتقد الكثيرون منهم أن الدين الوحيد هو دينهم فإذا ثبت بطلانه فكل دين سواه باطل. وهذا ما حدث في عصرنا لرجل قال عن نفسه في كتاب له عن تجربته مع دراسة ما يسمونه بالكتب المقدسة. قال: مما لا شك فيه أن تلك الدعوة إلى استعمال العقل كانت لها آثار حسنة. فهي التي خلصت الناس من تبعية كانت لآراء أرسطوطاليس حتى في المسائل الطبيعية. وهي التي خلصتهم من الخرافات التي كانت مرتبطة بالدين، كما خلصتهم من التبعية العمياء لرجاله الجهلاء.
وإذا كانت الحركة التنويرية قد بنيت على أساس التعارض بيه العقل والدين فإن المسلمين لم يجدوا في كتاب ربهم ما يدعوهم إلى مثل هذا القول. إنهم يقرؤون كتاب ربهم فيجدون أنه يصف الكفار، لا المؤمنين بعدم الالتزام بالعقل. وهذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية يكتب أكبر كتبه في عدم التعارض بين الشرع والعقل[4] لكن الشيخ لخص موقف علماء المسلمين من علاقة العقل بالشرع تلخيصا وافيا في قوله في كتاب آخر: وأما أئمة أهل السنة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم من أئمة المسلمين، فهؤلاء أتوا بخلاصة المعقول والمنقول، إذ كانوا عالمين بأن كلا من الأدلة السمعية والعقلية حق، وأنها متلازمة. فمن أعطى الأدلة العقلية اليقينية حقها من النظر التام علم أنها موافقة لما أخبرت به الرسل، ودلته على وجوب تصديق الرسل في ما أخبروا به. ومن أعطى الأدلة السمعية حقها من الفهم علم أن الله أرشد عباده في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية التي بها يعلم وجود الخالق وثبوت صفات الكمال له…
إلى أن قال: فدل على أن مجرد العقل يوجب النجاة، وكذلك مجرد السمع. ومعلوم أن السمع لا يفيد دون العقل، فإن مجرد إخبار المخبر لا يدل إن لم يعلم صدقه، وإنما يعلم صدق الأنبياء بالعقل.
لكن المؤسف حقا أنه في الوقت الذي كانت فيه هذه الحركة التنويرية تدعو الناس في الغرب إلى استعمال عقولهم، وكانت بلا شك من أسباب نهوضهم، كان العالم الإسلامي قد وصل إلى ما يقرب من درجة الحضيض في التبعية والتقليد وقبول الخرافات. ولا بد أن هذا كان سبباً بل ربما كان السبب الأساس في تخلفه بالنسبة للغرب.
لكن الأمر الذي أراه غريباً ومحيراً هو تأثر بعض علمائنا بمسألة التعارض بين العقل والشرع حتى صاروا يصفون بالعقلانية أو بصاحب المذهب العقلاني كل من يرون فيه انحرافاً عن الدين الحق. مع أنك تقرأ كتاب الله تعالى كله من أوله إلى آخره فلا تجد فيه أن الله تعالى عزا ضلال أحد إلى اعتماده على عقله، وإنما يعزو ذلك إلى إتباعه لهواه. وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى:
)فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( [القصص:50]
القيم الغربية
يلاحظ على حديث معظم الغربيين عن القيم الغربية ما يلي:
أولا: أنهم يدخلون فيها كل ما هو سائد عندهم اليوم في مجال السياسة أو الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية أو الدين أو غير ذلك من غير تمييز بين ما هو من خصائصهم وما هو أمر مشترك بينهم وبين غيرهم، وما هو أمر عابر يوشك أن يتغير. تراهم لذلك يدخلون في ما يسمونه بقيمهم أشياء مثل:
الحرية الفردية التي صارت تشكل حرية كل أنواع الاتصالات الجنسية بين المتراضين، الديمقراطية، حكم القانون، المحاكم العادلة، الانتخابات، القيم الخلقية، التسامح الديني، حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حق السفر.
ثانيا: القيم التي يعتزون بها هي كما قال بعضهم قيم انتقائية لا ذكر فيها لأمور مثل الشمولية التي نشأت أول ما نشأت في الغرب، ولا للاسترقاق الذي استفحل أمره في الغرب وبقي لمئات السنين.[5]
ثالثا: ولا يفرق معظمهم بين ما هو قيم غربية بمعنى أنها نشأت وترعرت في الغرب، وبين ما كان مصدره غير غربي.
رابعا: إذا ما تكلم بعضهم عن القيم الإسلامية فإنهم لا يفرقون بين ما هو حاصل في البلاد الإسلامية وبين ما هو من الدين الإسلامي.
خامسا: أن دعاتها لا يعترفون بفضل الإسلام على الغرب، وربما كانوا جاهلين به. لكن بعضهم يعترف بهذا الفضل. هاهو كاتب في جريدة بريطانية يقول:
إن معرفة بالإسلام حتى لو كانت سطحية تكشف عن تاريخ طويل من التطور العلمي، وأهمية العقل، والتسامح الديني، وحكم القانون. لما ذا يعتقد الناس الآن أن هذه المبادئ المهمة إنما هي حقوق طبع محفوظة لفترة من فترات التاريخ الأوربي؟[6]
وهذا كاتب غربي آخر يكتب مقالا بعنوان (درس في الإنسانية للغرب المغرور) يقول في بداية مقاله:
إن كثيرا من القيم الغربية التي نعتقد أنها متفوقة جاءت من المشرق وغرورنا الأعمى يضر بمكانتنا في العالم.
ثم يمضي الكاتب ليقول إنه يعيش في دلهي بالقرب من بقايا العاصمة المغولية التي بناها الإمبراطور أكبر نهاية القرن السادس عشر. ويقول إنه في هذه العاصمة كان أكبر ينصت باهتمام إلى ما يقوله الفلاسفة والصوفية والعباد من كل ملة وهم يتناظرون في مزايا معتقداتهم وهو ما يعد أول تجربة في المحاورة الرسمية بين الأديان.
ثم يقول: إن هذا كله حدث في الوقت الذي كان اليسوعيون يشنقون في لندن ويقطعون أرباعا في تايبم في اسبانيا والبرتقال. لقد كانت محاكم التفتيش تعذب كل من يتحدى معتقدات الكنيسة الكاثوليكية. لقد كان (أكبر) رجلا واحدا تمثلت فيه كل القيم التي ندعي نحن في الغرب أنها قيمنا[7].
سادسا: صار الكثيرون من الغربيين في زماننا هذا يدعون أن قيمهم ليست قيما غربية أو أوربية فحسب كما كانوا يقولون في الماضي، وإنما هي قيم إنسانية صالحة لكل البشر. والكثيرون منهم يدعون هذا لمجرد تسويغ تدخلهم في شؤون الشعوب الأخرى. ما الدليل على أنها قيم إنسانية كما يدعون؟ إن الدليل إما أن يكون بكلام نعلم بيقين أنه كلام الله، وإما أن يكون بأدلة من العلوم الطبيعية أو النفسية. ولا نعلم في ذاك ولا في هذا ما يشير إلى أن أشياء مثل إباحة الشذوذ هي قيم إنسانية صالحة لكل الناس في كل زمان ومكان.
سابعا: لكن ينبغي الاعتراف بأن القيم الغربية، حتى ما كان منها من باب الانحراف، بل ولاسيما ما كان منها من هذا الباب بدأت تنتشر انتشاراً واسعا في العالم بما في ذلك العالم الإسلامي. خذ مسألة أزياء النساء مثلا. إن ما تلبسه المرأة مبني في الثقافات الجاهلية كلها بما فيها الثقافة الغربية على أساس جذب أنظار الرجال. هذا كلام يقوله بالنسبة للغرب بعض قائدات ما يسمى بالحركة النسوية، يقلنه لا موافقة له بل اعتراضا عليه لأنهن يردن للمرأة أن تكون مستقلة عن الرجال. وهو ما تقوله بعض اللائي من الله عليهن بالإسلام. أذكر أن إحداهن قالت بعد أن تحجبت كلاما فحواه أن تلك كانت أول مرة تشعر فيها أنها لبست شيئا لنفسها لا للرجال.
والنساء عندنا في العالم الإسلامي انقسمن ثلاثة أقسام. فقسم سار في طريق النساء الغربيات فلم تعد ترى فرقا بينهم وبين أولئك كما هو مشاهد على شاشات التلفاز. وقسم أراد أن يظل مستمسكا بدينه، لكنه أراد في الوقت نفسه أن يراعي القيم الغربية. فلما كان القرآن الكريم يقول لها (وليضربن بخمرهن … ) فإنها صارت تغطي شعرها وصدرها. لكنها لم تعد تلتزم ببقية ما يتطلبه الحجاب منها. فالمقصود من الحجاب (على عكس المقصود من اللبس الجاهلي) أن يكون حجابا عن الرجال. والحجاب يعني أن تلبس ما يغطي جسمها، ولا يكون شفافا يكشف عما تحته، ولا يكون محددا لمعالم جسمها. وقسم ثالث ظل بحمد الله تعالى مستمسكا بالحجاب الشرعي.
ثامنا: ما السر في تأثر الناس في العالم كله هذا التأثر الشديد بانحرافات الثقافة الغربية ولا سيما في مجال المرأة؟
لعل سبب ذلك أمران:
أولهما: ضعف الاستمساك بالدين. قال تعالى: )فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . إِلا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا( [مريم:59ـ60]
فكلما حصل التهاون في أداء الصلوات قوي الميل إلى الشهوات.
وقال تعالى: )يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ( [الأعراف:27]
ثانيهما: التفوق الهائل الذي وصل إليه الغرب في كل مجالات العمران والاقتصاد والتسلح والإعلام وغيرها. والناس كثيرا ما يربطون خطأ بين التقدم العمراني وصحة المذهب الذي يعتنقه أصحاب ذلك العمران. قال تعالى عن كفار قريش:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا . وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} (مريم 73ــــ74)
قال ابن كثير: «… ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم (خير مقاما وأحسن نديا) أي أحسن منازل، وأرفع دورا، … يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على الباطل، وأولئك الذين هم مختفون مستترون … على الحق»؟
تاسعا: دعوى بعض الغربيين المعاصرين بأن قيمهم قيم إنسانية عالمية دعوى لا دليل عليها. وذلك لأن مثل هذه الدعوى العريضة يجب أن تستند على أحد دليلين: فإما أن تكون كلاما لله سبحانه في مصدر علمي يقيني، وإما أن تكون مما أثبتته العلوم التجريبية ولاسيما البيولوجية والنفسية. لكننا لم نجد أحدا منهم يستدل بشيء منه هذا.
إذا كان المقصود بالقيم الغربية هو كما قلنا القيم السائدة في الغرب فإن في هذه نفسها ما يدل على أنها لا يمكن أن تكون قيما إنسانية عالمية. كيف وليس في الغرب قيم ثابتة يقال عنها هذه هي القيم التي يستمسك بها الغرب؟ في ذلك يقول الدكتور علي مزروعي:
لقد تغيرت القيم تغيرا سريعا في الغرب في العقود الماضية في الوقت الذي تطورت فيه الثورات في التقنية وفي المجتمعات، من أمثلة ذلك أن العلاقات الجنسية قبل الزواج كانت تستنكر استنكارا شديدا في الغرب إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت هنالك قوانين تحظر الممارسات الجنسية خارج نطاق الزواج، وما يزال بعضها موجودا في القوانين، وإن كان لا يطبق إلا قليلا. وأما الآن فإن الجنس قبل الزواج فأمر شائع إذا كان برضى الوالدين.
ثم ذكر أمثلة أخرى منها أن الشذوذ كان يعد جريمة في بريطانيا إلى عام 1960 وأنه بينما ألغت كل الدول الغربية عقوبة الإعدام فإن الولايات المتحدة لم تلغها بل زادت في السنين الأخيرة من عدد المحكوم عليهم بالانعدام.[8]
الديمقراطية
ما علاقة الديمقراطية بالحركة التنويرية؟
من المؤكد أن تلك الحركة لم تكن هي التي اخترعت النظام الديمقراطي. لكنها كانت السبب في بعثه بعد ألفي عام من موته في مهده أثينا. لماذا بعثوه؟ لأنهم رأوا أنه أكثر النظم تمشيا مع مبادئهم ولاسيما مبدأ الحرية. فهم قد رفضوا الحكم الدكتاتوري ملكيا كان أو غير ملكي. ورفضوا ما يسمونه بالأولغاركية oligarchy وهو حكم قلة متسلطة، فوجدوا أن الديمقراطية هي حكم الشعب لا حكم فرد أو بضعة أفراد. لكن السبب الأعظم في اختيارهم للدمقراطية فيما يظهر هو كونها تؤيد دعواهم بأن البشر ليسوا بحاجة إلى تدخل من قوة إلهية لتسسيير شؤونهم، بل هم قادرون على ذلك بحكم تكوينهم البشري. يظهر هذا جليا في الحجج التي يسوقها مفكروهم لتسويغ الدمقراطية.
تنقسم هذه الحجج إلى نوعين، حجج فكرية فلسفية ساقها المفكرون من أنصار الدمقراطية، وحجج عملية قال بها بعض السياسيين.
تتلخص الحجج الفكرية الفلسفية في خمس حجج هي العلم والمساواة والحرية وحكم الذات، وكون الديمقراطية أحسن الخيارات المتاحة. وبما أننا لن نستطيع أن ندخل في تفاصيل هذه الحجج في مقالنا هذا فقد رأينا أن نركز على واحدة منها نراها أهمها، وأما الحجج الأخرى فقد تعرضنا لها في كتيب عن (مشكلات الديمقراطية وبدائلها الإسلامية) نرجو أن ييسر الله تعالى إكماله وإصداره.
العلم والأمانة
العلم والأمانة شرطان لا يكون الحكم محققا للغاية منه إلا بهما، لأن الذي يحكم بأن الأمر الفلاني يجب أن يفعل أو أن يجتنب إنما يقول هذا ــ أو إنما يجب أن يقوله ــ لما يعلم من النتائج التي تترتب على فعله أو تركه. لكن العلم وحده لا يكفي بل يجب أن تصحبه الأمانة، أي يجب أن يكون الحاكم قاصدا للحق أو الخير فلا يحكم بما يرى فيه مضرة ويدعي أن فيه مصلحة. القول بأن الحكم للشعب يفترض أن كل المواطنين عندهم من العلم والأمانة ما يجعلهم أهلا لأن يكونوا هم المشرعين لأنفسهم. لكن هذا الافتراض عليه إشكالات كثيرة منها:
1. أنه لو كان الأمر كذلك ما كنا لنحتاج إلى اللجوء للأغلبية لأن الذين يتساوون في العلم والأمانة لا بد أن يحكموا حكما واحدا لا اختلاف فيه، أي أن يكون كل حكم لهم بإجماعهم. لكن اللجوء لحكم الأغلبية يفترض أن هنالك اختلافا بين الحاكمين. والخلاف لا يكون إلا بسبب الجهل أو سوء القصد أو هما معا. وإذن فإن حكم الأغلبية الذي يعد اليوم جوهر الدمقراطية يتناقض في حقيقتها مع أهم مسوغ من مسوغاتها.
2. وأنه لو كان كل المواطنين في كل وطن عالمين بمصالحهم لما احتاجوا إلى اكتساب علم جديد يساعدهم على تصور أحسن لما هو خير لهم ولمجتمعهم. لكن الواقع أن الناس يسعون لاكتساب العلم ويعترفون بمدى تأثير ما اكتسبوه من معلومات على مواقفهم السياسية. فاكتساب العلم يؤثر إذن في نوع التشريع أو الحكم الذي تحكم به الأغلبية. وكما أن العلم يؤثر فكذلك القيم تؤثر. فإذا ما سادت في المجتمع قيم غير التي كانت سائدة في قبل ذلك تغيرت أحكامهم بسبب للمعايير الجديدة التي تبنوها.
3. وإذا ادعى مدع بأن العلم مهما كان نوعه لا تأثير له في ما يحكم به الشعب، يقال له هذا كلام يشهد العقل ببطلانه. فالذي يقوم يصوت بنعم معبرا عن قبوله لأمر ما بناء على تصوره بأنه يزيد من فرص الوطن في اكتساب الثروة مثلا، سيصوت عليه بلا معبرا عن رفضه له بناء على معرفة جديدة بأنه يفعل عكس ذلك تماما. إنه من المستحيل عقلا أن يكون سبب ما العلة في قبول شيء ويكون نقيض ذلك الشيء هو أيضا علة في قبوله. ثم إن هذا معناه أنه لا داعي لاكتساب معارف جديدة إذا كان اكتسابها لا تأثير له في الأحكام.
4. وإذا لم يكن العلم ولم تكن الأمانة في الشعب كله، فمن أين لنا أن نعلم أنهما في أغلبيته؟ لندع حسن القصد الآن جانبا. هل العلم ـ وبالتالي صواب الحكم ـ هو دائما في جانب الأغلبية؟
يقول نقاد الديمقراطية: كلا، ويجعلون هذا من دعامات رفضهم لها. فلنبدأ بأول هؤلاء في التاريخ، أعنى أفلاطون الذي يقول مبينا جهل الحكام في النظام الديمقراطي:
تصور شيئا كالآتي يحدث في سفينة أو قافلة من السفن: مالك السفينة أكبر وأقوى من أي راكب، لكنه يعاني من ضعف في السمع والبصر ولا يدري كيف يبجر بالسفن. البحارة كلهم يتشاجرون في من يجدر به أن يكون ربان السفينة، كل واحد منهم يرى أنه يجب أن يكون هو ربانها بالرغم من أنهم لم يتعلموا فن الملاحة … بل إنهم ليصرون على أنه ليس هنالك من فن ملاحة يمكن أن يتعلم، ولذا فإنهم مستعدون أن يمزقوا إربا كل من يدعي غير ذلك.
ما يزالون جميعا متجمهرين حول مالك السفينة يرجوه كل واحد منهم بأن يترك الدفة له. وأحيانا عندما يكون غيرهم في موضع القيادة فإنهم يقتلونه أو يرمونه في البحر. ثم إنهم يمخرون بالسفينة بعد أن قد خدروا المالك بالخمر أو العقاقير أو بشيء آخر يمخرون بالسفينة، يقضون على كل مؤن السفينة، ويجرون بالسفينة بطريقة تتوقع من أناس أمثال هؤلاء…. إنهم لا يدرون ألبتة أن الربان يجب أن تكون له معرفة بالفصول، وبالسماء، وبالنجوم، وبالرياح، وكل شيء آخر عن السفن إذا كان له أن يكون متحكما في السفينة. ولا يدرون أن هنالك فنا يمكن الربان من أن يقرر في أي اتجاه يوجه السفينة، بغض النظر عما إذا كان الآخرون يريدون الذهاب إلى هنالك أم لا. ولا يعتقدون أن أحدا يمكن أن يتقن مثل هذا الفن.[9]
نقد أفلاطون للديمقراطية من أكثر أنواع النقد إحراجا للغربيين لأن قائله من أعظم فلاسفتهم بل ربما عده بعضهم أعظمهم حتى غلا فيه فيلسوف وعالم رياضيات بريطاني كبير فقال إن كل الفلسفة الغربية لا تعدو أن تكون هوامش على كتابات أفلاطون. وما يزالون يدرسون كتبه ويكتبون عنه كأنه رجل معاصر. ومع أن هذا النقد فيما يبدو هو نقد للحكم التنفيذي لا التشريعي الذي هو محل اهتمامنا، إلا أنه يمكن القول بأنه إذا جهل بعض الناس فن الحكم التنفيذي فحري بهم أن يكونوا أجهل بالحكم التشريعي.
يقول بعض المدافعين عن الديمقراطية من منظريها المحدثين إن نقد أفلاطون وأمثاله غير مقبول لأسباب منها:
أولا: أن القرارات السياسية قرارات خلقية، وأن أفلاطون كان يفترض خطأ أنه من الممكن العلم بالقيم الخلقية. لكننا في هذا العصر نرى أن هذا العلم غير متيسر، وبالتالي لا نرى أن هنالك خبراء فيه كالخبراء في المسائل الحسية أو الطبيعية. وما دام الأمر كذلك فلا رأي أجود من رأي في الأمور الخلقية، وعليه فمن حق الناس جميعا أن يحكموا. وعليه فإن الديمقراطية التي تأخذ برأي الأغلبية هي خير طريقة للوصول إلى القرار السياسي.
لكن بإمكان المدافع عن رأي أفلاطون أن يقول: وإذن فالديمقراطية في رأيكم هذا إنما تصلح لمن كان موافقا لكم في أن العلم بالصواب الخلقي مستحيل. فالديمقراطية لا تصلح إذن إلا في جو ثقافي مثل هذا الذي نسبتموه إلى العصر ولابد أنكم تعنون العصر في البلاد الأوربية، وإلا فإن الناس في العالم كله ما يزالون يعتقدون بإمكانية العلم بحسن الأخلاق وسوئها. بل إن هنالك أعدادا كبيرة ـ ربما كانت الأغلبية ـ حتى في الغرب نفسه ما زالت تؤمن مثل هذا الإيمان. وإلا فلماذا يكون موضوع الإجهاض في أمريكا موضوعا سياسيا ساخنا، بلغ من الحدة بحيث أن بعض من يسمون بأنصار الحياة قتلوا طبيبا معروفا بإجراء عملياته واعتبروه قاتلا. ثم إن القرارات السياسية ليست كلها أخلاقية، وعليه فحتى لو سلمنا بأن الناس في الغرب اليوم لا يعتقدون بإمكانية العلم بحسنها وسوئها، فإن المشكلة ما تزال قائمة. أفكل ما يقدم للمجالس التشريعية من مشاريع قوانين ودراسات حولها إنما هو مسائل خلقية بحتة لا تؤثر فيها الحقائق والأرقام والحجج العقلية؟
وبإمكانه أن يقول إن الدعوى بأن الحكم بقبول شيء أو رفضه حتى في المجال السياسي هو حكم خلقي بحت ليس بصحيح ونحن نرى الناس يبنون أحكامهم على ما يعدونه ــ بحسب ما توفر لديهم من معلومات ــ خادما لمصلحة شخصية أو عرقية أو حزبية أو قومية.
ثانيا: يرى النفعيون أنه حتى حين تكون القرارات خلقية فإن الديمقراطية هي خير الإجراءات وذلك أنهم يجعلون القرارات على درجتين الدرجة الأولى التي يعبر كل إنسان فيها عن اختياره، عما يرى أنه في مصلحته الشخصية، وكونه محققا لسعادته. هذا قرار لا علاقة له بالأخلاق. أما الدرجة الثانية فهي التي تحسب فيها قرارات المرحلة الأولى ويحكم بأن القرار النهائي هو الذي يحقق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس. وهذا هو القرار الأخلاقي.[10]
بإمكان نصير أفلاطون أن يقول: لكن رأي النفعيين هذا قائم على افتراض أن كل إنسان أعلم بمصلحنه وما يحقق له سعادته، وهو افتراض باطل. وذلك لأن العلم بالمصلحة ليس مجرد شعور وهوى وإنما هو أمر مرتبط بحقائق موضوعية لا يتوفر العلم بها لكل الناس بل ولا لأحد منهم. ثم إذا كانت الديمقراطية إنما تحقق مصلحة الأغلبية فإنها تكون ظالمة للأقلية، فلا تكون هي حكم الشعب بل حكم فئة منه.
ثالثا: يقول بعضهم إن حجة أفلاطون تعتمد على افتراض أن الغاية هي تحقيق ما هو أصلح للمجتمع. لكن هب أن هذه ليست هي الغاية، أو أنها ليست الغاية الوحيدة، فالحجة إذن لا تستقيم. “مثلاً إذا كنا نريد أن نتملق الجماهير، أو نتودد إليهم، أو نسكن من غضبهم، أو نعطيهم إحساساً ما بأنهم يتحكمون في مصائرهم، أو نتفادى غضبهم أو أسئلتهم، أو نشعرهم بأنهم مهمون، فإن وسائل أخرى قد تكون أجدى. وعليه فإن من الوسائل ما قد يكون أقل جودة في نتائجه من حيث الحقيقة، لكنه يحقق نتائج أحسن إذا لم تكن الحقيقة هي الغاية. وعليه فإن فقدان الحقيقة لن يكون نقدا مناسبا لهذه الوسائل، إلا إذا كان توخي الحقيقة ذا أهمية أكبر من الغايات الأخرى. لكن كون هذا كذلك أو لا، يعتمد بصفة عامة، على ما نريد أن ننجزه”[11].
وأقول لولا أنني وجدت هذا الكلام في كتاب يعد من أحسن الكتب في فلسفة الديمقراطية لما صدقت بأن إنسانا عاقلا يمكن أن يعده حتى مجرد احتمال جدير بالمناقشة. يبدأ الاعتراض بعبارة ” إذا كنا نريد … ” من أنتم الذين تريدون هذا؟ إن حديثنا هو عن الشعب كله. فهل الشعب هو الذي يريد هذا؟ هل الشعب هو الذي يريد أن يتملق الشعب؟ هل الجماهير هي التي تريد أن تتودد إلى الجماهير؟ وهل … وهل؟ لا بد أنكم تتحدثون عن فئة من الناس تريد أن تفعل هذا كله، ومن المؤكد أنه من شرط نجاحها فيما تريد أن تخفي هذا كله عن الجماهير، إذ أنها لا تستطيع أن تصارحهم بأنها إنما تريد أن تتملقهم أو تتودد إليهم، أو .. أو … . بل لا بد أن يكون هذا كله قائما على الكذب عليهم وإظهاره في صورة ترضى عنها الجماهير. لكن كل هذا يؤكد رأي أمثال أفلاطون بأن الناس لا يعلمون كلهم، وإلا لما استطاعت قلة منهم أن تخدعهم مثل هذا الخداع. بل إن المتفقين مع أفلاطون قد يقولون إن نظاما سياسيا يجعل هذا ممكنا لهو النظام الذي ينبغي أن يرفض.
رابعاً: أنه حتى على افتراض أن المعرفة هي القيمة الكبرى التي على أساسها ينتخب الحكام، وعلى فرض أن هنالك من هو أعرف من غيره، فيجب ـ لكي ننصبهم حكاما ـ أن نعرف من هم. ولكن يبدو أنه ليس هنالك من وسيلة لتحديد هؤلاء الذين يعلمون. كيف نعرفهم؟
نقول هذا وإن كان أمرا صعبا ـ ولا سيما إذا كان الحكم علمانيا ـ فإنه ليس من المتعذر. بل لعله من الممكن حل هذه المشكلة حتى في نطاق النظام الديمقراطي إذا ما استحدثنا فيه مبادئ جديدة غير معهودة الآن لكنها غير متناقضة مع فكرة الديمقراطية، وسأعرض لشيء من هذا حين يأتي الحديث عن الانتخابات بإذن الله تعالى.
خامساً: أنه قد تكون هنالك حالات ـ ولا سيما حالات جماعات صغيرة ـ لا يكون الفرق في المعرفة أو الخبرة بين أعضائها كبيرا. فمما لا شك فيه أن رأي الأغلبية في مثل هذه الحال سيكون الأقرب إلى الصواب.
نقول: هذا أمر لا شك فيه. لكن لا يلزم ناقد الديمقراطية باعتبارها نظام حكم أن يكون رافضا لكل شيء فيها في كل حال من الأحوال. وهذه منها.
سادسا: أنه قد تكون هنالك حالات لا يكون المعول فيها على مجرد العلم أو الخبرة، بل يحسن فيها اعتبار قيم أخرى، مع المعرفة أو بدونها.
نقول: وهذا أيضا نقد مقبول إذا كان موجها لأفلاطون بالذات. لكن قولنا فيه هو قولنا في سابقه. بل إن هذا لأمر معتبر في الإسلام.
من أقوى الأدلة على بطلان كون الشعب أو أغلبيته عالم بمصالحه مؤتمن عليها أنه لا أحد من الآخذين بالنظام في العالم كله يسلم بهذه الدعوى أو يأخذها مأخذ الجد. إن الدليل على أنهم لا يعتبرون الأغلبية مؤتمنة على صيانة الحقوق أنهم في الغرب وفي البلاد المقلدة له لا يؤمنون بالديمقراطية على إطلاقها بل يقيدونها باللبرالية فديمقراطياتهم ديمقراطية ليبرالية. ما معنى ذلك؟ معناه أن حكم الشعب مقيد بكون ضمن إطار قيمي معين هو الإطار اللبرالي. ماذا تقول اللبرالية؟ تقول إن للإنسان الفرد حقوقا جوهرية غير قابلة للمساومة ولا يجوز لأحد أن يتغول عليها حتى ولو كان هذا المتغول هو الأغلبية (سواء كان أغلبية المواطنين في استفتاء عام، أو أغلبية نوابهم في مجلس تشريعي). سنبين ـ حين نأتي لمناقشة اللبرالية ــ أن هذا فوق كونه ينقض الافتراض بأن الشعب أو أغلبيته عالمة بما هو مصلحة مؤتمن على التعبير عنها، فإنه ينقض فكرة الديمقراطية نفسها، لأن الديمقراطية مبنية على أن السيادة التشريعية للشعب، لا لدكتاتور، ولا لفئة من الناس، بل ولا لكتاب منزل وإنما هي للشعب. فكيف يقال إن هذا الشعب صاحب السيادة التشريعية محكومة قراراته بقيم اللبرالية؟ ما أساس هذه القيم خيرا كانت أم شرا؟ هل هي مما شرع الله؟ هل هي مما رأته فئة من المواطنين؟ على كل حال فإنها مهما كان مصدرها تتنا قض مع مبدأ سيادة الشعب التشريعية.
الرأسمالية
حديثنا هنا ليس عن النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد في العالم اليوم والذي بدأت بعض أعمدته تنهار وبدأت أخرى تهتز في الولايات المتحدة وفي أوربا وغيرها، حديثنا ليس عن هذا النظام وإنما هو عن النظرية الفلسفية التي يقوم عليها، والتي كان الاهتداء بها هو السبب الحقيقي لما يعاني منه النظام الرأسمالي من مشكلات. نقول إن الكارثة الاقتصادية الراهنة كانت دليلاً يضاف إلى أدلة أخرى على فشل النظرية التي قام عليها الاقتصاد الرأسمالي. وهي دليل من ناحيتين: من ناحية أن العمل بالنظرية هو الذي أدي إلى الكارثة، ومن ناحية أنه اتضح أن علاج الكارثة تطلب الخروج على ما تقتضيه.
تقول النظرية إن الاقتصاد الناجح هو اقتصاد سوق يسمح بالملكية الفردية وبالبيع والشراء والادخار ويترك للسوق تحديد أسعار السلع، وأن هذا كله ينبغي أن يكون في حرية كاملة لا يحد منها أي تدخل من الدولة. كان الفيلسوف والاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث الذي عاش في قرنهم الثامن عشر هو أكثر من اشتهر بالقول بهذه الفلسفة الرأسمالية، لكن المؤرخين يقولون إنه هو نفسه تأثر بكتابات ماندافيل الذي كان أكثر منه غلواً في هذا الأمر فهو المشهور بقوله: «إن الرذائل الفردية هي فضائل اجتماعية في مجال الاقتصاد». كان سميث وغيره يقولون إنه لا بأس على الفرد أن يندفع لتحقيق مصالحه بدافع الأنانية، بل قال بعضهم بدافع الطمع ليحقق مصالحه وأن النتيجة ستكون ـ بفعل يد الخفية ـ أمراً لم يخطر على بال الفرد، هو الصالح العالم لكن الواقع أن هذه اليد الخفية لم تقم بالمهمة التي عزاها إليها سميث وغيره، وإنما أدى ذلك الطمع الفردي المتروك له الحبل على غاربه إلى تقسيم الثروة تقسيما ظالما بحيث أن قلة قليلة من المواطنين تصل أحيانا إلى عشرة بالمئة تمتلك ما يصل أحيانا إلى تسعين بالمئة من الثروة، ولا يمتلك التسعون بالمئة الباقون إلا عشرة بالمئة منها، مما جعل بعض الاقتصاديين الأمريكيين يقولون ساخرين إنه يبدو أن شيئا أصاب تلك اليد فشلّ ها. وقد بدأت الفجوة بين الأغنياء والفقراء تزداد حدتها منذ سنين مما جعل بعض الاقتصاديين يقولون إنه إن استمر التفاوت على تلك الوتيرة فسيؤدي حتماً إلى كارثة اجتماعية.
إن الأمر المثالي للنظرية الناجحة أن تكون النتيجة أحسن فأحسن كلما كان واقع العمل بها أقرب إلى مثالها النظري. لكن الغريب في النظرية الرأسمالية أنه لو كان الواقع قريبا من مثالها ودعك أن يكون مطابقا له لكانت الكوارث أكثر فأكثر. الصورة المثالية لهذه النظرية الرأسمالية هي أن لا يكون للدولة أدنى تدخل في النشاط الاقتصادي. لكن هذا معناه أن لا تفرض الدولة على الناس ضرائب، ولا تضع قوانين تقيد بها النشاط الاقتصادي، كأن تمنع صنع بعض الأشياء الخطرة أو المتاجرة بها، وكأن تحدد الأماكن التي تبنى فيها المصانع، وتضع لها شروطا صحية وبيئية وغير ذلك. لكن كل هذه القيود ما زالت تحدث إلى حد ما في الدول الرأسمالية. الدولة إذن تدخلت لكن تدخلها لم يكن بالقدر الذي يرفع الظلم، بل كانت تميل دائما إلى إعطاء حرية أكبر للأغنياء مهما أدى ذلك إلى التضييق على الفقراء.
خذ نظام الضرائب في الولايات المتحدة مثلا. إن الضريبة لا تؤخذ من رأس المال كما هو الحال في الزكاة وإنما تؤخذ فقط من دخل الفرد في العام المالي. وهذا معناه أنه إذا كان هنالك شخصان أحدهما يمتلك مليوني دولار والآخر لا يمتلك شيئا، لكن دخل كل منهما في السنة المالية كان مئة ألف دولار، فإن نسبة ما يؤخذ منهما ستكون متساوية، أي أن الضريبة لا تتعرض لرأس المال الذي كان موجوداً قبل السنة المالية. قال كيفن فلبس في كتابه عن “الديمقراطية والثروة” إنه لو أخذت ضريبة مقدارها ثلاثة بالمئة على رؤوس الأموال في أمريكا وحدها لما بقي على وجه الأرض فقير! ولعل القارئ لا حظ أن هذه النسبة قريبة جدا من نسبة الزكاة التي تفرض فعلا على رؤوس الأموال.
لكن دعاة الرأسمالية في الغرب ما يزالون يدافعون عنها رغم كل ما يرون من آثارها الضارة. أتدرون ما السبب في هذا؟ السبب إنهم ظنوا أن البديل الوحيد للنظام الرأسمالي الذي عهدوه هو النظام الاشتراكي الذي عرفوا صوراً منه في الاتحاد السوفيتي وفي الصين قبل التعديلات التي أحدثها الصينيون فيه. وهم بهذا يخلطون بين كون الرأسمالية اقتصاد سوق وبين كون كل اقتصاد سوق هو بالضرورة اقتصاد رأسمالي.
لكن الحقيقة هي أن هنالك بديلا ثالثاً هو الاقتصاد الإسلامي الذي هو اقتصاد سوق لكنه سوق منضبط بضوابط القيم الإسلامية وهي قيم يغلب عليها مراعاة مصالح الفقراء مما يجنب المجتمعات الآخذة بها ذلك التفاوت الفظيع الذي نتج عن النظرية الرأسمالية. في قول الله تعالى:) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا( [البقرة:275]
بيان لهذين الأمرين ففي إحلال البيع إقرار باقتصاد السوق، وفي تحريم الربا تقييد له بقيم إسلامية هي في مصلحة الفقراء. ثم تأتي الزكاة التي هي أيضاً في مصلحة الفقراء، بل تأتي القاعدة العامة التي تأمر بأن لا يكون المال دولة بين الأغنياء. وإذا كان الغربيون لم يعرفوا النظرية الرأسمالية إلا في صورتها التي قال بها سميث وغيره، فإننا نعلم من القرآن الكريم أنها نظرية قديمة كان من بين من قالوا بها قوم شعيب الذين رفضوا دعوة نبيهم لهم إلى العدل في معاملاتهم المالية بحجة أن المال مالهم فلهم الحق أن يفعلوا فيه ماشاؤوا. قال تعالى: )وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( [هود:84 -87]
شعار الفلسفة الرأسمالية يكاد يكون ترجمة لقول قوم هود هذا. فقوم هود يريدون أن يفعلوا ما شاؤوا والفلسفة الرأسمالية تقول “دعه يعمل” laissez fair أي لا تتدخل في نشاطه الاقتصادي.رفض الإسلام الفلسفة التي احتج بها قوم هود على أساس أن المال ليس مملوكا ملكية مطلقة للبشر وإنما هو مملوك لله الذي يأمر البشر بأن يتصرفوا فيه تصرفا عادلا وفق أوامره سبحانه.
من الآثار الحسنة التي نتجت عن هذه الكارثة أن كثيرا من المفكرين من اقتصاديين وغير اقتصاديين لم يعودوا يؤمنون بالنظرية الرأسمالية القحة، بل صاروا يدعون إلى تدخل من الدولة لإقرار العدل وصاروا يذمون الأنانية والطمع الذي كان من أسباب هذه الأزمة. فالفكر الاقتصادي بدأ بهذا يقترب من الهدي الإسلامي الذي يقر اقتصاد السوق في حدود قيم العدالة. والمأمول أن يكون في هذا عبرة لإخواننا المسلمين يعيد إليهم الثقة بتعاليم ربهم ويشجعهم على الاستمساك بها في نشاطهم الاقتصادي لكي يضربوا للناس مثلا عمليا بحسنها وجدواها. وقد بدأ الاهتمام بتعاليم الإسلام الاقتصادية في المجالات الأكادمية في الغرب، بل إن الأمثلة العملية للمؤسسات الاقتصادية الإسلامية بدأت تبدي نجاحها بالنسبة لوصيفاتها الغربية كما يحدثنا البروفسر علي خان أستاذ القانون بجامعة ووشبيرن بولاية كنساس الأمريكية في مقال له عن الكارثة الاقتصادية[12]
علاقة الديمقراطية بالرأسمالية واللبرالية
الديمقراطية السائدة في الغرب الآن تسمى بالديمقراطية اللبرالية كما أنها ديمقراطية مرتبطة بالرأسمالية. وقد كتب المفكرون الغربيون أنفسهم في ما يرونه من تناقض بين هذه المبادئ. فاللبرالية تتناقض مع الديمقراطية لأن الديمقراطية تجعل الشعب هو السلطة التشريعية العليا، لكن اللبرالية تقول إن لكل فرد من الناس حقوقا لا يجوز حتى للأغلبية أن تتغول عليها. من الذي أعطى الأفراد هذه الحقوق؟ هذا سؤال لم يستطيعوا الإجابة عليه. فمنهم من قال لأنها حقوق صدر بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لكن على أي أساس صدر ذلك الإعلان نفسه؟ ثم ألا يجوز للأمم المتحدة التي أصدرته أن تغير فيه وتبدل؟ ومنهم من يقول إنها حقوق أجمع الناس عليها في العالم كله. ولكن لو كان الأمر كذلك لما كانت هنالك من حاجة لأن يصدر بها إعلان أو تجعل في قوانين. إن المسلم يؤمن بحقوق للإنسان يوافق بعضها بعض ما جاء في ذلك الإعلان لكنه يقول إنه حقوق أعطاها الخالق لعباده فلذلك لا يجوز لهم أن يحرموه منها.
الفكر العلمي
أحسن ما عند الغربيين من فكر هو الفكر العلمي المستند إلى أدلة حسية وعقلية والذي يسمى سينس science وهو في مفهومه العام يشمل العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وأحياء وغيرها، لكنه يشمل أيضا كل علم اجتماعي سار على مناهج هذه العلوم.
كيف ينظر المسلم إلى هذه العلوم وكيف يقومها؟ ينظر إليها نظرة المتقبل المقدر لها الآخذ بها. لماذا؟
أولا: لأن منهج هذه العلوم منهج يقره دينه. فالله تعالى يقول: )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [النحل:78]
هذا معناه أن الحس والعقل هما الوسيلتان اللتان يكتسب بهما الإنسان العلم سواء كان علما دينيا أو كان علميا دنيويا. وهذه العلوم تقوم على المشاهدة والتجربة وعلى قوانين عامة ونظريات تختبر صحتها بتلك المشاهدة والتجربة، فما أبطلته كان باطلا، وما شهدت له كان صحيحا، لكن لا يشترط في الصحة أن تكون أمرا يقينيا بل يكفي فيها غلبة الظن. وكل هذه أمور مقبولة في الإسلام.
ثانيا: لأن هذه العلوم علوم مفيدة كما دلت على ذلك تجربة الغربيين معها، وكما دلت على ذلك تجربة المسلمين قبلهم معها. فالأمة التي لا تأخذ بها ولا بما يبنى عليها من تقنيات تظل متخلفة في مجالات الاقتصاد والقوة العسكرية والإعلام وغيرها بالنسبة للأمم التي تأخذ بها. وكل أنواع القوى هذه أمور يحتاج إليها المسلمون لبقاء دينهم وللدفاع عنه ولتبليغه.
ثالثا: لأن لهذه العلوم مكانة كبيرة في التاريخ الإسلامي. كما يدل على ذلك ما كتبه المسلمون وغير المسلمين في تاريخ العلوم وكيف أن الغرب الذي تفوق على المسلمين الآن فيها كان هو في البداية قد أخذ عن المسلمين وتأثر بكشوفاتهم ونظرياتهم. ليس هذا فحسب بل إن المسلمين رغم تأخرهم فيها بالنسبة للغرب ما يزالون يشاركون في تطورها بتجاربهم وكتاباتهم في المجلات العلمية حتى في البلاد الغربية. لكن كل هذا لا يرضي طموح المسلم المتطلع إلى أن يصير للمسلمين القدح المعلى في هذه العلوم وتقنياتها. ولذلك فإنه يأمل أن يتطور الفكر العلمي في بلاده في كل مجالاته، مجال المؤسسات التي ترعى هذا العلم، ومجال التخصصات الدقيقة فيه، والمجال العام الذي يجعل من الفكر العلمي هذا فكرا جماهيريا بقدر المستطاع.
رابعا: لأن المسلمين بدؤوا يجدون في ما توصلت إليه هذه العلوم من حقائق تؤيد ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسسوا لذلك علما أسموه بالإعجاز العلمي. والمقصود بالإعجاز هنا كون القرآن والسنة سبقتا إلى تقرير بعض الحقائق التي اكتشفتها العلوم الطبيعية لاحقا، والتي ما كان من الممكن أن يعرفها بشر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بالوسائل المتاحة للناس في ذلك الزمان. من أحسن الأمثلة على ذلك مسألة تطور الجنين التي يقول عنها العالم الكندي كيث مور كما نقل عن الأستاذ الدكتور زغلول النجار:
إن التعبيرات القرآنية عن مراحل تكون الجنين في الإنسان لتبلغ من الدقة والشمول ما لم يبلغه العلم الحديث, وهذا إن دل على شيء فإنما يدل علي أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا كلام الله, وأن محمداً رسول الله[13].
في مثل هذه الكشوف تصديق لقوله تعالى: )سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ( [فصلت:53]
خامساً: ولأننا نريد أن نصحح مسار هذه العلوم بأن نخلصها من الفلسفة المادية الإلحادية التي صارت إطارا لها. تتمثل هذه الفلسفة الإلحادية في القول بان العالم مكتف بنفسه لا يحتاج إلى تدخل من خارجه، وأن حوادثه يجب تفسيرها بظواهر من النوع المشهود فيه. لكن هذا معناه أن عدم قبول أي دليل من داخل العالم على حقيقة في خارجه.
وإذا كان عصر تنويرهم لا يؤمن إن آمن إلا بإله لا يتدخل في الكون ولا يرسل رسلا، فإننا نؤمن بإله لا يحدث شيء في الكون إلا بإذنه وعلمه وإرادته وقدرته، ونؤمن بأن هذا الإله هو الذي أرسل محمدا بالدين الحق، ولذلك فإذا كان الملحدون الماديون يحصرون مصادر المعرفة في الكون وحده، فإننا نؤمن بأن للمعرفة مصدرين هم خلق الله وكلام الله تعالى. وقد رأينا كيف أن حركة الإعجاز العلمي قد أثبتت توافق الحقائق الكونية مع الحقائق الشرعية.
الهوامش:
[1] الألوهية الطبيعية deism هي الاعتقاد في خالق خلق الخلق ثم تركه وشأنه فلا يتدخل في سير حركته الطبيعية ولا الاجتماعية
[2] مبدأ ينكر كل التفسيرات الروحية والخارجة عن الكون لما يحدث فيه ويقول إن العلوم الطبيعية هي وحدها الأساس لكل ما يمكن أن يعلم.
[3] http://www-personal.ksu.edu/~lyman/english233/Kant-WIE-intro.htm
[4] الكتاب هو المسمى (درء تعارض العقل والنقل) تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم وهو في طبعته هذه التي تشمل تعليقات المحقق والفهارس يتكون من أحد عشر جزءا.
[5] Western Values, Wikipedia, the Free Encyclopedia.
[6] Medeleine Bunting, ( The Convenient Myth that Changed a Set of Ideas into Western Values) Guardian News & Media 2008, published 4/9/2006.
[7] William Dalrymple, )A lesson in humility for the smug West(, The Sunday Times, October 14, 2007
[8] http://www.alhewar.com/AliMazrui.htm
[9] Republic,488a-d.
[10] ما المقصود بالأخلاقي؟
[11] Ross, op.cit, p. 153>
[12] http://www.counterpunch.com/khan09272008.html
[13] http://forums.way2allah.com/showthread.php?t=14953
المصدر: http://moslimonline.com/?page=artical&id=2799 عن موقع الدكتور جعفر شيخ إدريس