(نشر هذا المقال على حلقات في صفحة منتدى القراء في جريدة الشرق القطرية ، وقد حذفت أجزاء منه لأسباب تتعلق بضيق المساحة، وفيه وجهة نظر هامة إن لم تكن كلها صواباً ففيها من الصواب الكثير)
الحمد لله مُوْلي النعم ودافع النقم ، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة لجميع الأمم ، وعلى آله وأزواجه وأصحابه ذوي الفضل والنجابة والكرم ، فقد تابعنا على مدى أسابيع ما أمطرتنا به بعض القنوات الفضائية من مناظرات ومباهلات ، بعد أن قام أحد السفهاء المخبولين بإقامة “احتفال” بذكرى وفاة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها ، تنافس فيه جمع من الأوباش على سب السيدة المطهرة من فوق سبع سماوات في قرآن يتلى إلى يوم القيامة ، وما كان لهذا الاحتفال أن يذكر بهذا الشكل أو يكون له مثل هذا الحضور ، لولا الدور الذي قامت به تلك القنوات في نشر أخباره على مسمع ومرأى من الملأ ، وشحن الناس لمتابعته .
وسأحاول في هذه المقالة – بإذن الله - أن أحلل ما حدث من وجهة نظري القاصرة ، والتي أرى أنها قد لا تتفق مع وجهة نظر الكثير من الأفاضل الذين تحمسوا وحملوا الأمر على أنه من باب الانتصار لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، لا لأنني أرى أن ما سأكتبه هو القول الفصل في هذا الأمر ، ولكن من باب إعطاء الفرصة للناس للنظر إلى الأمر من زاوية أخرى ، وتحفيزهم على الاستفادة من الآراء المختلفة بذهن مفتوح ، ولنبدأ على بركة الله .
نقطة البداية
لا شك عندي أن إقامة هذا الاحتفال البغيض بذكرى وفاة السيدة عائشة رضوان الله عليها – فوق كونه زندقة – فهو ينم عن تشوه خطير في العقل ، ولكن هذا الحدث وما نجم عنه من ردود أفعال يحتاج إلى أكثر من وقفة لاستخلاص العبر ، بعد أن هدأ الغبار الذي أثارته هذه الضجة ، فأصبح من المتعين على العاقل أن ينظر حوله لمعرفة ما جرى وما يجري على أرض الواقع ليكوِّن فكرة شاملة عن المشهد ، لا أن يقتصر في إصدار حكمه على جزء صغير من الصورة ، وقد أفضى لي كثير من الفضلاء العقلاء بمدى استيائهم من هذه المناظرات منذ بداياتها الأولى وقبل أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه ، لما رأوه فيها من الإسفاف والاستخفاف بعقول الناس فضلا عن اطِّراحهم لمناهج العلماء التي تضبط إقامة مثل هذه المناظرات ، ولكن التيار جارف ، والناس متلهفون في البحث عن أي شيء يوهمهم بالنصر على عدوٍّ ما ، ولو كان على شاشات التلفاز ، فلعل ما أكتبه هنا يكون محفزا لطائفة من الناس كي يكونوا أكثر حذرا مما ينصب لهم من الفخاخ مستقبلا ، وإن كنت على يقين أن ما سأكتبه سيثير استياء البعض ، لأنهم رأوا فيما حدث انتصارا لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وكل من خالفهم فهو إما أن يكون مع أعدائهم ، أو متخادلا مخذِّلا لأخوانه ، وهؤلاء - وإن كان أكثرهم من الطيبين ذوي النوايا الحسنة - إلا أنني أرجو أن يسمحوا لي بمخالفتهم فيما ذهبوا إليه ، وأن تتسع صدورهم لمن ينظر للأمر من زاوية مختلفة عنهم .
ما هي المباهلة ؟
ترددت هذه الكلمة أخيرا على الأفواه ، ولاكتها الألسن ، وربما لا يعرف كثير من الناس معناها ، وإن استشعروه ، وهي كلمة جديدة على معظمهم ، وربما طرقت أسماعهم لأول مرة بعد هذه الهوجة الهوجاء ، ولنبدأ بتعريفها ، فالمباهلة لغة من بَهَلَهُ بَهْلًا ، أي لَعَنَهُ ، واسم الفاعل بَاهَلَ ، والأنثى بَاهِلَة ، وبها سميت القبيلة ، والاسم البُهْلَة بضم الباء وفتحها، وبَاهَلَهُ مَبَاهَلَةً أي لَعَنَ كل منهما الآخر وجَدَّ في التضرع إلى الله تعالى .
وجاء في الموسوعة الفقهية : بَاهَلَهُ مُبَاهَلَةً ، لعن كل منهما الآخر وابتهل إلى الله : ضرع إليه ، وبَهَلَهُ بَهْلا : لَعَنَهُ ، ومنه قول أبي بكر : من ولي من أمر الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله ، أي لعنته ، وباهل بعضهم بعضا : اجتمعوا فتداعوا فاستنزلوا لعنة الله على الظالم منهم ، وفي أثر ابن عباس رضي الله عنهما : من شاء باهلته أنه ليس للأَمَةِ ظِهَار .
ومعناها في الاصطلاح غير بعيد من معناها لغة .
وقد جاء ذكر المباهلة في القرآن الكريم في قوله تعالى : {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَة اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين}[آل عمران:61]
وسبب نزول هذه الآية عندما طلب النبيُّ صلى الله عليه وسلم المباهلةَ مع وفد نصارى نجران في أمر المسيح عليه السلام ، فأبوا منها ورضوا بالجزية بعد أن أَعْلَمَهُم كبيرُهم أنهم إن باهلوه اضطَرَم عليهم الوادي نارا ، فإن محمدا نبيٌّ مرسل ، ولقد تَعْلمون أنه جاءكم بالفصل في أمر عيسى ، فتركوا المُباهَلَة وانصرفوا إلى بلادهم على أنْ يؤدوا فِي كل عام ألف حُلَّة في صفر ، وألف حلة في رجب ، فصالَحَهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بدلا من الإسلام . انظر تفسير القرطبي .
لماذا الآن ؟
الأحداث لا تنشأ من فراغ ولا تتمدد في الفراغ ، فلا بد للعاقل أن يفطن لتوقيت الأحداث التي تجري من حوله ، حتى يمكنه أن يفسرها تفسيرا ينفذ به إلى ما دون السطح ، وبالتالي يتمكن من الحكم على الأمور وتقدير العواقب ، وإلا لما كان لبني الإنسان فضل على سائر العجماوات .
وأول سؤال ينبغي أن نسأله لأنفسنا إزاء هذا الحدث هو : لماذا الآن ؟
قد يقول قائل بأن ما حدث ما كان ليحدث لولا قيام ذلك السفيه بقذف السيدة عائشة رضي الله عنها ، فكان من المتعين الدفاع عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذب عن أمنا عائشة رضي الله عنها.
ولكن في المقابل نعلم جميعا بأن هناك طوائف من المنتسبين للإسلام ديدنهم سب الصحابة وأمهات المؤمنين منذ قرون ، بغض النظر عن مبرراتهم التي يسوغون بها هذا الفعل الشنيع ، فما الجديد في الأمر ؟
وما الذي يجعل هذه القنوات تتسابق إلى الإعلان عن هذا الأمر وكأنهم يكتشفونه لأول مرة في التاريخ ؟ وكأنهم ما كانوا ليعلموا به لولا أقدام ذلك السفيه عليه .
دفاع عن السيدة عائشة .. أم دفاع عن النفس ؟
إن ما حدث – في ظني – يكشف حالة الأزمة التي تعيشها بعض التيارات التي تسمي نفسها إسلامية ، فأرادت هذه التيارات أن تظهر نفسها أمام العامة بأنها هي المدافعة عن مقدسات الإسلام ، وهي التي تمثل الإسلام الصحيح النقي ، كما هو معروف في خطابها ، بعد أن لطخوا صورة الإسلام بتعصبهم الأعمى وساعدوا أعداء الإسلام – بجهلهم تارة وعنادهم تارة – على تصوير المسلمين على أنهم من غير جنس البشر ، بل هم للوحوش أقرب ، وما نجم عن أفكارهم في بلاد المسلمين في العراق والصومال واليمن وغيرها ، دليل شاخص على ذلك ، فقتلوا المسلمين بأدنى شبهة ، واستحلوا دماءهم وأموالهم بحجة أنهم مشركون ، وهدموا المساجد ونبشوا القبور بحجة صيانة جناب التوحيد ، ولم يكتف بعضهم حتى تمنى أن يأتي اليوم الذي تهدم فيه القبة الخضراء في المسجد النبوي ، واتهموا كل من خالفهم أدنى مخالفة بالزيغ والضلال ، حتى لو كان منهم ، كل ذلك وأكثر جعل هذا الفكر محاصرا بأفعاله ، ومنقسما على نفسه ، ووضعه في موضع التهمة أمام الناس ، وقد لاحظوا مؤخرا أن الناس بدأوا يتبرمون بأفعالهم ويعرضون عنهم لتشددهم وغلظتهم ، فبدأ بعض دعاتهم مؤخرا يركب موجة التهريج والإسفاف طمعا في أن يستميل قلوب العوام إليه .
ثم لاحت الفرصة أمام أعينهم بهذه المناظرات الهزلية ، واتسعت دائرتها وانخرط فيها جمع كبير منهم ، وبعدها حدث من ذلك السفيه ما حدث ، فوجدوها نُهزة لترويج بضاعتهم الكاسدة وليستعيدوا قواعدهم المفقودة ، وليثبتوا لأتباعهم ومن يجهلون حقيقتهم بأنهم هم المخلصون في الدعوة إلى الإسلام ، وأن من عداهم متقاعسون مداهنون على حساب العقيدة الحق بزعمهم ، حتى رأينا بعضهم في خضم هذه الهوجة يسأل : أين جماعة كذا من الدفاع عن عرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أين فلان وعلان من الذب عن أم المؤمنين ؟؟ وكأنه يريد أن يقول: ليس على الساحة غيرنا ، فانتقلت المعركة من كونها دفاعا عن عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أصبحت فرصة سانحة لتصفية الحسابات مع المخالفين لهم من التيارات الأخرى ، والربط على قلوب الأتباع وجلب المزيد من المؤيدين لفكرهم ، وهنا تنكشف حقيقة النوايا ، ويظهر المحرك الحقيقي لهذه الغضبة المُضَرية ، فبان أنهم غير معنيين بالدفاع عن السيدة عائشة بقدر ما هم معنيون بالدفاع عن أنفسهم وتلميع صورتهم ولو على حساب الدين .
الدكاكين الفضائية .. والدجاجة التي تبيض ذهبا!
لا يغيب عنا أن الثورة الإعلامية التي يشهدها العالم أفرزت عشرات القنوات - أو الدكاكين - الفضائية ، فانتشرت كالوباء من كل لون ونوع ، وأخذت تعبث بكل شيء تطاله يدها تحت مسمى الحرية الإعلامية والفضاء المفتوح ، وابتكرت أساليب شتى في الاحتيال لأكل أموال الناس ، تخاطب غرائزهم تارة ، وأحلامهم تارة أخرى ، وتلعب على كل الحبال وتعزف على كل الأوتار ، وظهرت بعض القنوات التي صبغت نفسها بصبغة إسلامية ، يديرها خليط غير متجانس من الهواة الذين لا تتخطى معرفة أكثرهم بالإعلام صحفَ الحائط والإذاعةَ المدرسية ، فمنهم من هو محمل بأفكار جاهزة للتفجر في وجه المجتمع ، ومنهم من يحمل بين كتفيه رأسا لا تكاد توجد فيه مسكة من عقل أو حكمة ، ومنهم صاحب أغراض مشبوهة ، ومنهم من لا يهمه سوى رؤية طلعته البهية على الشاشة ، ولكن كل ذلك لا يهم أصحاب تلك الدكاكين ما دامت برامجهم تدر الأموال وتتخم أرصدتهم .
ومما يندى له جبين كل حر عفيف أن ترى بعض هذه القنوات – الدكانية – تبث تلاوات للقرآن الكريم طوال اليوم ، وشريط الإعلانات الذي يلتهم الشاشة مشحون بالدعاية لمستحضرات طبية لعلاج الأمراض التناسلية!!! وفي أحسن الحالات تعلن عن اكتشافات وأدوية لم يسمع بها غيرهم لعلاج “جميع” الأمراض المستعصية !! بداية بتبييض البشرة إلى جميع أنواع السرطان ، فيا لها من استهانة بالقرآن الكريم ؟ .
وعندما وقعت هذه الفتنة وافقت هوى عند بعض أرباب الدكاكين الفضائية ممن امتهنوا الإثارة لاحتلاب الأموال من جيوب مشاهديهم السذج بشتى الطرق ، لكي يتخموا أرصدتهم المتخمة أصلا بالأموال ، وهم يعلمون أن كثيرا من هؤلاء المشاهدين المتحمسين لو سألتهم عن أسماء الخلفاء الراشدين لاحتاروا في الجواب ، والنابه منهم قد يحسب أن صلاح الدين الأيوبي كان من الخلفاء الراشدين ، ولو سألتهم عن خالد بن الوليد رضي الله عنه لظنوه لاعب كرة قدم ، فمثل هذا الجمهور الذي يجهل دينه هذا الجهل المُردي ، لا بد أن يقع صيدا سهلا ، وفريسة يسيل لها لعاب تجار الدكاكين الفضائية .
كيف وقد جاءتهم هذه الفرصة على طبق من ذهب ، وبمعاونة أناس عرفوا بالنزق وقصر النظر ، واستعدادهم لأن يقولوا أي شيء وكل شيء بدعوى بيان الحق وكشف الزيف بلا مداهنة ، ولسهولة الاحتيال على هذه العقول الساذجة ، أوهموهم بأنهم أوقفوا قنواتهم على الدفاع عن مقدسات الإسلام ، وبأنهم يقفون معهم على خط الدفاع الأول في مواجهة الفرق والطوائف والعقائد المنحرفة والمحرفة ، فنصبت الخيام ، ورفعت الأعلام ، ونودي : هل مِن مبارز ؟؟
وتقاطر جهابذة الفضائيات يستعرضون عضلاتهم في لقلقة اللسان والزهو الزائف ، ووضعوا أمامهم تلالا من الكتب ، ونهشوا أوقات الناس وعقولهم ، يلقون على مسامع العوام قضايا خطيرة ، وتناظروا في مشكلات عويصة في علوم العقائد مما قد تقصر عنه أفهام الخائضين فيها والمستمعين لها على السواء !!
علما بأن بعض من يشاركون في هذه المناظرات ربما رأوا في هذا الفعل مخالفة لمنهج السلف الذي يتشدقون به ، هذا إذا كان من شارك في هذه المناظرات منتميا لتيار مخالف لهم ، أما وقد سنحت الفرصة لهم وأناخت ركابها ببابهم فأنى لهم أن يفلتوها ؟؟ فلا بأس أن يتغافلوا قليلا عما نسبوه إلى منهج السلف في سبيل تبليغ الحق للناس!!! حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مداهنة اليهود والنصارى على حساب مخالفيه من المسلمين ، وفي المقابل فإن أصحاب الدكاكين الفضائية لا يلقون بالا لمنهج سلف أو خلف ما دام الأمر يجلب لهم الأموال الطائلة على حساب البُلْه من المشاهدين الذين فغروا أفواههم وجيوبهم ، وسلموهم أسماعهم وعقولهم يعبثون بها بحجة المناظرات العلمية تارة وتصحيح العقيدة أخرى ، ولا يهم بعد ذلك ما يجره هذا الفعل على الأمة من ويلات وفتن .
لقد فتحت هذه القنوات أبوابها مشرعة لكل ناعق من الفريقين ، وأصبح سب الصحابة يطرق الأسماع ليل نهار ، والتشكيك في القرآن الكريم ، وهل هو محرف أو محفوظ ، على كل لسان ، وانطلق كل فريق يدلي بحجته ، ولم يبق جاهل ولا متعالم ولا دَعِيّ إلا أدلى بدلوه ليكون له نصيب في هذه المعركة التاريخية الفاصلة
فَلَم يَبْقَ مِن كَلبٍ عَقُوْرِ وكَلْبَةٍ
في الحَيِّ إِلا جَاءَ بالعَمِّ والخَالِ
وصار كل فريق يدعي أنه الممثل الشرعي للإسلام ، وضاع عامة الناس في خضم هذه الفتنة العمياء .
لقد نقل عن ذلك الأخرق أنه صرح لقناة (بي بي سي) أن هدفه هو تعويد الناس على سماع شتم الصحابة !!
فَيَا لهُ مِن عملٍ صالحٍ
يَرفعُه اللهُ إلى أسفَلِ
فإن كان ما نقل عنه صحيحا فلا شك أنه نجح في هذه المهمة المخزية أيما نجاح ، وشاركه كبر هذا العمل أبطالُ الفضائيات والدكاكين الفضائية ، وتعوَّد المسلمون على سماع هذه البذاءات وانقضى الأمر ، فلو خرج علينا أحدهم غدًا يسب أجلاء الصحابة فلن يكون له نفس التأثير ، لأن النفوس أَلِفَت سماعه ، ومثل هذا حدث في الماضي القريب جدا ، عندما قام أحد المجرمين برسم صور مسيئة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فثارت ثائرة المسلمين في الشرق والغرب ، وأحرقت الأعلام وهوجمت السفارات وألقيت الخطب العصماء ودبجت القصائد ، وخفقت رايات الحرب الألكترونية والاقتصادية … ثم ماذا كان ؟
لا شيء ، سوى أن المسلمين بعد أن هدأت سورة الغضب بدأوا يتعودون سماع الإساءة لدينهم ومقدساتهم ، وأصبح كل سفيه يريد أن يجاري الموجة لا يكلفه ذلك سوى أن يرسم رسما ، أو يخرج فيلما ، أو يكتب كتابا ، حتى تنطلق الجموع المنددة تحرق وتكسر ، ويكتفي هو بالفرجة والضحك ، ثم فَتَرَت هذه الحماسة عند المسلمين حتى أصبح مثل هذا الخبر عاديا لا يرف له جفن ، والسبب أن ذلك الغضب كان غضبا أهوج .. كان غضبا لأجل الغضب فقط ، دون أن يكون هناك من يدل هذه الجموع أو يرشدها إلى ما يجب أن يفعلوه لنصرة دينهم بالفعل لا بالقول ، أو يستثمر حماستهم في أمر ينفع الإسلام والمسلمين ، وما كان لله دام واتصل!
وجاءت المباهلة ..
بعد أن اشتبكت الأطراف المتنازعة وخمش كل منها وجه صاحبه ، وسالت الدماء من أنوفهم ومزقوا ثيابهم ، كان لا بد لهذه الدكاكين الفضائية أن تستثمر في بلاهة الزبائن ، فجاءت اللحظة الحاسمة لتفصل في هذه المنازلة .. جاءت المباهلة كحل أخير ونهائي ، فبعد أن أعيتهم الحيل مع بعضهم البعض ، أصبح من المتعين أن تكون هناك ضربة قاضية ، فتنادوا للمباهلة واستمطار اللعنات على الكاذب منهم!
ومرة أخرى يؤذوننا بسماع لعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على لسان ذلك الرقيع وأمثاله ، وكأن كل ما حدث من قبل لم يكفهم .
وبدأ كل فريق يتربص بصاحبه أن يقع عليه العقاب الإلهي الموعود ، وحتى تكتمل الإثارة في المشهد ، ولأن الأعصاب لا تطيق الانتظار كثيرا لأننا في عصر السرعة !! خرج علينا أحدهم يبشرنا بأنه رأى رؤيا تؤيد فريقه ، فتصايحوا مكبرين مهللين متمنين أن تتحقق الرؤيا ، وقام بعض أصحابه بالاتصال به هاتفيا ليتأكد منه شخصيا طلبا لعُلوِّ السند ، وقاموا بتسجيل المكالمة وتواصوا ببثها لكي يسمعها العالم كله!! ويرى عجائب قدرة الخالق عز وجل!! تعالى الله عن عبثهم علوا كبيرا .
ولم ينس صاحب الرؤيا أن يظهر بمظهر المتحقق من الأمر ، فسأل أحد مفسري الأحلام المشهورين ، ليكتمل المشهد ويصل إلى ذورته الدرامية بالتأكيد على أن هذه رؤيا حق وليست حلما شيطانيا أو حديث نفس ، فهي واقعة لا محالة!!
ولم يسأل أي فريق منهما نفسه : ماذا لو هلك صاحبهم ، هل سيرجعون عما هم عليه ويتحولون إلى الطرف الآخر ؟؟
طبعا لا أنتظر الجواب منهم .
هل هناك شيء وراء الأكمة ؟
أشرت في بداية مقالتي إلى ضرورة النظر إلى المشهد كاملا كي نحسن فهم الواقع ، فربط الأمور بظرفيها الزماني والمكاني أمر في غاية الأهمية ، ففي الوقت الذي ينشغل فيه المسلمون - وخصوصا العرب منهم - بمتابعة هذه المناظرات والمباهلات ، نجد أن الكيان الصهيوني يتلذذ بممارسة هوايته في قضم أراضي فلسطين وهويتها ليلا ونهارا ، والمستوطنات تستشري على أرض الضفة بتواطؤ المتواطئين وصمت الصامتين ، والأقصى تنخر عظامه حفريات اليهود وقد ينهار بين فينة أو أخرى ، ولا يبدو على المسلمين أنهم سيكترثون كثيرا لو انهار الأقصى ، لأنهم أصبحوا لا يخشون إلا من انهيار سوق الأوراق المالية ، والمعركة مع الصهاينة مؤجلة لحين انتهاء المناظرات وما تسفر عنه المباهلات ، وبعدها قد ننظر في أمر الأقصى ، هذا إذا بقي الأقصى أصلا ، ثم إذا التفتنا نحو العراق نجده يغرق في مستنقعات الأحزاب السياسية المتناحرة على الفتات ، ويزداد تمزقه يوما بعد يوم ، ويقتتل الناس فيه على الهوية ، فلا يعرف القاتل فيم قَتل ، ولا المقتول فيم قُتِل ، ونرى السودان ينفصم شماله عن جنوبه وتجار الحروب متحفزون لحرب تلوح في الأفق بين شطريه ، أما الصومال المسكين فقد راجت فيه تجارة الحروب والقرصنة منذ سنين ولا يبدو أن أحدا يأبه به ، واليمن ممزق بين الحوثيين والحراك الجنوبي والقاعدة كل منها يفري لحمه ويقطع أوصاله ، ومصر قلب العروبة والإسلام تئن تحت ثقل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والطائفية ، ولبنان يحاول أن يتمسك بأهداب الأمل كي لا تتفلت الأمور من عقالها ويخرج مارد الحرب الأهلية من قمقمه ، ودول الخليج تسير وسط أشواك المشاريع الدولية المختلفة ، الإيرانية والأمريكية والأوروبية ، وتذوي هويتها العربية يوما بعد يوم تحت لهيب التغريب الذي يلفحها بأنفاسه الحارقة ، وبلاد المغرب ليست أفضل حالا من الباقين فلها من كل ما سبق نصيب .
نحن إذن أمام مشهد حالك السواد ، وفتن تدع الحليم حيران ، ثم تأتي هذه الفتنة في هذا الوقت ، وبسبب أمر ليس بجديد ، وعلى يد بعض النكرات ، ونجد المسلمين فجأة نسوا أو تناسوا كل شيء ، ولم يعد يهمهم في هذا العالم إلا متابعة هذه المناظرات والمباهلات وما قد ينجم عنها ، وكأننا انتهينا من مشاكل الحاضر فذهبنا نصفي مشاكل الماضي ، والمحزن في الأمر أن نجد شخصيات كبيرة لها تاريخها في الدعوة والعلم قد استجابت لضغوط هذه الفئة القليلة التي اختطفت الإسلام والمسلمين في هذه الظروف العصيبة وبتحريض من الدكاكين الفضائية ، وفيضان العواطف عند العامة ، لكي تشارك في هذه الزفة ، ولم يسألوا أنفسهم : ما الجديد في الأمر ، وما الذي يمكن أن يترتب عليه ؟
الكل يعلم – لا سيما العلماء - بما بين الفرق المختلفة من الاختلافات في العقائد ، ولو ذهبنا نتباهل على كل ما وقع بيننا وبينهم من اختلاف لما انتهينا إلى يوم الدين ، فكان الأحرى بالعقلاء أن يُعْرضوا عمن يقوم بهذه الأفعال الصبيانية ، ويضربوا على أيدي من يعبثون بعقل الأمة بحجة الدفاع عن المقدسات ، وعيونهم على حطام الدنيا ، وحالهم كما قال القائل :
أظْهَرُوا للنَّاسِ نُسْكًا
وعَلى الدِّينَارِ دَارُوا
فما هي الفائدة التي جنيناها من تهييج الناس وتأليبهم على بعضهم البعض ؟
لا شيء سوى مزيد من التمزق والتفكك ، وإعطاء الفرصة لتغول المشاريع المعادية للأمة وتمددها في طول البلاد وعرضها ، ونحن مشغولون عنهم بمعارك يفتعلها السفهاء وترتهن الأمة لهم ولخطابهم الساذج وعقولهم الضعيفة .
لقد فرح بعض الطيبين بهذه المناظرات ، لأنهم رأوا فيها نصرة للحق كما قلت في بداية كلامي ، مع أنها لا ينطبق عليها وصف المناظرات بالمعنى العلمي ، فالمناظرات علم له أصوله وضوابطه ، وضعت فيه كتب وألفت مؤلفات ، وليس الأمر سبهللا كما تصوره تلك الدكاكين ، أو صراع ديكة لا يخرج منه المتابع بشيء (( كَسَرَابٍ بِقِيْعَة)) .
ثم إن المناظرات لا تجري هكذا على الملأ وعلى أسماع من يفقه ومن لا يفقه بلا ضوابط ، فكيف إذا كانت تناقش قضايا علمية دقيقة تتطلب جوابا علميا منضبطا من كلا الطرفين ، لا ما نراه من مماحكات فارغة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا ، فمن آداب المناظرة كما يقررها أهل العلم أن لا يتكلم فيما لا يعلم ، ولا بموضع يهابه المتكلم ، ولا جماعة تشهد بالزور لخصمه ويردون كلامه ، وتجنب الاضطراب من الجوارح ما عدا اللسان ، والاعتدال في رفع الصوت وخفضه ، وحسن الإصغاء إلى كلام صاحبه ، وأن يجعل الكلام مناوبة لا مناهبة ، والثبات على الدعوى إن كان مجيبًا ، والإصرار على السؤال إن كان سائلاً ، والاحتراز عن التعنت والتعصب والضحك واللجاج .. إلى آخر ذلك.
وقد نظم بعض العلماء أبياتا تحتوي جملة من هذه الآداب فقال :
ويُشْرَعُ الجدال للإظهارِ
للحق أو ردِّ ضلالٍ جاري
بشرط عِلْمِ كلِّ ما في المسألهْ
وضَبْطِ توجيهِ كَمِثْلِ الأسئلهْ
وفي السؤال يُطلب التحسينُ
وفي الجواب الطِّبْق والتبيين
ودَعْ تحرُّكًا كإبراز اليدِ
ورفعِ صوتٍ سِيَّما في المسجد
كذا المغالطةُ والمعاندهْ
أو المشاغبة دون فائدهْ
فانظر أيها القارئ الكريم إلى ما قرره علماؤنا الأعلام وقارن ، هل فيما يقوم به سفهاء الفضائيات شيء من هذا الكلام ؟ أم أن آداب المناظرة التي يذكرها أهل العلم في كتبهم شيء وما يقوم به أولئك المهرجون شيء آخر ؟ فليس فيها إلا صراخ وزعيق ونهيق ومكابرة ومعاندة ، فضلا عن التدليس والغش في النقل وبتر كلام الخصم ليوهم الناس بباطله ، فتكون نتيجة مثل هذا العبث أن تتشوش الأفكار وتتزلزل العقائد وتزيغ القلوب ، وصدق من قال : (( الجدال في الدين مَطْرَدَةٌ لليقين )) وإن نجح كل فريق في اجتذاب أفرادٍ من الطرف الآخر ، فلن يستطيع أن يقضي على المنهج الآخر قضاء لا قيام له بعده ، فالأفكار لا تموت وإن مات أصحابها أو تحولوا عنها ، فسيأتي من يتبناها وينافح عنها ، وهذه سنة جارية في الخلق ، وبعض السذج ظنوا أنهم بمناظرة تلفزيونية هزلية يمكنهم أن يقضوا على مخالفيهم ، فلما أعيتهم الحيلة هبّوا للمباهلة ، ثم تتابعت الأحداث إلى أن منعت كثير من هذه الدكاكين من البث ، وأُخذ الصالح بالطالح ، وأعطوا بسلوكهم الفج ذريعة للمُعادين لكل ما يمت للدين بصلة لكي يتشفوا ويشمتوا بالمسلمين بسبب غباء وجشع هذه القنوات التي اختطفت الإسلام ، فرجعوا يعضون أصابع الندم ، بعد أن توقف ذلك المدد من أموال المشاهدين السذج ، وعادت الحرب التي سعَّروها وبالا عليهم وعلى الأمة ، وصدق عليهم قول الشاعر :
الحربُ أوَّلُ ما تكونُ فَتِيَّةً
تَسْعى بزينتِها لكلِّ جَهُولِ
حتى إذا اشتَعَلتْ وشَبَّ ضِرَامُهَا
وَلَّتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ خَليلِ
شَمطاءَ يُنْكَرُ لونُها وتغيرتْ
مَكروهةً للشَّم والتقبيلِ
فالعاقل لا بد له من النظر في عواقب الأمور والتبصر فيما يمكن تؤول إليه ، حتى لا يقع ما لا تحمد عقباه ، فلا تعود هناك فائدة من الكلام بعد فوات الأوان ، وقد قالت العرب قديما : (شر الرأي الدَّبَرِيّ) وهو الذي يسنح للمرء بعد فوات الأوان ، وقد أخذ الفقهاء قاعدة سد الذرائع الموصلة إلى الفساد من قوله تعالى : ((وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)) وبنوا على هذه القاعدة الكثير من الأحكام الشرعية ، ومَن سعَّروا هذه الحروب الفضائية لم يبالوا بهذه القاعدة ولا اكترثوا لها ، ولم ينظروا إلى ما قد تجره تصرفاتهم على الأمة من الوبال ، ففغروا أفواههم وملأوا أشداقهم بكلام لم يقدِّروا عواقبه ، فأوقعوا الناس في الحرج ، واضطروهم إلى أمور كانوا في غنى عنها ، كما حدث من بعضهم عندما تناولوا بعض مخالفيهم بالسوء ، دون أن يبالوا بما يمكن أن ينتج عن هذا الفعل الأخرق ، فوقعوا ضحية طيشهم ، وسقطوا من أعين العقلاء .
وقد تعود هذه الدكاكين الفضائية للبث مرة أخرى ، ولكنني أكاد أجزم أنها ستعود بغير الوجه الذي غادرتنا به ، ولن تعدم الحجة في تبرير التغير الذي طرأ على سياستها ، وأنها ماضية في أداء رسالتها التنويرية (في جباية أموال المشاهدين) وإن اختلفت الوسائل !! .
فما الحل إذن ؟؟
وبعد كل هذا ، قد يقول قائل : فما الحل إزاء هذه التصرفات ؟
وهو سؤال مشروع بلا ريب ، والمؤمنون حقا يسوؤهم أن يسمعوا بأحد السفهاء وهو يتطاول على القمم السامقة ، أو يشكك في الثوابت ، فهل يُترك وشأنه ويهمل حتى يستفحل الداء ويعز الدواء ، ويعود الأمر الذي كان محصورا في شرذمة قليلة شائعا بين عموم الناس؟
أم نواجهه ونقطع دابره قبل أن يستشري ؟
والجواب عن هذا السؤال طويل ذو شجون ، وقد تختلف فيه أنظار أهل الشأن ، ولا أدعي أنني من أهل الشأن ، ولكن المؤكد – عندي على الأقل - أن معالجة هذه القضايا لا تكون على أيدي سفهاء هذه الفضائيات ، ولا المتاجرين بالدين لأغراضهم الرخيصة ، ولا عشاق الظهور على الفضائيات ، بل يجب أن يعالجها الحكماء والعلماء العقلاء ، الذين يعرفون متى وأين وكيف تقال كلمة الحق ، ويحسنون تقدير العواقب ، أما أن نكون من الجهل بحيث لا نعرف متى نتكلم ومتى نسكت ، فحينها نستحق ما يفعله بنا أعداؤنا .
فعلى الحكماء أن يأخذوا على أيدي السفهاء ويحجزوهم عن سفاهتهم ، وأن لا يتركوهم يعبثون بالأمة ، وإن كانت هناك قضايا خلافية فيجب أن تكون المناقشة حولها في إطار علمي وفي أوساط أهل العلم ، وأن يجنبوا العوام الخوض في المسائل الشائكة، ويقطعوا الطريق على قنوات الفتن ولا يتركوا لها منفذا للتشغيب على العلماء أو تشويش أذهان العوام وشغلهم عن قضايا أمتهم .
وفي الختام ..
هذه كلمة جالت في الخاطر ، وجاشت بها النفس ، حاديها شفقة على هذه الأمة ، وأملٌ أن يبزغ فجر يمحو ظلمتها المدلهمة ، ولا أريد أن يُحمل كلامي على أنني أقصد عموم القنوات الإسلامية ولا كلَّ من شارك في هذه المناظرات ، بل قصدت به فئه معينة ، لعلمي أن هناك من شاركوا بسلامة نية ونقاء طوية ، مدفوعين بعاطفة نبيلة تجاه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها ، فهؤلاء أرجو الله تعالى أن لا يحرمهم أجر ما اجتهدوا فيه ، وأن يوفقنا وإياهم على سلوك نهج الصواب ، حتى لا نقع في حبائل الخبثاء من المدفوعين بشهوة المال أو الشهرة ، وما قلته لا يعدو أن يكون رأيا رأيته ، ولعلي أكون مخطئا فيه فرحم الله من أرشدني إلى الصواب إن كنت مخطئا ، أو دعا لي بالتوفيق إن كنت مصيبا .
((إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب))
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
راشد المهندي
[email protected]