تضفي الثورات الشعبية على الاجتماع السياسي مغزاه الإنساني، وتحول الشعب من ركام من البشر لا يجمع بينه إلا جامع الجغرافيا، إلى مجموعة من العقلاء يربط بينهم عقد اجتماعي مقدس. فالخنوع للسلطة غير الشرعية ليس خيارا شرعيا، بل هو لا يليق بكرامة الإنسان وإنسانيته، وترسيخ فكرة احترام الذات واحترام الآخرين هي الأساس الفلسفي للثورات الشعبية.
وقد تحررت شعوبنا من اليأس والخضوع، واتجهت وجهة الأمل والعمل في صراعها مع الاستبداد والفساد، وواجب أهل الفكر والنظر اليوم هو توجيه هذه الطاقة الشعبية المتحررة إلى تحقيق الحرية والكرامة بأقل ثمن ممكن من الدماء والأموال.
والمؤسف أنه لا يوجد في تراثنا فكر لصناعة الثورات، وإنما فقه للتحذير من الفتن. وقد كتب بعض المنظرين منتصف القرن العشرين لتسويغ انقلابات عسكرية وإضفاء شرعية ثورية عليها، بل تحول بعض العسكريين بقدرة قادر إلى منظرين محترفين. لكن كل ذلك لم يكن فكرا تأسيسيا، بل كان حجاجا تسويغيا، وما أبعد الشقة بين التأسيس الفكري والتسويغ الجدلي.
بيد أن انبلاج فجر الثورات في بلداننا العربية اليوم يستلزم بناء أفق نظري يكون زادا للشعوب في ملحمتها، وضامنا لعدم وأد جهدها وجهادها السياسي. ويقتضي هذا الأمر تأملا في منطق الثورات ومآلاتها، واستيعاب العبرة التي توفرها لنا التجربة التاريخية، وهضم الحصاد الفكري الذي أبدعته العقول الإنسانية في هذا المضمار. ولسنا ندعي تحقيق هذه المهمة هنا، وإنما هذه إرشادات نرجو أن تحفز من هم أحسن تأهيلا للإدلاء بدلوهم.
لقد أصبح لفظ “الثورة” لفظا مبتذلا لكثرة ما أسيء استعماله. لذلك يحسن الحرص على التحديد من خلال التمييز بين ثلاثة مفاهيم: الثورات، وأنصاف الثورات، والانقلابات. وغاية هذا التمييز ألا يعمينا التعميم اللفظي عن الفروق الهائلة بين الظواهر السياسية والاجتماعية التي تحمل اسم “الثورة” في لغتنا اليومية.
فالثورات تحقق الحرية في حياة الشعوب، وتجعلها سيدة قرارها واختيارها السياسي والثقافي والاجتماعي، وهي قليلة جدا في تاريخ البشرية. ويمكن أن ندرج ضمن الثورات بمفهومها الحق: الثورة الأميركية، والثورة الفرنسية.
أما أنصاف الثورات فهي لا تحقق الحرية الكاملة للشعوب، وإن كانت قد تحقق تحريرا من غازٍ أجنبي كالثورة الجزائرية، أو شيئا من أوجه العدالة الاجتماعية كالثورة البلشفية والثورة الناصرية، أو حريةً سياسية منقوصة كالثورة الإيرانية.
وتدخل ضمن مفهوم أنصاف الثورات كل حركات التحرير في القرن العشرين التي حققت تحررا للأوطان ولم تحقق حرية للإنسان. وُيستثنى من هذا التعميم حركات التحرير التي بنت ديمقراطيات في بلدانها فور رحيل الاستعمار، مثل حركة غاندي في الهند.
وأما الانقلابات العسكرية التي لم تغير البنية السياسية والاجتماعية، أو التي استبدلت الإقطاع التقليدي بإقطاع عسكري، فهي لا تستحق تسمية ثورة ولا نصفها، بل ولا حتى عشرها.
ولعل أكثر الثورات جدارة بهذا الاسم، نظرا لكثافة ثمراتها المتحققة، هي الثورة الأميركية، لأنها كانت ثورة تحرر وحرية في الوقت ذاته: تحرر من الاستعمار البريطاني، وحرية من السلطة الملكية. وإذا نجحت الثورات القائمة والقادمة في الدول العربية فستستحق هذه التسمية بجدارة أيضا، لأن نتائجها ستكون تركيبا من الحرية الداخلية والتحرر الخارجي.
ويذهب المؤرخ الأميركي كرين بريتون في كتابه “تشريح الثورة” إلى أن الثورات تولد من الأمل لا من اليأس، على عكس ما يتصوره كثيرون. صحيح أن عمق الإحساس بالظلم وعمومه في المجتمع شرط سابق على كل ثورة، كما لاحظ عبد الرحمن الكواكبي، لكن تحويل هذا الإحساس بالظلم إلى أمل في التغيير وإيمان بإمكانه هو الذي يفجر الثورات. وقد تتزامن لحظتا اليأس والأمل مما يجعل التمييز بينهما عسيرا. فلحظة “البوعزيزي” في تونس كانت قمة اليأس، لكنها كانت في الوقت ذاته لحظة ميلاد الأمل والثقة في نفوس الشعب. التي ترفض الرد على عنف الاستبداد بعنف مضاد. فالانجراف إلى العنف الدموي يمنح الاستبداد أخلاقية الرد العنيف، ويسبغ على تمسكه بذاته طابعا شرعيا.
وأول ما يحتاجه قادة الثورات الشعبية هو تحديد طبيعة الصراع. فقد يكون الصراع بين الحكام والمحكومين في بعض الدول صراع بقاء لا مجال فيه لأرضية مشتركة، ولا حل له سوى التغيير الشامل، مثل الثورة ضد سلطة عسكرية مستبدة.
وقد يكون في دول أخرى صراعا محدودا يمكن حله بإعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم في صيغة جديدة، مثل تحويل ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية. فالصراع بين الحكام والمحكومين في بعض الدول صراع وجود، وفي بعضها الآخر صراع حدود (دستورية وسياسية)، وعدم وضوح الرؤية حول طبيعة الصراع يربك حركة التغيير ابتداءً، ويفشلها انتهاءً.
وأحيانا يعاد تعريف الصراع أثناء مسار الثورات، فالثورات ظاهرة ديناميكية متحركة، وهي تبدأ في الغالب صراعا حدوديا لا وجوديا، أقصد أنها تبدأ بمطالب متواضعة، لكن السلطة المطلقة تُعمي أهلها، فيتمنَّعون من قبول تلك المطالب، فيطالب الشعب بأكثر، في مسار تصاعدي ينتهي بانبتات العلاقة بين الطرفين، ويصبح منطق التغيير الشامل هو السائد. وهذا يصدِّق مقولة الرئيس الأميركي الأسبق كينيدي: “إن من يمنعون الثورات السلمية يجعلون الثورات العنيفة حتمية”.
ففي يوميات تاريخ الثورة الأميركية نجد أن الملك البريطاني جورج الثالث رفض مطالب مواطنيه في المستعمرات الأميركية بتخفيف الضرائب التي فرضها عليهم بعد حرب الأعوام السبعة مع فرنسا، فطلبوا التمثيل في البرلمان البريطاني فرفض، فطلبوا الحكم الذاتي في مناطقهم فرفض، فأعلنوا الاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية.
وأحيانا تبدأ الثورة محاولة لاستعادة نظام قيم سياسية وقانونية قديمة داس عليها الحكام، وهكذا كانت الثورة الفرنسية والأميركية في بدايتهما، لكن الثورة تتطور أمام عناد المستبد إلى مشروع جديد تماما، يتأسس على قيم سياسية وقانونية جديدة.
والمفارقة أن المستبد المعاند حينما يضيق عليه الخناق يتحول مطالبا بما كان الشعب يريده منه، لكن الشعب يرفض أنصاف الحلول بعد أن يستعذب طعم الحرية ويرى بوارق النصر.
ويدل استقراء تاريخ بعض الثورات القديمة والمعاصرة على أن أهم الشروط الضامنة لنجاح الثورات هي: (1) صلابة الإرادة والتصميم لدى الثوار، (2) الحفاظ على الصورة الناصعة للثورة، (3) وحدة الصف والتلاحم بين القوى الشعبية، (4) حسن التسديد إلى مراكز ثقل النظام، (5) الوعي بأجنحة النظام المختلفة ومخططاتها، (6) تقديم البديل السياسي حتى لا تجد فلول النظام فراغا للتمكن، (7) رفض السقوف الواطئة والتغييرات الشكلية في النظام، (8) التمسك بمنطق المغالبة لا المطالبة.
أما وسائل اغتيال الثورات التي تلجأ إليها القوى العتيقة، فمنها: (1) كسر الإرادة بالقمع والبطش، (2) تلطيخ صورة الثوار وتزييف الوعي الشعبي، (3) تفريق الثوار وتمزيقهم بالإغراء والإغواء، (4) توجيه جهد الثوار إلى حواشي النظام وهوامشه، (5) التضحية ببعض أجنحة النظام إبقاءً على البعض الآخر، (6) سد الفراغ الذي تحدثه فوضى ما بعد الثورات، (7) تقديم بدائل مزيفة ترقِّع الواقع ولا تغيره، (8) تحويل الثورة إلى حركة مطالَبة دون مغالَبة.
ولعل مما يعين شعوبنا في ثوراتها القائمة والقادمة استيعاب ثقافة النضال السلمي. ومما يُؤسِف أن ثقافة المقاومة السلمية ازدهرت لدى شعوب كثيرة، وبرهنت على فاعلتيها وأخلاقيتها، وأصبح لها منظروها وفلاسفتها، لكنها لا تزال ضعيفة لدى شعوبنا العربية. وباستثناء الجهود التي قدمها شباب “أكاديمية التغيير” في مصر، فإني لم أطلع على ثقافة عملية جدية حول مبدأ المقاومة السلمية باللغة العربية.
يتأسس منطق الثورات السلمية على مبدأين اثنين:
المبدأ الأول: أن السلطة المستبدة ليست جسدا واحدا أصم، وإنما هي بناء ديناميكي مركب، وهي لا تتحكم في الناس إلا لقبولهم بذلك. لذا فإن الثورة لا تحتاج إلى مواجهة النظام القمعي مواجهة مباشرة، وإنما يكفيها أن تحرمه من التحكم في المجتمع، وتظهر عجزه أمام العالم. فالتحكم هو رأسمال الحاكم المستبد، فإذا فقد التحكم في حياة الناس فقد الثقة في نفسه، وأصبح سقوطه محتما.
ويستخدم هشام مرسي ووائل عادل وأحمد عبد الحكيم في كتابهم المشترك “حرب اللاعنف” –وهو من منشورات أكاديمية التغيير- مصطلحا بديعا للتعبير عن هذا المبدأ، وهو مصطلح “التجويع السياسي”. فالثورات السلمية لا تهدم النظام المستبد مباشرة، وإنما تستنزفه من خلال حرمانه من دعم بعض مكونات سلطته، فينهدُّ البنيان الاستبدادي من تلقاء ذاته.
المبدأ الثاني: أن العنف الدموي المباشر ضد السلطة المستبدة ليس خيارا مناسبا، والمقاومة السلمية أجدى وأبقى. وقد بين المنظِّر السياسي الأميركي جين شارب في كتابه المعنون “من الدكتاتورية إلى الديمقراطية” أن الثورات السلمية تنبني على فكرة “البطولة الهادئة”
لكن الثورات السلمية ليست مبرأة من العنف بإطلاق، ولا من الممكن أن تكون كذلك، بحكم تعرضها لعنف السلطة المستبدة. بيد أن عنف الثورة السلمية عنف رمزي ودفاعي، لا يستهدف القتل أو الأذية الجسدية كما يفعل المستبدون، وإنما يستهدف زعزعة إيمان المستبد بنفسه، وإضعاف ثقة الناس فيه وفي بقائه، تمهيدا لتفكك سلطته في النهاية.
فالنيران المتصاعدة من مقر حزب حاكم كان يضفي الشرعية على الاستبداد، أو من مركز شرطة قمع كانت حربة المستبد، عنف رمزي بامتياز، وهو يحمل رسالة سياسية وإعلامية على قدر كبير من الأهمية.
وقد تحتاج الثورات الشعبية إلى عنف دفاعي في حالة التعامل مع أنظمة لا تتورع عن شيء. والعنف في هذه الحالة لا يتنافى مع المنطق السلمي للثورة.
فالوقفة الباسلة التي وقفها شباب ميدان التحرير في وجه الأوباش الذين بعثهم النظام المتهاوي في مصر كانت حاسمة في معادلة الصراع. ولم يكن لدى أولئك الشباب من سلاح سوى الحجارة، لكن التصدي بها لأولئك الطغام كان ضروريا.
وحينما يكون رأس نظام الاستبداد في مأزق لا مخرج منه بحكم تراكم مظالمه وجرائمه، وسوء علاقته بالعالم –كما هي حال القذافي- فإنه يقاتل قتال اليائس، ويجعل ثمن الثورة غاليا. وفي هذه الحالة يحتاج الشعب الثائر إلى الاستعداد لدفع ثمن أكبر، كما يحتاج إلى شيء من العنف الدفاعي أمام سطوة المستبد اليائس.
الثورات الشعبية مزيج من العفوية والتنظيم، فالعفوية تعصمها من الاستئصال، والتنظيم يعينها على حسن التسديد. وتحتاج كل ثورة إلى قيادة، لكن القيادة في عصر الإنترنت قيادة انسيابية، وليست هرمية، وهذا ما يجعل استهدافها عسيرا، واستئصالها مستحيلا.. تطارد النظام المستبد فتدركه، ويطاردها فتفوته، كما قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه للمشركين: “والذي كرَّم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني”. فهذا النوع من القيادة الانسيابية تجعل للمجتمع اليد العليا ضد السلطة التي اعتادت الهرمية القيادية.
كما تحتاج الثورة الشعبية إلى خطاب، ولا بد أن يكون خطابها هذا بسيطا، سهل الاستيعاب، وأن يكون جامعا لا مفرقا. فالثوار تجمعهم المبادئ وتفرقهم البرامج، ومن أهم شروط نجاح الثورات أن يركز الثوار على المبادئ الجامعة، ويتجنبوا الخوض في البرامج التفصيلية أثناء الثورة. فالشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، والاختلاف وقت مقارعة الاستبداد مُهلك للثورات.
ويحسن التأكيد هنا على أن أخطر ما في الثورات ليس البدايات، وإنما النهايات. ففي عام 1948 حاول أحرار اليمن الثورة على حكم الإمام المتحجر، وفشلت الثورة. فانقلب إمام اليمن على الثوار الأحرار تقتيلا وتنكيلا. وكتب شاعر اليمن عبد الله البردوني تعليقاً شعرياً يأخذ فيه على الأحرار اليمنيين ضعف الإرادة وسوء التخطيط، جاء فيه:
والأباة الذين بالأمس ثاروا *** أيقظوا حولنا الذئاب وناموا
حين قلنا قاموا بثورة شعب *** قعدوا قبل أن يُروا كيف قاموا
ربما أحسنوا البدايات لكن *** هل يحسُّون كيف ساء الختامُ
فمع ميلاد كل ثورة تولد ثورة مضادة، تحاول وأدها في مهدها، أو تحريفَها عن مسارها، أو السطو على ثمراتها. ويعتقد عالم الاجتماع تشارلز ميلز أن وجود الثورة المضادة هو أبلغ دليل على أن الثورة تحمل رسالة تغيير جدية.
وأحيانا تنجح الثورة في معركة الهدم، فتهدُّ النظام القائم هدًّا، لكنها تفشل في معركة البناء، ويقطف ثمارها آخرون من فلول النظام القديم، أو من المتسللين تحت غبار المعركة. وأسوأ ما يصيب الثورات أن يصادر ثمارها متسلقون في جنح الظلام، فيحيلونها نسخة منقحة من النظام الاستبدادي القديم، أو أن يتحول بعض مَن أشعلوا الثورة إلى وقود للثورة المضادة، جرَّاء أنانية سياسية مزمنة، أو لمجرد سوء التفكير والتقدير.
إن غاية الثورات الشعبية ليست استبدال حكام بآخرين، بل حكم الشعب نفسَه بنفسه، وبناء فضاء مفتوح يملك آليات التصحيح الذاتي سلميا، ويقسِّم الحرية والعدلَ بعدلٍ. فالحذرَ الحذرَ من التنافس على مغانم الثورة، أو رفع المطالب الجزئية في لحظات الحسم الكلية. فغاية الثورة تحرير الشعوب لا حكمها.