كتب الصحفي الأميركي نيكولاس كريستوف في صحيفة نيويورك تايمز يوم 16 مارس/آذار الجاري مقالا عن البحرين ضمنه حادثةً جديرة بالتأمل. فقد أمسك رجال الأمن البحرينيون بصديقه العامل معه بنفس الصحيفة مايكل سلاكمان، وصوبوا السلاح إليه حتى أيقن بموت محقق. لكنه حين أخرج جواز سفره، وأخبرهم بأنه صحفي أميركي تغير المزاج تماما، وقالوا له بكل ود “لا تخف، فنحن نحب الأميركيين. نحن لا نبحث عنك، نحن نبحث عن الشيعة”.
وعلق السيد سلاكمان على الحادثة بالقول “أحسست وكأنهم يطاردون جرذانا” لا بشرا. وقد تابعنا جميعا خطابات العقيد القذافي وهو يصف أحرار ليبيا الذين أبوا الإقامة على الضيم بـ”الجرذان” و”الجراثيم”، وغير ذلك من الشتائم المقذعة التي امتلأ بها قاموسه.
ويشكو شيعة البحرين منذ استقلالها من التهميش السياسي والاجتماعي، وهم يبلغون نسبة 66% من المواطنين حسب التقديرات الرسمية البريطانية، و55%حسب المصادر السنية البحرينية.
ومن الواضح أن نزعة التكاثر الطائفي لها تأثير على مصداقية الأرقام تعظيما وتحجيما، لكن المجمع عليه أن الشيعة في البحرين ليسوا ممثَّلين في النظام السياسي والإداري بما يناسب كمهم العددي، وأن بعض قطاعات السلطة كالجيش والشرطة تكاد تكون موصدة في وجوههم، وأن أغلبهم يعيشون في مناطق أقل تنمية وأكثر حرمانا من المناطق التي يعيش فيها السنة. وهذا التفاوت الاجتماعي كان أرضا خصبة تنتظر المفجر، حتى اندلعت الثورات العربية الحالية.
البرزخ الطائفي العميق بين البحرينيين جعل شيعتهم يعارضون السلطة، وسنتهم يحتمون بها، وقد كان في وسع الطرفين التلاقي على كلمة سواء تنصف الشيعة ولا تضارّ السنة
“
وقد كان من الممكن تجاهل الشكوى الشيعية في البحرين بربطها بمحاولات الاختراق الإيراني، وهو ربط له أساس من الصحة، وإن لم يكن مسوغا شرعيا لرفض الإصلاح، وكان من الممكن اتهامها بالطائفية، وهو اتهام صحيح وإن كان لا ينفي الطائفية عن السنة.
لكن اندلاع الثورات العربية جعل هذا المنحى من التجاهل أقل إقناعا اليوم، وجعل مطالب التغيير في البحرين أكثر استلهاما بما جرى في تونس ومصر من استلهامه من النموذج الإيراني الذي بدأ يفقد الأرضية داخل إيران نفسها.
ويبقى أكبر تحد أمام البحرينيين هو الانشطار الطائفي، فالانسداد الذهني الناتج عن الروح الطائفية المتأصلة جعل بعض السنة والشيعة لا يتصورون مكانا لهم تحت الشمس إلا على أشلاء الطرف الآخر. وكأن هؤلاء لا يدركون أن العدل والحرية يسعان الجميع، وأن الله تعالى هو الحكم على العقائد وما في الصدور.
فالبرزخ الطائفي العميق بين البحرينيين جعل شيعتهم يعارضون السلطة، وسنتهم يحتَمون بها، وقد كان في وسع الطرفين التلاقي على كلمة سواء تنصف الشيعة ولا تضارّ السنة. وهذا الذي نحاول إثارة التفكير فيه اليوم.
ربما يحتاج السنة في البحرين إلى إدراك أن احتماءهم بالسلطة -دون فتح قنواتها لمواطنيهم الشيعة- إستراتيجية فاشلة على المدى البعيد، خصوصا بعدما تفجرت الثورات الداعية إلى تغيير الهياكل الاستبدادية في كل الدول العربية، إما بهدمها من الأساس أو بتغييرها تغييرا جوهريا.
فعلى السنة أن يسهموا بإصلاح النظام السياسي ليأخذ الشيعة مكانهم فيه، فتلك ضرورة يقتضيها الإنصاف الشرعي والمصلحة الوطنية، ولا مستقبل للبلاد بدون ذلك.
وإذا لم يبادر السنة بدفع السلطة إلى حلول منصفة فقد ينتهي الأمر بشيعة البحرين إلى التحالف مع أميركا ضدهم، كما تحالف معها الشيعة وأكراده بالأمس في العراق، ويومها سيصبح سنة البحرين ضحايا للتغيير أو متسولين على موائده، كما حدث للسنة العرب في العراق.
وفي فجر الثورات العربية الحالية أدركت الشعوب أن تحرير الإنسان أهم من تحرير الأوطان.. فليس يهمها التحالف مع أي كان إذا كان ذلك يحقق حريتها، كما يشهد به الدعم العريض للتدخل الغربي في ليبيا لدى كل الشعوب العربية.
ومهما يكن من أمر فإن الأميركيين ليسوا سنة أو شيعة، وإنما هم باحثون عمن يؤمن أسطولهم الخامس، ويضمن حضورهم على ضفاف الخليج وقرب منابع النفط، بغض النظر عن التشيع والتسنن.
أما شيعة البحرين فعليهم أن يدركوا أن الملكية جزء من رأسمال السنة السياسي في البحرين، فهم لا يستطيعون أن يفرطوا فيه في ظروف شد وجذب طائفي.
ثم إن النظام البحريني –شأنه شأن الملكيات في الدول العربية الأخرى- جزء من التطور السياسي الطبيعي في المنطقة قبل الاستعمار، فله جذوره الاجتماعية العميقة.
الاصطفاف الطائفي غير المشروط مع السنة، والوقوف في وجه مطالب الشيعة بالمشاركة السياسية والعدل الاجتماعي، لا يخدم البحرينيين السنة على المدى البعيد
“
فنموذج الثورة البريطانية الذي أصلح البنية الحاكمة من داخلها أولى بالاعتماد نهجا للتغيير في الدول العربية ذات الحكم الملكي، بينما قد يصلح نموذج الثورتين الفرنسية والأميركية منهاجا للدول التي يحكمها عسكريون.
فإذا لم يخفض الشيعة سقف مطالبهم في ظروف الانشطار الحالي فإنهم يدفعون بالبحرين إلى الهاوية. وهذا مع الأسف هو المنحى الذي نحاه “التحالف من أجل الجمهورية” في البحرين، على خلاف “حركة الوفاق” التي أبدت مرونة ذهنية وواقعية سياسية تحسب لها.
ويستطيع مجلس التعاون الخليجي أن يخدم شعب البحرين خدمة أفضل من التدخل العسكري الذي ربما كان متسرعا، كما لاحظ المفكر القطري الدكتور محمد المسفر، فالتدخل السياسي أحكم من التدخل العسكري، وأهل البحرين أحوج إليه اليوم.
وقد يكون من المصلحة أن يتقدم وسطاء من مجلس التعاون الخليجي بمبادرة حوار بين السلطة وحركة “الوفاق” في البحرين، وبمقترحات سياسية محددة تتضمن نوعا من المحاصَّة السياسية التي يستلزمها الانشطار الطائفي الحالي.
ومن صيغ هذه المحاصة الممكنة وجود رئيس وزراء شيعي بصلاحيات أكبر، يزكيه الملك ويقره مجلس النواب المنتخب، وإعطاء الشيعة نصف عضوية الحكومة مثلا، مع إعادة التقسيم الإداري والانتخابي، وتوسيع دائرة الحريات السياسية لينعم بها الجميع، واعتماد سياسات اجتماعية داعمة للمناطق الفقيرة.
وليس من الضرورة أن يصرح الدستور بهذه المحاصة على الطريقة اللبنانية، بل يمكن أن تتم الآن في شكل عقد اجتماعي عرفي يحقق التوافق على المدى القريب، مع السعي إلى التحول إلى ملكية دستورية على المدى البعيد، وتغيير الثقافة السياسية في المستقبل ليكون مفهوم المواطنة أقوى من الولاء للطائفة والمذهب.
ولعل قطر ذات الدبلوماسية الفعالة، والتي لا تعاني من أزمة سنية شيعية، تتقدم الركب في التقدم بمبادرة السلم الاجتماعي والإصلاح السياسي في البحرين، ثم تدعمها دول الخليج الأخرى، بما يضمن بقاء المبادرة في الأيدي الخليجية، وحفظ أمن هذه الدول واستقرارها الاجتماعي والإقليمي، وسد المنافذ على تدخلات أخرى قد لا تكون في مصلحة المجتمع البحريني أو غيره من مجتمعات الخليج.
وبذلك تتحول البحرين التي هي اليوم مصدر أزمة في الخليج إلى نموذج يحتذى في الإصلاح السياسي، والمصالحة بين الحكام والمحكومين، وتجاوز العقدة الطائفية المضنية في الخليج.
إن الحمية لسنة البحرين والخوف عليهم –على كل ما شابه من مبالغات- أمر مفهوم في ظروف تجاذب طائفي محلي وإقليمي، لكن الحكمة السياسية والموقف الأخلاقي يرشدان إلى أن أحسن السبل لنصرة سنة البحرين هو تحصين البحرين بالعدل والحرية، من خلال إنصاف شيعتها، وتحقيق سلم اجتماعي وإصلاح سياسي فيها يتأسس على التعاقد والتراضي بين الطائفتين.
أما الاصطفاف الطائفي غير المشروط مع أهل السنة، والوقوف في وجه مطالب الشيعة بالمشاركة السياسية والعدل الاجتماعي، فهو لا يخدم البحرينيين السنة على المدى البعيد، وإنما هو غطاء زائف قد يوحي بالسكون لأمد قصير، ثم تعود الأمور سائرة على أعنتها كما كانت. وهو قبل كل ذلك ظلم لقطاع عريض من المواطنين البحرينيين الشيعة.
أدرك الحساسية العميقة حول المسألة السنية الشيعية، وأعرف أن البعض منا قد استعبدتهم ذاكرة تاريخية انتقائية تصف السنة جملة بالطغيان السياسي، أو تصم الشيعة جملة بالعمالة والتآمر.
إن شعوبنا أنضج من أن تبقى مستأسرة لهذه الذاكرة الانتقائية والدوَّامة العبثية
“
ولو أن نصف سكان البحرين اليوم كانوا مسيحيين لكان حل المسألة أسهل بكثير، بحكم هذا الإرث الثقافي الثقيل من الشقاق السني الشيعي في الخليج.
لكن الحديث المفتوح في هذه الأمور الحساسة وتشريحها في الهواء الطلق هو السبيل إلى نزع فتيل الألغام وتحقيق السلام.
لذلك من المهم اليوم أن يتجرد أهل الرأي والقلم لتخليص أهل السنة من عقدة تخوين الشيعة تسويغا لحرمانهم من حقوقهم السياسية والاجتماعية، وتخليص الشيعة من الذاكرة المظلومية الموتورة التي ترعب السنة، وتوحي لهم بأن الشيعة طلاب ثأر أبدي.
فلم يقتل السنة أهل البيت في كربلاء، وإنما قتلهم حكام ظلمة، ولم يكن المغول أنصارا للتشيع أو التسنن، بل وثنيون أعملوا سيوفهم في الطرفين، فدمروا دولة (آلموت) الشيعية قبل أن يزحفوا على الخلافة السنية في بغداد، وكان الوزير الشيعي ابن العلقمي حليفا سياسيا لهم، وأعانتهم قوات عسكرية سنية بعث بها بدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل. قال ابن كثير “وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة” (البداية والنهاية 13/200). فالذي دمر بغداد على أيدي المغول بالأمس، وعلى أيدي الأميركيين منذ أعوام، هو الوضع المزري لمجتمع متحلل إلى طوائف، لا يرى أي منها لنفسه مكانا أو مكانة إلا على أشلاء أخيه.
إن شعوبنا أنضج من أن تبقى مستأسرة لهذه الذاكرة الانتقائية والدوامة العبثية. لقد رأينا جماجم المتظاهرين البحرينيين مهشمة في ميدان اللؤلؤة، ورأينا شرطيا تسحقه السيارة ثم يضربه المحتجون بعد ذلك بوحشية. ومثل هذه المشاهد التي تدمي القلب بذور شر مستطير لا يرضاه من يريد الخير للبحرين وأهلها، أو للخليج وأهله.
http://aljazeera.net/NR/exeres/F4AFDE3F-487D-4FB2-AFF6-66A7D0ABF08B.htm?GoogleStatID=1