خطبة جمعة ألقاها العبد الفقير : أحمد معاذ الخطيب الحسني من على منبر الجامع الأموي قبل أن يعزله الظالمون ، وكانت بتاريخ الجمعة 11 ذي الحجة 1412هجرية / 12 حزيران 1992 في ذروة مذابح المسلمين في البوسنة والهرسك ؛ تغيرت بعض الظروف قليلاً أو كثيراً فتم حذف حوالي ثلثها .. لكن الوباء والمغول الجدد ما زالوا يمتدون ، واليوم أتى الجراد إلى غزة ، يذيقها النار والموت والدمار بعد الجوع والحصار ، وحكام المسلمين أجبن الناس ، ولكن ستبقى إرادة الانتصار أقوى .. … وستكون لزلزال غزة آثار كارثية على كل حاكم ظالم ، وصاحب عمامة منافق ، وكل منهج منحرف (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) …
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه..
ونشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له نعبده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.. ونشهد أن الهادي محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا..
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير أما بعد..
فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وإن من كلام ربنا قوله تعالى: “وان يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون” (التوبة 8)..
وإن من هدي نبيكم ما أخرجه البخاري ومسلم من أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.. في هذه الأيام أيها الناس سهام البلاء تنقض على المسلمين من كل صوب……. وبعض الأتقياء كبلهم الأسى وألجمتهم النكبات.. فهم في يأس شديد.. ونظرت إلى وجوه الأطفال الباسمة …… وقلت لنفسي أيكتب لهؤلاء الأطفال أن يكونوا حملة راية الإسلام والعدل والتوحيد.. أم سيكتب لهم أن يذبحوا مع الأضاحي من أطفال المسلمين في [العراق وفلسطين وأفغانستان].. أم أنهم سيساقون لتكسر أضلاعهم الغضة على يد اليهود.. أم سيعيشون الشقاء والتشريد والتهجير مع أطفال المسلمين في بورما أم سيصيرون أشلاء من اللحوم والدماء كأطفال البوسنة والهرسك.. وهل سيعيشون ليمضغوا الذل الذي رضيه آباؤهم فيصبحوا عبيدا ما عاشوا.. أم ستتقد فيهم عزة الإيمان ورجولة جند محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصلابة المجاهدين الأوائل وهل سيربون على الهوان والصغار والحطة والانحلال فتكون آفاقهم لا تتعدى أجساد النساء وجمع الأموال والانهماك في الموبقات والفواحش والحرام.. أم سيتاح لهم من يقذف في قلوبهم حديث نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.: ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا.. وهل سيفقهوا قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.. (متفق عليه) . وهل ستتحرك قلوبهم يوما لقوله تعالى: “انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله” (التوبة 14).. وهل سيهزهم جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر وقد سأله عن أفضل العمل فقال الإيمان بالله والجهاد في سبيله (متفق عليه).. ورأيت أن كثيرا من الناس أصابهم الإحباط.. فها هي دول الكفر تجتاح بلاد المسلمين.. وتعيث فيهم فساداً.. والمسلمون لا يستطيعون حولاً ولا قوة..
ملوكهم خرس أنفق بعضهم على موائد القمار ما لو أنفق على كتائب الجهاد لما أبقت ديار المسلمين صولة لباغ ولا معتدي.. وأكثر أغنيائهم غافلون حمقى فجرة.. ينفقون على شهواتهم وملذاتهم المبالغ الطائلة الهائلة ولو أن ما أنفقوه على أجساد العاهرات أو مجالس الخمر جعل في الأمة لما بقيت لها كبوة ولا قدر عليها غاصب.. وعامة الناس في غفلة يجرون في الأرض جري الوحوش.. يظنون ذلك باب الراحة والكرامة ولو أنفقوا قليلا من هذا السعي في الخلاص من جهلهم والتفكر في عاقبة أمرهم.. لعاشوا حياتهم كراما لا يستعبدهم أحد ولا يجرؤ عليهم متسلط ولا طاغوت..
كل ذلك أصاب الأمة بالإحباط الشديد.. باليأس القاتل.. بالدمار النفسي والشلل المعنوي.. حتى أصبح بعضهم ينتظر اليوم الآخر والبعض ينتظر نجدة من المهدي وآخرون ينتظرون حملة عسكرية وغوثاً من نبي الله عيسى عليه السلام.. ولو تتبعنا سنن التاريخ أيها الناس.. لوجدنا أن هناك قوانين تتحكم في الانتصار والهزيمة.. جعلها الله بين الناس.. فحرص عليها من حرص وأضاعها المسلمون..
هل سمعتم أيها الناس بإرادة الانتصار.. هل فكرتم يوما بالتفوق النفسي.. هل خطرت ببالكم القوة المعنوية وبالأحرى لماذا تُفرِّطون بأسلحتكم المذهلة التي حمت أمتكم عندما أحدقت بها النكبات..
أتظنون حال الأمة الآن شر من حالها يوم تدافع المغول فمحوا حاضرة الدنيا بغداد من على وجه الأرض.. أم أنها أضعف منها يوم أتت جيوش الصليبيين الى الشام وقد صارت دولا كثيرة.. واستولى كل أمير على بضع قرى فجعل نفسه ملكا عليها.. ودخل الصليبيون القدس فذبحوا فيها ستين ألف مسلم جرت الأزقة بدمائهم.. أم أن روح الأمة أضعف من روحها يوم اجتمعت كلمة أوربة الصليبية على احتلال بلاد العرب والمسلمين وما زالوا بالأمة حتى دمروا لها رمز وحدتها المعنوية وألغوا الخلافة على يد عملائهم… فأصاب المسلمون ذهول مرعب ووجوم طويل.. أم أن مذابح اليوم أقل بشاعة من مذابح محاكم التفتيش في الأندلس التي أزهقت أرواح مئات الألوف من الناس.. وارتكبت من المخازي.. ما يشين وجه البشرية إلى يوم الدين..
ورغم كل ذلك صمد الإسلام وما تستطيع قوة أن تلغيه من على وجه الأرض.. “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”.. وما تستطيع دول الأرض كلها أن تمنع انبثاق نور الله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.. وذلك مشروط بأن يبقى الإيمان معانقاً أرواح الأمة والإسلام مبتدأها ومنتهاها.. والوعي بسنن الله في خلقه رصيدها ومبتغاها..
وكلكم يعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. “من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق” (رواه أبو داود)..
قد تمر بالأمة أهوال لا يستطيع فيها الناس شيئا ولكن إرادة الانتصار.. إرادة الثبات.. إرادة القتال والجهاد والاستشهاد تبقى حية في نفوسهم وكلما أخمدت ظواهرها.. اتقدت في القلوب واشتدت نارها.. أما أن يصيب الأمة الخور في النفوس والضعف في العزائم والجبن في القلوب فهذا هو الهلاك.. والتاريخ أيها الناس سجل مذهل لقوانين الانتصار..
هل سمعتم بالمغول؟ .. هل سمعتم بهولاكو الذي كانت الدول ترتجف عندما تسمع اسمه.. هل سمعتم بالجحافل الجرارة التي كانت تبث الرعب إذا ذكر مجرد اسمها..
إذاً فإليكم هذا الموقف المذهل: بعد أربع سنوات فقط من سقوط بغداد أي عام ستمائة وستين هجرية.. وما زالت الأمة تعيش رعبها من المغول.. قدم صندغون المرعب أحد قواد هولاكو.. فحاصر الموصل وكان فيها الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ.. وكان من عادة المغول أن يقتربوا من المدن مع فرق عسكرية خاصة تضرب بالطبول بطريقة مخيفة من أجل تحطيم نفسيات الناس قبل الوصول إليهم.. وكان في المدينة مندوب عن هولاكو فُرض عليها فرضا.. وكان يعينه على التجسس على المسلمين بعض النصارى ……. وكذلك بعض الخونة [المسلمين] الذين استطاع المغول شراؤهم بالمال.. وكان الملك الصالح يترصدهم ولا يغفل عنهم ويراقبهم.. وعلم أن مراسلة قد حصلت بين المتآمرين داخل المدينة وبين القائد المغولي صندغون.. وتلفت حوله يبحث عن نجدة.. كانت دول المسلمين الكثيرة يومها مثل البلاد العربية اليوم لا حول لها ولا طول.. ولم يجد أمامه إلا الملك الظاهر بيبرس.. فذهب إليه لاستدعاء النجدات.. واتفقت الكلمة على أن يبعث الملك الظاهر بيبرس بنجدة تحت قيادة سنقر الرومي لتلتقي مع قوات شمس الدين البرلي والي حلب.. وعاد الملك الصالح بصعوبة بالغة إلى مدينته.. وقد بدأت طلائع المغول تحاصرها.. والأقوات فيها تنفذ شيئا فشيئا.. والناس في رعب حقيقي فلا هم يستطيعون هربا ويعلمون أن قدوم المغول معناه الذبح.. وما كان يخفف عنهم رغم نقص الأرزاق والأقوات والعدة والذخيرة والرجال إلا تلك المعنويات العالية المدهشة لقائدهم الملك الصالح.. وآمالهم بوصول النجدات من إخوانهم.. وعلم المغول بالنجدات فاتصلوا بالصليبيين في بلاد الشام فحركوا قواتهم في طريق قوات سنقر الرومي المبعوث من قبل الظاهر بيبرس فاضطر لمناوشتهم ولم تعد قوات صاحب حلب كافية لوحدها للذهاب للنجدة.. فانه بات الآن يخشى على حلب نفسها بعد تحركات الصليبيين.. ورغم ذلك أرسل ما استطاع من قوات خرجت إليها جحافل المغول فدمرتها قبل وصولها وتركوا بعض الأسرى يفرون إلى الموصل ليزيدوا من ضعف المعنويات وطال الحصار وهلع الناس.. وانهالت منجنيقات المغول على حصون الموصل تدكها دكا.. وحاول المغول اقتحام المدينة مرات عديدة.. ولكن عزيمة المقاتلين صدتهم مرارا.. وازدادت الأمور سوءا.. وبعد ستة أشهر من الحصار لم يبق في المدينة زاد ولا طعام ولا مال وانتشر الوباء والجوع.. وكان الملك الصالح يعلم غدر المغول ولم يبق في اليد حيلة.. ولم تصل النجدات.. وبقيت عزيمته القوية تشد الناس كلهم.. ولكن هل يتحملون ما يتحمله.. وفي النهاية لم يجد مفراً من قبول عرض المغول.. لقد طلبوا منه تسليم المدينة وإلا فسيتابعون الحصار ويذبحون الجميع.. وقبل الملك شريطة أن لا يمسوا فيها أحدا ولا يسفكوا دم أحد ويعطوا الأمان للجميع.. ولم يقبل المغول.. لقد خافوا أن يذهب الصالح بعد رفع الحصار لإحضار الإمدادات.. وطلبوا منه رهينة.. أتعلمون من أخذوا.. أخذوا فلذة كبده ولده علاء المُلك الذي لم يتجاوز السادسة من عمره.. ورضي الصالح رغم المخاطر.. فحياة الناس أغلى من حياته وحياة عائلته كلها.. ثم طلب المغول أن يأتي الملك الصالح نفسه إليهم وأتى.. ليقسم له صندغون بأغلظ الأيمان أنه لن يمس أحدا من سكان المدينة.. وفتحت المدينة وقد خرج الناس إلى الأمان فإذا بسيوف المغول تسل وإذا بالجماجم تتكدس والدماء تجري في الأزقة والهمجية المغولية لا توفر شيخا ولا امرأة ولا طفلا.. إبادة جماعية مثل البوسنة والهرسك تماما.. [والعراق ..وأفغانستان .. وفلسطين ….] وهدمت الأسوار.. ولم يفر الملك الصالح.. دخل مثخناً بالجراح إلى خيمة صندغون يسأله عن العهود والمواثيق والأيمان.. ونطق الطاغوت بما في قلبه من أنه أراد أن يجعلها عبرة للمسلمين حتى لا يجرؤوا على القتال أبدا.. والتفت صندغون إلى الملك الصالح قائلاً ومستغرباً: أليس هناك أمر أشد أهمية من المدينة يخصك لتسأل عنه؟.. يبدو أن هزيمتك المرة أنستك أشياء كثيرة.. وكادت الدموع تطفر من عيون الصالح وهو يقول: لم أنس أبدا ولدي أيها الوحوش.. ولكن مدينتي وجنودي وشعبي أعز علي من كل شيء.. وقهقه صندغون برعب وفتح باب الخيمة ليرى الصالح مشهدا مخيفا.. فلذة كبده وقد شطرها المغول بالطول شطرين صلب الشق الأيمن منها على ضفة النهر اليمنى وصلب الشق الآخر عند الضفة اليسرى..
ولم تنزل للصالح دمعة..
وثبت باستعلاء في الموقف الذي تنهار به جبابرة الرجال
وقف يقول لصندغون: إني لا آبه الآن لابني وقد ذبحتم كل أطفال المسلمين.. والأيام بيننا.. لقد انتصرت بسيفك وستدحرك عزيمة أمثالي ومعنوياتهم.. وأرسل صندغون الملكَ الصالحَ إلى هولاكو الذي كان غاضبا جداً.. وناقماً على الصالح.. وكذلك زوجة هولاكو كانت غاضبة جدا.. (و كانت على دين الصليبيين تقوم بدور ضابط الارتباط بينهم وبين المغول).
وفي المعسكر أمر هولاكو أن يدهن جسم الصالح بسمن الأغنام ثم لفوه باللبن وأحكموه في الجبال وألقوا به في شمس الصيف القائظة فاستحال السمن بعد أيام إلى ديدان أخذت تتكاثر وهي تلتهم جسم الرجل الذي اختار مجابهة الوباء..
وبقي كذلك شهرا كاملا حتى فاضت روحه..
رحمه الله..
أيها الناس ما ذكرته لكم من قصة المغول شاهد قديم على قوله تعالى “إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم الا ولا ذمة”.. أي لا يراعون عهدا ولا ذمة..
والشاهد الحديث تستطيعون كل يوم أن تسمعوا أخباره في بقاع كثيرة أشدها المذابح البشعة لمسلمي البوسنة والهرسك على يد الهمجية الصليبية الحاقدة..
والعالم اليوم يتفرج مسرورا فرحا.. وانظروا تخاذل الأمين العام للأمم المتحدة الصليبي.. وانظروا مكر وخبث رئيس الولايات المتحدة الذي قال أن بلاده ليست شرطي العالم.. أفتكون فقط شرطيا لنهب بترول المسلمين ودوس مقدساتهم وسفك دمائهم وتدمير صناعتهم.. والتنقيب تحت كل ذرة رمل في بلادهم عن السلاح..
……………………………………
أيها المسلمون ورغم كل ذلك.. فان عزائمنا أقوى وان عقيدة الإيمان لتبعث فينا من القوة والعزيمة ما لا يعرفه الخبثاء والمتآمرون علينا.. وإنهم ليمكرون بنا ويمكر الله والله خير الماكرين.. وستأتي اللحظات التي يدب فيها نفير الجهاد للأمة كلها عندما تفقه الإسلام عندما تنكس الرايات الدخيلة وترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.. ولتكن نيتكم دائما البذل لله والجهاد والاستشهاد.. وإياكم والوهن إياكم حب الدنيا وكراهية الموت..
أخي يا قوة عظمى تهز الكون صرختكـا
عجيب أن ترى وجلا وثوب الخوف يلبسكا
أأنت الموت تخشاه وأنت الموت جنتكـا
اللهم اجعلنا ممن لا يخشى أحدا سواك.. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه..
ورغم كل ما يحيط بنا فقد قررنا أن نبقى ..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كتبها وألقاها : أحمد معاذ الخطيب الحسني