بعد أربع سنوات فقط من سقوط بغداد أي عام ستمائة وستين هجرية.. وما زالت الأمة تعيش رعبها من المغول.. قدم صندغون المرعب أحد قواد هولاكو.. فحاصر الموصل وكان فيها الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ.. وكان من عادة المغول أن يقتربوا من المدن مع فرق عسكرية خاصة تضرب بالطبول بطريقة مخيفة من أجل تحطيم نفسيات الناس قبل الوصول إليهم.. وكان في المدينة مندوب عن هولاكو فُرض عليها فرضا.. وكان يعينه على التجسس على المسلمين بعض الذميين! الذين أكرمهم الاسلام فما لقي من بعضهم إلا الخبث واللؤم والتآمر وكذلك بعض الخونة الذين استطاع المغول شراؤهم بالمال..
وكان الملك الصالح يترصدهم ولا يغفل عنهم ويراقبهم.. وعلم أن مراسلة قد حصلت بين المتآمرين داخل المدينة وبين القائد المغولي صندغون.. وتلفت حوله يبحث عن نجدة.. كانت دول المسلمين الكثيرة يومها مثل البلاد العربية اليوم لا حول لها ولا طول..ولم يجد أمامه إلا الملك الظاهر بيبرس.. فذهب إليه لاستدعاء النجدات.. واتفقت الكلمة على أن يبعث الملك الظاهر بيبرس بنجدة تحت قيادة سنقر الرومي لتلتقي مع قوات شمس الدين البرلي والي حلب.. وعاد الملك الصالح بصعوبة بالغة إلى مدينته.. وقد بدأت طلائع المغول تحاصرها.. والأقوات فيها تنفذ شيئا فشيئا.. والناس في رعب حقيقي فلا هم يستطيعون هربا ويعلمون أن قدوم المغول معناه الذبح.. وما كان يخفف عنهم رغم نقص الأرزاق والأقوات والعدة والذخيرة والرجال إلا تلك المعنويات العالية المدهشة لقائدهم الملك الصالح.. وآمالهم بوصول النجدات من اخوانهم.. وعلم المغول بالنجدات فاتصلوا بالصليبيين في بلاد الشام فحركوا قواتهم في طريق قوات سنقر الرومي المبعوث من قبل الظاهر بيبرس فاضطر لمناوشتهم ولم تعد قوات صاحب حلب كافية لوحدها للذهاب للنجدة.. فانه بات الآن يخشى على حلب نفسها بعد تحركات الصليبيين.. ورغم ذلك أرسل ما استطاع من قوات خرجت إليها جحافل المغول فدمرتها قبل وصولها وتركوا بعض الأسرى يفرون إلى الموصل ليزيدوا من ضعف المعنويات وطال الحصار وهلع الناس.. وانهالت منجنيقات المغول على حصون الموصل تدكها دكا.. وحاول المغول اقتحام المدينة مرات عديدة.. ولكن عزيمة المقاتلين صدتهم مرارا.. وازدادت الأمور سوءا.. وبعد ستة أشهر من الحصار لم يبق في المدينة زاد ولا طعام ولا مال وانتشر الوباء والجوع..
كان الملك الصالح يعلم غدر المغول ولم يبق في اليد حيلة.. ولم تصل النجدات.. وبقيت عزيمته القوية تشد الناس كلهم.. ولكن هل يتحملون ما يتحمله.. وفي النهاية لم يجد مفرا من قبول عرض المغول.. لقد طلبوا منه تسليم المدينة وإلا فسيتابعون الحصار ويذبحون الجميع.. وقبَِل الملك شريطة أن لا يمسوا فيها أحدا ولا يسفكوا دم أحد ويعطوا الأمان للجميع.. ولم يقبل المغول.. لقد خافوا أن يذهب الصالح بعد رفع الحصار لإحضار الإمدادات.. وطلبوا منه رهينة.. أتعلمون من أخذوا.. أخذوا فلذة كبده ولده علاء المُلك الذي لم يتجاوز السادسة من عمره.. ورضي الصالح رغم المخاطر.. فحياة الناس أغلى من حياته وحياة عائلته كلها.. ثم طلب المغول أن يأتي الملك الصالح نفسه إليهم وأتى.. ليقسم له صندغون بأغلظ الأيمان أنه لن يمس أحدا من سكان المدينة.. وفتحت المدينة وقد خرج الناس إلى الأمان فإذا بسيوف المغول تُسل وإذا بالجماجم تتكدس والدماء تجري في الأزقة والهمجية المغولية لا توفر شيخا ولا امرأة ولا طفلا.. إبادة جماعية مثلما حصل للمسلمين في البوسنة والهرسك تماما.. وهدمت الأسوار.. ولم يفر الملك الصالح.. دخل مثخنا بالجراح إلى خيمة صندغون يسأله عن العهود والمواثيق والأيمان.. ونطق الطاغوت بما في قلبه من أنه أراد أن يجعلها عبرة للمسلمين حتى لا يجرؤوا على القتال أبدا.. والتفت صندغون الى الملك الصالح قائلا ومستغربا.. أليس هناك أمر أشد أهمية من المدينة يخصك لتسأل عنه.. يبدو أن هزيمتك المرة أنستك أشياء كثيرة.. وكادت الدموع تطفر من عيون الصالح وهو يقول.. لم أنس أبدا ولدي أيها الوحوش.. ولكن أمتي ومدينتي وجنودي أعز علي من كل شيء.. وقهقه صندغون برعب وفتح باب الخيمة ليرى الصالح مشهدا مخيفاً حقاً .. فلذة كبده وقد شطرها المغول بالطول شطرين! صُلب الشق الأيمن منها على ضفة النهر اليمنى وصُلب الشق الآخر عند الضفة اليسرى.. ولم تنزل للصالح دمعة.. وثبت باستعلاء في الموقف الذي تنهار به جبابرة الرجال؛ وقف يقول لصندغون.. إني لا آبه الآن لابني وقد ذبحتم كل أطفال المسلمين.. والأيام بيننا.. لقد انتصرتَ بسيفك وستدحرك عزيمة أمثالي ومعنوياتهم.. وأرسل صندغون الملك الصالح إلى هولاكو الذي كان غاضباً جداً.. وناقماً على الصالح.. وكذلك زوجة هولاكو كانت غاضبة جداً.. (وكانت هي ضابط الارتباط بين زوجها وقومها الصليبيين) ،وفي معسكر هولاكو أمر بأن يُدهن جسم الصالح بسمن الأغنام ثم لفوه باللبن وأحكموه في الجبال وألقوا به في شمس الصيف القائظة فاستحال السمن بعد أيام إلى ديدان أخذت تتكاثر وهي تلتهم جسم الرجل الذي اختار مجابهة الوباء.. وبقي كذلك شهرا كاملا حتى فاضت روحه.. رحمه الله..
باختصار من خطبة جمعة ألقاها: أحمد معاذ الخطيب الحسني في جامع بني أمية الكبير بتاريخ:
الجمعة 11 ذي الحجة 1412/ 12 حزيران 1992
ملاحظة : تمت اعتماد ماكتبه المؤرخ والمفكر الإسلامي الدكتور عماد الدين خليل بعنوان: (المغول) كمصدر رئيس لتلك الخطبة