في كل أمة مرجعيات تُحافظ على كيانها، ولم يُبق النظام مرجعية إلا دمرها، عبرَ عمل مخابراتي وإعلامي وثقافي بل حتى تربوي سلبي طويل .
حالة التفلت هذه أدت إلى استباحة كل شيء، والفوضى في كل شيء، ودفع الجميع ثمنها.
كان النظام يفرض احترامه الظاهر بقبضة أمنية هائلة، فلما انكسر السد، ارتد الأمر على النظام نفسه بنوع من النقمة المختزنة في النفوس، بما انعكس تحقيراً له غير مسبوق، وطالت هذه النفسية العديدين، ممن يدهش المرء تُجاه سوقيتهم في الخطاب، بينما هم النسخة البعثية في ضمير الشعب الممحوق، وحتى لو أنهم تكلموا باسم الثورة، ووضع أحدهم قشرة من التفلسف الثوري، فإنه يبقى أداة تخريب في النهاية عندما يصول مدمراً كل رمز لأمة تذبح هي أحوج ما تكون إلى ما يلمها، وليس سراً أن أدهى مصيبة تحيط بالثورة هي طعن الرعاع من أنصارها، بكل رمز ثوري يخالف رؤية ضيقة يعيشون فيها، حتى يكاد يعدم وجود أمر يتفق عليه الجميع.
الرمزية لا تتعلق بالأشخاص فقط ، بل بشيء مقدس تموت الشعوب ويضحي الأشخاص من أجله.
قد يرضى الإنسان بدمار بيته في سبيل قضية يؤمن بها، ولكنه يموت من أجل رمز عظيم يلم الأمة كلها.
في حالات الحروب تستباح حرمات كثيرة، وقليلة هي الحروب الأخلاقية، وتحاول الأنظمة الشمولية ذات العقلية الإجرامية تدمير الرموز منذ البدايات لا النهايات.
عندما تُفقد الأخلاق حتى في الحروب، يستبيح بعض حاملي السلاح رموزهم الذاتية، ويشاركون من دون بصيرة في تدميرها ظانين أن ظروف الحرب تبيح لهم هذا الإعتداء الآثم، وظانين أنهم يصنعون نكاية في عدوهم بينما هم يدمرون ذواتهم.
كما يظن بعض البدائيين أن الحجر قابل للاستباحة من أي كائن ينتسب إلى البشر، ولا يعي أن أمماً بكاملها قد تمشي إلى الموت ولا ترضى بإهانة رموز لها، ظاهرها عند البدائيين مجرد شكل مادي، ولكنها في الحقيقة وعاء حضاري عظيم تختزن فيه كثير من المعاني الدينية والاجتماعية والثقافية وحتى الأخلاقية، حتى لتحس تماماً عندما تكون في داخلها بأنها تحمل في أعماقها روحاً آسرة، تجعل مجتمعات بكاملها تحلق لمجرد ذكراها، وتستمد كل معاني البقاء منها.
الجامع العمري في درعا، جامع خالد بن الوليد في حمص، الجامع الأموي في حلب، ومئات المساجد والعديد من القلاع والرموز التاريخية والكنائس تعرضت لقصف مباشر من النظام. وأجزاء من أروع ماجادت به البشرية تعرض لخراب غير مسبوق في المدن القديمة، ولكن ذلك ليس مبرراً لأحد أن يكرر دور النظام فيعيد استباحتها، وهل يباح الاغتصاب بحجة أن هناك مجرماً قد اغتصب من قبل.
حتى المدارس برمزيتها المعرفية لم يوفرها النظام فدمر أكثر من أربعة آلاف مدرسة، ولنتصور أثر دمار أية مدرسة على طفل تشكل له حقيقة البوصلة التي تنظم له الحياة عندما يضطرب الطريق بين يديه، ليأتي فيراها قد تهاوت، واللوح المقدس الذي طالما بنى فيه المعرفة بمعناها الإنساني الرحب، قد تحول إلى أشلاء لا يراها الطفل قطعا من الخشب المهشم، بل روحاً أزهقت قد لاتقل خطورة عن تحوله إلى يتيم تائه في غابة، ووضعته في فراغ نفسي مرعب، وضياع مخيف قد يجعل منه كائناً متمرداً على كل بعد معرفي وإنساني.
لماذا يدمر مسجد ، ولِمَ يستهدف معلم أثري، وكيف تستباح كنيسة ، بل كيف يمس أي شيء مقدس في أية كينونة ثقافية أو دينية أوحضارية.
لابدأن نعرف أن الواحدية عقيمة، وغنى المجتمعات وقوتها في تنوعها، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، وأخطر عامل انهيار حضاري، أن تتحول بعض الأغلاط إلى فلسفة ورؤية اجتماعية.
قد يهلل أحمق ظاناً أنه قد تحقق نصر مبين، إذ وصلت منذ أيام بعض القذائف الفاجرة إلى الجامع الأموي في دمشق، كما وصلت من قبل إلى أماكن عديدة في دمشق التاريخية القديمة، وهذا دليل حسم قريب!، متناسياً أن النظام الذي استباح كل شيء ويكذب في كل شيء، قد يصنع ذلك، وينسبه إلى الثوار، من أجل تشويه عملهم، وتقويض صورتهم، وتنفير كل عاقل منهم، مما لا تُدرَك أبعاده خلال وقت قصير.
بكل الحالات تقصّدُ هذه الأماكن عن عمدٍ جريمة لا تغتفر، وإن كانت إهمالاً فهي جريمة كذلك، فكنوز الأمم وأوعية حضارتها ليست أهدافاً عسكرية ولا أمكنة للتدريب.
أحمد معاذ الخطيب
خطيب جامع بني أمية الكبير بدمشق سابقاً