بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أبينا إبراهيم، وعلى أخويه موسى وعيسى، وعلى خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه المباركين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
العلاقات المجتمعية بين الثورتين (1925 – 2011)
سورية أكبر من حجمها على الخريطة بكثير، وتكاد تكون مفتاح العالم وقفله وبوابته، وقليل مَن ينافسها في فضلها الحضاري والفكري على العالم كله، ويكفيها أن الأبجدية أتت منها، ولم تبق حضارة ولا دين ولا فكر إلا وتنفس فيها.. وازدحمت في أرضهم الضيقة [أي السوريين] أحداث تاريخية وثقافية تتسم بزهوها وفعاليتها أكثر مما ازدحمت به أي أرض أخرى بنفس المساحة ، كما أن موقعها الجغرافي جعلها قلباً حياً يتدفق منه العطاء والتواصل بين قارات العالم، وإذا أضفنا إلى ذلك إمكانياتها الذاتية ونسيجها السكاني المدهش وتنوعه اللامحدود أدركنا لماذا صارت محط أنظار أمم الأرض في كل زمان.
شكلت تلك البلاد علاقات اجتماعية تراكمية متميزة أدّت وظائف خطيرة، وعوّضت عن غياب الاستقرار السياسي في أحيان كثيرة، وتمحورت ضمن مرجعيات مدهشة أهمها:
1- المرجعية العائلية: فقد كان لكل أسرة أو قبيلة كبراء يقومون بشؤونها.
2- المرجعية المهنية: فلكل مهنة (شيوخ كار) هم المرجع فيه.
3- مرجعية الحي: فزعماء الأحياء ساعدوا في الاستقرار الاجتماعي بشكل كبير.
4- المرجعية الشرعية: وكانت من أقوى المرجعيات ابتداء من إمام المسجد وانتهاء بالمفتي.
كانت تلك المرجعيات صمّام أمان للمجتمعات، وتتقاطع بشكل فعال. ويذكر محمد أديب الحصني بأنه (كان للصناعات رئيس أعظم يسمى نقيب الأشراف وشيخ المشايخ … [و] هو الذي يعقد الشد والعهد لأهل الصنائع، ويعين المشايخ لأكثر من مئتي حرفة في دمشق، ويفصل الخلافات، ويحسم المشاكل التي تقع بين أرباب الحرف آمراً وناهياً ومقاصّاً للمخالفين.
ويذكر فخري البارودي في مذكراته (2/48) - وهذا يدل على النسيج الاجتماعي والأخلاقي الذي كان في بلادنا - أن الحكومة العثمانية في آخر أيامها أسست محكمة تجارية بقيت ثلاث سنوات بدون أن يدخلها متخاصم واحد.
ومع قدوم الحكومات الديكتاتورية بدأ تحجيم تلك المرجعيات، وجرى السعي لتدميرها الكامل منذ قدوم حزب البعث إلى السلطة عام 1963، وإنشائه منظماته التي حاولت مصادرة الحياة المجتمعية، وأدت إلى كوارث على كل صعيد.
أدت تلك المرجعيات أدواراً رائدةً وعظيمة، وصنعت نسيجاً وطنياً مدهشاً أذكر بعض تجلياته:
أولاً - عندما جاء الاستعمار الفرنسي حاول الجنرال غورو أول قدومه، تقطيع أوصال سورية، وتفريق أبنائها على محاور الطائفية، “فأقدم على إحداث دولة لبنان الكبير ثم تأسيس دولة العلويين، ثم تلا ذلك إقامة دولة دمشق فدولة حلب، وتبعها إقامة دولة الدروز.. لكن أبناء سورية من كافة الطوائف وقفوا في وجه مخططاته الماكرة، ولولا وجود بنية اجتماعية قوية لما استطاع السوريون ذلك.
ويذكر رئيس الوزراء السوري الأسبق معروف الدواليبي أن سبب إخفاق فرنسة لتقسيم سورية عام 1925 إلى دويلات متعددة، يرجع إلى “الانتفاضات الشعبية التي قامت في سورية، وبخاصة في حلب التي فصِلت عن دمشق تحت اسم حكومة حلب، فقد انطلقت فيها مظاهرة من أكبر المظاهرات التي شهدتها سورية ومن أشدها، فكانت القاضية على مشروع الدويلات من أساسه…. وقد اشترك في المظاهرة الكبيرة كبار العلماء والطلاب. وكان كثير من المتظاهرين يحملون السلاح، وقوبلت المظاهرة بالمدفعية والرصاص…. وبدأت الصحف تعلن عن تجمعات الثوّار وأخبارهم كل يوم، فأُسقِط في يد الفرنسيين وأخذوا يتراجعون عن مخططاتهم ومشروعهم بتقسيم سورية إلى دويلات” .
ثانياً - حاولت فرنسة اللعب بالنار، وهي تدق إسفين التمزيق والطائفية بين مكونات الشعب السوري، ويبين حسن الحكيم أنه قد “أصرت فرنسة على عهد الوزارة الأتاسية في سنة 1920 على أن سورية [تضم] شعوباً! تتكلم العربية، ونحن أصررنا على أن سورية [تضم] سوريين فقط، وأتت المعاهدة في سنة 1936 فأقرت بوجود لبنانيين وعلويين ودروز وسوريين، ناهيك بالإسكندرون، وينفصل بعض هؤلاء انفصالاً تاماً، وبعضهم الآخر تربطهم خيوط أوهى من خيوط العنكبوت!” .
أفشل هذا الأمر النسيج المجتمعي السوري فتصدى عبد الرحمن الشهبندر لتلك الأصابع التي تريد تهييج الغرائز الطائفية، وكتب في مجلة الرابطة العربية تعقيباً على المعاهدة المعقودة سنة 1936، مقالة عن حماية الأقليات في سورية، وندد فيها بموقف الصحف الفرنسية “فإن الوحي أتاها من المصادر الرسمية لتحريك النعرة الدينية والتهويل بشأن حقوق الأقليات” .
ثالثاً - بينما قام المفوض الفرنسي عقب استشهاد حسن الخراط “باعتقال زعماء الأحياء بدمشق، وهدد بتسليط الجند السنغالي على أعراض النساء!” ؛ أنشأ المجاهدون محكمة للثورة، وكانت لها أحكام قطعية. والغاية من تشكيلها هو “فرض هيبة الثورة، وتفادي وقوع أي اعتداء من الثوار على النساء والأعراض خصوصاً، وحفظ حقوق العباد… ” ، وقد أعيدت التشكيلات وعين الشيخ محمد حجازي كيلاني مفتياً للثورة، والشيخ توفيق سوقية رئيساً لمحكمتها .
رابعاً - في لفتة رائعة ذكَّر سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية في كلمته لتأبين الشهبندر بما كان قد صرح به (د. الشهبندر) في خطاب له: “اجمعوا قلوبكم إلى قلوبنا، وضموا قلوبنا إلى قلوبكم، لا توصدوا أبواب الوطن في وجه من كان عاملاً صادقاً مخلصاً، لأن جنة هذا الوطن تتسع للجميع من غير تفريق في الملة” .
خامساً - من الأمور المميزة في العلاقات الاجتماعية ذلك الإدراك للمصالح الوطنية التي تجمع كافة مكونات الشعب السوري، والسعي للتعاون مع كافة الأطراف الطائفية لتحقيقها، ومثال ذلك انتخابات عام 1947، حيث برزت هناك قائمة سميت: قائمة الأمة [أمتلك وثيقة عنها]، وقد أيدتها رابطة العلماء ورجالات الوطنية والعلم والجهاد، وقد ضمّت وطنيين كباراً مثل زكي الخطيب وحسن الحكيم، ورجال التيارات الإسلامية مثل محمد المبارك وعبد الحميد الطباع وعارف الطرقجي، وعلي الطنطاوي، وأبرز رجال تيار التمدن الإسلامي: أحمد مظهر العظمة ، ولكن المدهش أيضاً أنها ضمت: فارس الخوري، عن الطوائف المسيحية، وقسطنطين منسي عن الروم الأرثوذوكس، وفريد أرسلانيان عن الأرمن.
وقد سمعت عدة مرات من شيخ الثورة السورية القاضي الجليل هيثم المالح شيخ الحقوقيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في سورية، أن رئيس الوزراء فارس الخوري عندما عاد من الولايات المتحدة، طلب إحضار طربوشه ليلبسه في المطار! ويبدو أن ابنه لم يتذكر الأمر، فوجد الخوري حرجاً كبيراً، فما كان من الشيخ العلامة بهجة البيطار إلا أن خلع عمامته ووضعها على رأس الخوري تهويناً للأمر عليه.
وهذا الأمر على طرافته يدل على هذا النسيج الاجتماعي الرائع الذي كان في سورية.
سادساً - رغم الكتابات والانتقادات الكثيرة عن دور برجوازيات المدن في المصادرة النخبوية، إلا أن هذا الأمر ضُخِّم بشكل فجٍّ، ولم يذكر أي جهد إيجابي، وأذكر المثال المدهش الذي قام به العلامة الشيخ علي الدقر، والذي يعد بحق الأب الروحي لعلماء حوران، فهو لم يدعْ قرية إلا وطاف بها وأمّن لبعض أبنائها الدراسة في الشام، ومعهدُ الغراء هو أكبر مثال على ذلك، وقد كان تجّار دمشق الصلحاء هم المنفقين على تلك المشاريع التي أوجدت علاقات مجتمعية عميقة ما زالت آثارها حتى اليوم.
حملت العلاقات المجتمعية تسامحاً مميزاً، والوجود النخبوي لم يستطع أن يلغي الروح العامة التي كانت تتقبل الجميع، وتنظر إلى العمل والنتيجة، فكان في الثورة السورية كل أبنائها، وكان من رجالات هذا الوطن هاشم الأتاسي وشكري القوتلي، إلى بدر الدين الحسني وهاشم الخطيب وعلي الدقر ومحمد الأشمر وصولاً إلى فارس الخوري وسعيد إسحاق، وإبراهيم هنانو وصالح العلي، ولعل الكثيرين يجهلون أنه قبل أن يأتي حزب البعث في نعراته التدميرية المعروفة كان هناك أربعة حكام لسورية من الإخوة الأكراد وهم:
1- محمد علي بيك العابد: حكم من (1932 إلى 1936).
2 - حسني الزعيم: حكم من (20 مارس 1949 إلى 14 أغسطس 1949).
3 - فوزي السلو: حكم من (1951 حتى استلام الشيشكلي السلطة عملياً في 1953).
4 - أديب الشيشكلي: حكم من (1953 إلى 24 فبراير 1954).
هناك أمر مهم يتعلق بالانتخابات التي حصلت عام 1947، حيث تدخلت قوى دولية لتزويرها ثم خططت لانقلاب عسكري عام 1949. وقد كان ذلك بداية التداعي في الحياة الوطنية في سورية!!
كما أنه في العام 1956 كانت هناك أكثر من دولة حاولت القيام بمؤامرة لقلب نظام الحكم - وهذا موثق بالأدلة- فقاموا بتوزيع المال والسلاح من أجل إنجاح مخططاتهم أيضاً.
وأشير إلى هذا الأمر من باب بيان ما يتعرض له الشعب السوري من فجر استقلاله إلى إشكالات.
الخمسون عاماً التي حكم فيها البعث في سورية أدت إلى التمزيق المجتمعي الكامل، حيث سعى بكل جهد إلى بث الشك والعمل على وضع الأفراد والطوائف والجماعات في مواجهة بعضها.
حتى إن الكثيرين يحتارون فيما يعتري السوريين من الإشكالات ونقول إن جزءا كبيرا منه يعود إلى تلك الحقبة التي أوجدت شكاً بين السوريين ونوعاً من التنازع الذي أدى إلى عواقب كارثية.
العلاقات المجتمعية رغم كل هذا بقيت قوية. هناك حادثة معروفة في بداية الثورة السورية عندما قامت السلطات الأمنية باعتقال الأطفال في حوران… إن النظام الذي حكم هذا الشعب بالحديد والنار حتى الآن لم يفهم البنية المجتمعية السورية، وقلنا إن هناك مرجعيات، ولم يبقَ أحد (وفضيلة الشيخ أسامة أحد الشهود الأساسيين على ذلك) في سورية إلا ونصح هذا النظام ورأسه بالقيام بخطوة بسيطة وهي الذهاب إلى حوران العظيمة وتقديم اعتذار من أهل حوران، فعندهم هذه المرجعيات الأخلاقية ومن أخلاقهم أن قدوم الكبير كافٍ لإنهاء أي مشكلة مهما كانت كبيرة. لم يبق أحد إلا ونصح النظام بذلك ولكن استكباره وصلفه أدّيا إلى هذه النتيجة التي نراها الآن.
وانطلقت الثورة بأنفاس وطنية كلّلها الإيمان واجتمعت على اسم الله، وشارك فيها مئات الألوف من أبناء سورية وأخص بناتها اللواتي كان لهنّ السهم الكبير في الثورة وخصوصاً في الفترة السلمية، واستشهدت الآلاف من الدكتورة أمل حمادي في الحراك إلى آمنة صهيوني في المرقب إلى حميدة الفياض في تلبيسة، واعتقلت عشرات الألوف. ولا أحد ينسى شهداء القامشلي عام 2004 والذين كانوا من إرهاصات الثورة.
أشير أيضاً إلى أمر رائع في حياة هذا الشعب، عندما ذهب شاب مسيحي هو باسل شحادة من أجل هذا الوطن العظيم واستشهد من أجله في حمص، خرجت في جنازته أعداد غفيرة من المسلمين، وكانت أكثر من أعداد المسيحيين، وكان عدد المحجبات ملفتاً في هذه الجنازة التي حرص النظام على إطفائها بل إلى عدم السماح للمعزين بالقدوم إلى الدار خشية أن يقوى هذا النسيج الرائع الموجود بين السوريين.
وأقول رغم ما ذكرته إلا أن النسيج المجتمعي في سورية فيه إشكالات ومخاطر أُجملها فيما يلي:
أولاً - التحطيم المنهجي الذي قام به النظام والذي يضع الجميع في مواجهة بعضهم. حقيقة فوجئت أحياناً أثناء حل بعض المشاكل أنه لا تكاد تجد أحداً إلا زُرِع فيه من قبل أحد الجهزة الأمنية نوع من التطميع أو الشراء أو المقايضة من أجل أن يبقى الجميع في مواجهة بعضهم.
ثانياً – الطريقة التي يجري التعامل بها مع أبناء سورية من قبل النظام أضعفت النسيج المجتمعي. على سبيل المثال: نحن عرب مسلمون، نرفع رؤوسنا بذلك، ولكن الطريقة التي حمل بها النظام القومية العربية كانت في غاية الإساءة، فهي لم تكن القومية التي تَلم، بل القومية التي تفرق. وأكبر مثال على ذلك ظلم إخواننا الأكراد في سورية وظلم إخواننا التركمان الذين عاشوا جميعاً في نسيج واحد في حياة مستقرة متفاهمة ولم يكن هنا عيب في حياتهم إلى قدوم هذه الأفكار الحادة التي أوجدت نتوءات ما زلنا نعاني منها حتى اليوم.
ثالثاً - التسطيح الديني الذي لم يدرك أصحابه مسؤولياتهم حتى اليوم. أريد أن أقول أمراً أنا أعتقده وكثيرون من إخواننا في الثورة السورية، نحن لا نتكلم بنفس طائفي أبداً ولكن نقول إن أهل السنة والجماعة في سورية ليسوا جزءاً صغيراً بل هم الحاضنة الاجتماعية والحضارية لكل مكوِّنات شعبنا وهذا أمر لا ينكره أحد، ولكن الخطاب الديني الذي سُطّح عمداً من قبل النظام جعل هذا الخطاب يغرق في تفصيلات وفي فرعيات ومهاترات ضيقة لا تليق بدوره، ومن ثَمّ عجز عن القيام بخطوات استباقية من أجل معالجة إشكاليات سوف تأتي وخصوصاً في بلدنا. أنا لا ألوم بعض الإخوة الذين يعيشون في بلد يتألف من مكونات واحدة، ولكن بلدا مثل بلدنا فيه طوائف، وعندنا أفكار كثيرة جداً لا يشترط أن تكون دينية، وهذه تحديات تواجهنا لا بد أن نتعامل معها.
وعلى سبيل المثال العلمانيون، ونحن نميز بين العلمانيين الذين هدفهم تحطيم الدين والعلمانيين الذين يقولون إن في المجتمع طوائف وجماعات ولا نريد أن يتغول بعضها على بعض. ومن أجل ذلك نقول إن حقوق الناس تنبع من وجودهم لا من كثرتهم.
ماذا عن العلمانيين؟ هل نستطيع مثلاً بفتوى دينية أن نعتبرهم طائفة من الطوائف؟ فالإمام أبو يوسف رحمه الله في (كتاب الخراج) عندما سأله هارون الرشيد عن بعض الفرق التي لم نسمع عنها، أعطاه نوعاً من الفسحة التشريعية من أجل التعامل معهم. فما دام هناك بعض الناس يعتقدون بعض الأفكار ويحترمون النسيج العام والخط العام الذي تعيشه البلاد فلا بد أن يوجد حل لذلك.
أيضاً هناك أمر مهم جداً ولا يتسع المجال له، أقول بأسف إن أكثر الإسلاميين في أكثر البلاد يعتبرون الوطنية شيئاً معاكساً للدين، وأترحم على القاضي الشيخ فيصل المولوي الذي كان بعيد النظر وكتب دراسة في ذلك. وأذكر على سبيل المثال ما جاء في كتاب (فتح الباري) في باب الحج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر فأبصر طرق المدينة العالية أوضع ناقته وأسرع بها من حب المدينة، قال الإمام ابن حجر: في الحديث دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه. وماؤزال بعض أستاذتنا يُلقون الخطب الفارغة على المنابر ويقولون الوطنية تعارض الإسلام. والوطنية جزء ومكون أساسي من ديننا بإذن الله تعالى بشهادة هؤلاء العلماء وأمثالهم.
رابعاً - الفكر الصدامي الذي ابتُلينا به. نحن نفهم الإسلام نقطة جذب للعالم، وهناك تشكيلاتٌ وأحزاب تفهم الإسلام نقطة صدام مع العالم، وقد ازدادت فقراً فوق التسطيح الذي نعانيه، وحملت إلينا فقراً مدقعاً شرعياً وأخلاقياً واجتماعياً.
وأريد أن أتحدث بصراحة عن مسألة مهمة جداً، موضوع الإخوة العلويين في سورية: هناك بعض الناس الذين حملوا فتاوى تاريخية وأتَوا بها إلى بلادنا ويريدون فرضها علينا فرضاً. نحن لا نناقش هنا أي ملة أو طائفة، هل هي مؤمنة أو كافرة، الإيمان واضح، كل دين له عقيدته الواضحة والأشياء التي تخرج من الملة أو يمكن قبولها، لا نتكلم عن هذا الأمر، بل نتكلم عمن يأتي ويحقن الناس ويتكلم عن الإبادة الجماعية لهذه الطائفة وغيرها. أقول بملء فمي: ليست بيننا وبين العلويين كطائفة مشكلة، الإشكال الأساسي الموجود هو الإشكال مع النظام الذي يستخدم الطائفة العلوية درعاً له ويحفر لها قبراً تاريخياً واجتماعياً بزجِّها في معركته وليست معركة الطائفة العلوية. ونحن نقول إن الموجِّه في هذا الأمر هو قادة الثوار مثل الشهيد كمال حمامي والشهيد الشيخ جلال بايرلي الذين كانوا يقودون الثورة المسلحة في جبال العلويين ويدخلون قراهم ويقولون لهم أنتم آمنون وأنتم إخواننا، نحن أتينا لنرفع عنكم الظلم ولم نأتِ لأي شيء مما تتوهمون أو مما يُلقى به إليكم من الإبادة أو غير ذلك، ومقاطع المصورة في اليوتيوب موجودة حتى الآن، وهؤلاء الإخوة القادة اغتيل منهم أكثر من عشر شهداء من قِبَلِ جماعات ترعاها دول بكاملها تحاول إيقاد الفتن المذهبية الطائفية، وتصفيةَ حسابها في بلادنا.
لقد قمنا بالثورة من أجل العدل لا من أجل الانتقام… خطنا هو العدالة لا الانتقام… يُحاسب الإنسان على عمله لا على طائفته.
وأذكِّر الإخوة العلويين أيضاً بأنْ ليست الطائفة السنية ولا أي مكون سني مَن اغتال اللواء محمد عمران، ولا هم الذين اعتقلوا صلاح جديد في السجن 28 سنة، ولا هم الذين اغتالوا اللواء غازي كنعان.. ولا هم الذين يعتقلون حتى الآن الدكتور عبد العزيز الخير، هؤلاء جزء من أبناء الوطن، والعدالة هي التي تحكم بين الجميع.
خامساً – وهو أمر أخلاقي وإنساني، فقد أرسلتْ لي بعضُ الأمهات -وبعضهن من طوائف مختلفة- في سورية بسبب هذه الظروف، فهناك محتجزون من طوائف مختلفة، وأنا أطلب من كل مكونات شعبنا، وأطلب من النظام رغم توحشه أن يُطلق أي محتجز من النساء أو الأطفال. من العار أن يبقى في سورية محتجَزٌ من النساء أو الأطفال. وأنا أطلب من المنظمات الدولية كمنظمة التعاون الإسلامي أو منظمة جيمي كارتر للسلام أو الصليب الأحمر الدولي التدخل بنوع من الوساطة الإنسانية من أجل إطلاق سراح أي إمرأة أو طفل في سورية من كل مكونات شعبنا.
سادساً - ألغى حزب البعث تاريخ سورية المعاصر، وأصبح الشعب السوري حقيقة بلا هوية واضحة، والنسيجُ العفوي الأخلاقي الذي زرعه آباؤنا وأجدادنا هو الذي يمسك بعضنا ببعض. وهذا الإلغاء للتاريخ أدى إلى عاقبة وخيمة، وعلى سبيل المثال: نرى أن الآباء المؤسسين للاستقلال السوري لا يُذكرون في كتب التاريخ، فقد محا النظام كل شيء قبله، مع أن سورية حافلة بالرجالات العظماء الذين أفاضوا الخير والفعالية الحضارية على المنطقة برمتها، وهذا الأمر يجعلنا في خطر، ونحن بحاجة إلى تواصل شديد بين جميع مكونات الشعب السوري لإيجاد هوية وطنية أخلاقية إيمانية جامعة.
النقطة الأخيرة: (فوبيا) الأقليات.
لا شك أن تعرض أي إنسان للخطر لمجرد انتمائه لطائفة أو دين أو مذهب أو فكرة هو عمل غير أخلاقي وغير إنساني وغير قانوني وغير شرعي.. ولكن الشيء العجيب يا إخواننا أن البحث عن الكلام عن الطائفة أو الأقليات لا يبرز إلا عند تعرض بعضِها للخطر، وهذا الأمر من حق تلك الأقليات وهي جزء أصيل من شعبنا .. ولكن ماذا عن الناس الذين دفعوا حتى الآن 250 ألف شهيد؟ وماذا عن الناس الذين يبتلع النظام حتى الآن من أبنائهم 250 ألف أسير وأسيرة؟ ماذا عن ستمئة ألف مصاب إصابات صحية؟ ماذا عن تسعة ملايين مشرد ومهجر؟ ماذا عن وطن دُمِّرت بنيته التحتية؟
ألا يستحق هذا المجتمع الدولي المُنافق أن يلتفت قليلاً من الناحية الإنسانية؟ نحن لا نطلب الدعم للثورة بمقدار ما نطلب الدعم للإنسان. والذي يدمر في سورية هو الإنسان..
وهناك ما يوقظ الغرائز الطائفية.. دول كبيرة وصغيرة توقظ الغرائز الطائفية كما استُخدمت أول ما قدم الجنرال غورو إلى سورية. نحن نقول: كل الطوائف مكون أصيل في شعبنا وهو في عيوننا ونحن الحامل والوعاء الحضاري لها، ونريد من دول العالم المُحِبة حقيقةً لسورية أن تكون لنا العونَ الشديد من أجل أن تلمنا لا من أجل أن تكبِّر جراحنا.
في النهاية أذكر كلمتين لرجلين كانا يحبان الشام حباً عظيماً، وغادرا سورية ولم يرجعا إليها، فماتا غريبين : أولهما علامة الشام الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله إذ يقول: (وأهل الشام كالماء، لهم في الرضا رقته وسيلانه، وفي الغضب شدته وطغيانه، بل ربما كان لهم من البركان فورانه وثورانه).
والرجل الآخر شاعر الياسمين نزار قباني إذ يقول:
آه يا شامُ كيفَ أشرحُ ما بي وأنا فيكِ دائماً مَسكونُ
سامحيني إن لم أكاشِفكِ بالعشقِ فأحلى ما في الهَوى التضمينُ
نحنُ أسرَى معاً.. وفي قَفَصِ الحُبِّ يُعاني السَّجَّانُ والمسجُونُ
يا إلهي جَعلتَ عِشقِيَ بَحراً أحَرامٌ على البِحارِ السُّكونُ
رضي اللهُ والرسولُ عن الشامِ فنصرٌ آتٍ وفتحٌ مبينُ..
والسلام عليكم
أحمد معاذ الخطيب الحسني