إهداء إلى إخوة أكراد كثر .. بدأت رفقتي معهم منذ عام 1978 وبعضهم مضى إلى ديار الحق ، وبعضهم ما يزال في الطريق .. وما بدلوا تبديلاً ..
تعرفتُ على سلمى منذ ستة وثلاثين عاماً ، وهي قرية رائعة في جبال الساحل ، وكان أجمل ما فيها بالنسبة لي ، رغم طبيعتها الفاتنة صوت الشيخ سالم في صلاة الفجر يعبق مع نسائم كأنها من الفردوس ، وهو يصلي بنا في المسجد الملاصق لمكان إقامتنا ، وقد اكتشفت أنا وهو لاحقاً أنه كان زبوناً قديماً لي في دمشق عندما كنت أخطب في المساجد.
تجددت ذكرياتي بطريقة موجعة عن سلمى ، عندما حشرتُ في زنزانة ضيقة مع أكثر من سبعين معتقلاً في فرع فلسطين ، وكان أبو مصطفى أحدهم وهو من أبناء سلمى الأشداء ، ولا يستطيع أحد أن يصف الألم الذي كان يعانيه ، فقد كان يمشي بصعوبة على عكازين ، رُبط على أحدهما كيسٌ يتدلى منه سائل أصفر ، بينما تبدو آثار جراح لا استطيع وصفها وينز الدم من جرح كبير ضُمت وخيطت أجزاء اللحم فيه بشكل غير متقن ، وفهمت أنه اعتقل بعد اشتباك مسلح في جبل الزاوية ، وقد وضع أحد الأنذال فوهة الكلاشينكوف على ساق الرجل مباشرة ، وأطلق النار ، بحيث تفتت عظم الفخذ بشكل مرعب.
رغم ذلك كان معنويات الرجل كافية لتوزع على مدينة بكاملها ، وكان يقول بعزيمة ترافقها ابتسامة آسرة : مهما فعلوا بنا فأقسم بالله أنا لن ندعهم حتى نحرر سورية من ظلمهم ..
أذكر هذه القصة التي في ذاكرتي عشرات منها ، لأقول أن هذا الرجل كان من الإخوة الأكراد (وكثير من القرى هناك يرجع سكانها إلى أصول كوردية) ، وهو لم يتكلم بذلك ، ولكنه ضم سورية كلها في روحه ، ووضع دمه على كفه ، وهو النموذج الرائع التي التحم مع سائر إخوته في جهاده ثم في سجنه ، بل حتى في صوته الأجش عندما كنا نقرأ القرآن الكريم أوننشد بعض الأناشيد في غفلة من السجان.
لايهمني عدد الأحزاب السياسية في أي مكون ، ولا أسماء القيادات السياسية في هذا الزمن المر ، فقد تعلمت أن العديد منها أقرب إلى فقاقيع الصابون ، وأن الجلخ الإعلامي يبرزها أو يخفيها ، وأن الشعوب تبقى والواجهات تفنى ، وتعلمت أيضاً أن قصة أبي مصطفى هي نموذج مصغر عن كثير من أبناء شعبنا من كل مكوناته الدينية والعرقية والطائفية ، وأن الصور التي تعطي لهذه الجهة أو تلك هي عين التزوير ، فما زال شعبُ سورية رغم كل ماحدث شعباً واحداً ، ينقصه الكثير ، ولكنه في أعماقه يمشي شامخاً بساق أبي مصطفى ، ويدوس بها ظلم نظام فاجر ، وانتهازية قادة سياسيين ، ومكر دول كثيرة تحاول بكل طريق أن تدمر شعبنا وبلدنا.
تعلمت أن صورتنا كلنا قد يتبادل رسمها كمال حمامي أوأبو فرات أوغياث مطر ، و قد تكون من أدق اللوحات الكردية المؤثرة صورة أبي مصطفى ، وربما تكون من أبدع اللوحات المسيحية تلك المنمنة الرائعة التي أبدعها باسل شحادة ، وربما يصوغ لوحة العلويين البسطاء الذين يفتك النظام بهم رجل يرفع صوته كالعقيد مصطفى شدود أو يصر بعناد على موقفه كالعقيد وجيه هواش ، والذي كان في نفس الجبل الأشم الذي اعتقل فيه ابو مصطفى ، ووضعت رصاصة في رأسه مثل أبي مصطفى تماماً ، لأنه رفض قصف قرى آمنة كان فيها مدنيون ربما كانوا أقرباء لأبي مصطفى الثائر..
كان أولئك المخلصون لبلادهم يحملون أرواحاً قلقة ، ترفرف في وطن حزين ، وتظلل كل من في سورية ، وتلم أشلاءهم ، وتقول لنا جميعاً: مالسورية نجاة إلا أن تكونوا قلباً واحداً ويداً واحدة.
لم يُبق النظام بيتاً ضده أو معه إلا وأدخل إليه التوابيت والأحزان ، ولكن ماهو مطلوب حقاً أن تستيقظ كل نوازع الخير فينا دينية أو أخلاقية أو وطنية، وأن نحس رغم كل جراحنا بكل أجزائنا التي يطلق عليها النار من مكان قريب لتفتيتها ، تماماً مثل ساق أبي مصطفى ، والتي بقي يمشي عليها وعزيمته الماضية وعيناه تلمعان بإصرار وصدق ، قائلاً هذا الوطن لن يكون إلا لأبنائه ايها الظالمون.
ننزف من كل مكان ، دمنا يسل من جراح لا عد لها ، أحزاننا لا يمكن أن تحتويها السطور ، ولا بعض الفضائيات ، جراحنا أكبر من الألم ، تمتد من حوران إلى الغوطة الشرقية والغربية إلى القلمون فحمص فحماة فإدلب وحلب فالجزيرة … ولكن من أمضّها وأوجعها اليوم ما يجري لأهلنا في منطقة ديشتا سروج (أي سهول مدينة سروج ، ويقال أنه أحد آباء ابراهيم عليه السلام ، وسميت قديما كوباني ، ثم عين العرب ، وكلاهما اسمان عمرهما أقل من مائة عام). والممتدة بين تل أبيض وإعزاز ..
ليس المهم الاسم بل مايحصل من تهجير جماعي ، وانتشار للجراد هناك ، وتدميرٍ لأواصر محكمة ، ووشائج قربى ، وتاريخ وحضارة.
هل تلزمنا مئات السنين من المحن حتى ندرك اننا جسد واحد ، كنا وسنبقى ، وأن كل سياسات العالم ستتناثر وتتلاشى في حال بقينا معاً ، ومددنا أيادينا وفتحنا قلوبنا وبيوتنا لبعضنا ، كما كنا وسنبقى.
هل نحتاج لنذكر أن إخوتنا وأهلنا الأكراد تحيط بهم ذئاب كاسرة من كل صوب ، وأنهم كانوا من السباقين لنصرة شعبنا الجريح ، ووقعت كل آلامه جراحاً غائرة أدمت قلوبهم فكانوا من أوائل من انتفض في ثورة الحرية والكرامة ، استجابة للشام وحوران وحمص.
هل تلزم إعادة التاريخ لنقول أننا ُظُلمنا جميعاً ، ووقع بأهلنا من الظلم ماوقع بنا وربما أكثر ، وان سياسات الدول تلاعبت بنا وبهم ، لا نصرة لنا ولا لهم ، بل لتمر فوق أجسادنا وجثثنا من أجل مصالحها.
هل ننسى ولا ينسى إلا اللئيم أن خُلُقنا وديننا وفطرتنا تدعونا إلى معرفة النعمة وذكر الجميل ، وأننا كعرب ندين بالفضل إلى إخوة كورد جمعتنا بهم وشائج أقوى من أن تنصهر ، وأن بعضهم كان له سبق حتى في المحافظة على وجودنا الديني والقومي ، ابتداءً بصلاح الدين الأيوبي (القائد الكوردي العظيم) ، فالإمام بديع الزمان النورسي (الأب الحقيقي للحركة الإسلامية في تركية) ، ثم محمد كرد علي (رئيس مجمع اللغة العربية ، والمنافح عن العروبة والإسلام ، فأحمد شوقي (أمير شعرائنا وأبدعُ من ملك القوافي) ، وغيرهم كثير ..
يا أيها الناس .. كلنا نباد ونضطهد ونُهجّر ونسجن ونعذب ونقتل ،عرباً وكورداً ، مسلمين ومسيحيين ، مؤمنين ومعرضين .. إنهم يقتلون كل شيء فينا ومنا ، ومامن دواء لهذا البلاء إلا أن يستيقظ الإنسان فينا ، ويكون معه إيمان بالحق وإصرار عنيد عليه ، ويمتد ألمُ كل واحد منا فيتداعى له كل واحد منا وكل جزء فينا بالسهر والحمى ..
يا أيها الكورد الأحبة ، دمنا من دمكم ، وهمكم من همنا ، ودموعكم من مآقينا وشيوخكم كبار فينا ، ورجالكم إخوتنا ، ونساؤكم أخواتنا وحرائرنا ، وأطفالكم أبناء لنا ، وكل صرخة ألم منكم فمن قلوبنا ، وكل أذى يصيبكم فعار علينا جميعاً.
أدعو كل أبناء شعبنا السوري وكل من يناصر قضيتنا في الحرية ، أن يبذل جهده إعلامياً وسياسياً في فضح ما يجري لأهلنا في كوباني (عين العرب) وما حولها ، وأن يتبرع كل قادر بما يطيق من مال أو كساء أو غذاء ، إلى الجمعيات الإنسانية الموثوقة في المنطقة ، لإنقاذ أهلنا وشعبنا الذي يباد ، وتتفرج دول كثيرة عليه ، لتستثمر دمه وآلامه فيما تبيته من الفخاخ والمكائد لنا جميعاً.
لقد أطلقوا عليك النار يا أبا مصطفى بالكلاشينكوف يوماً ، والآن يطلقون النار على شعبنا الأعزل بالدبابات والمدفعية الثقيلة ، وتطلق الدول يد صنائعها ذبحاً وتقتيلاً وتهجيراً ، ولكن من كان فيهم مثلك يا أبا مصطفى فلن يلينوا ، وستبقى راية الحرية تشدهم وتحدوهم نحو فجر قريب.
وللأوطان في دم كل حر ….. يدٌ سَلَفت ودينٌ مُستَحَقُّ.
وسلام الله عليكم يا أهلنا في كل مكان وحين.
كتبه أحمد معاذ الخطيب
19 أيلول 2014