محاولة لإعادة بناء المجتمع المسلم
الداعية المفكر أبو جرة سلطاني
التربية بالصحبة
لتصحيح مسارات البناء الاجتماعي وتصويب المراحل الانتقالية ورسم “الصورة النهائية” للمجتمع الإسلامي النموذجي فيكمل بذلك الدين وتتم النعمة ويأخد المجتمع الإسلامي صورته الكاملة (النموذجية) ويستقر التشريع على الأحكام النهائية باستكمال أدوات بناء المجتمع النموذجي في أبهى صوَّره وفي أرقى علاقاته بعد سلسلة من المراحل الإنتقالية كانت تعمل في واقع اجتماعي متحرك تم خلالها – في 23 عاما من الدعوةوالتربية- إفراغ القلوب من الشهوات وتفريغ العقول من الشبهات وفك ارتباط الإنسان النموذج بكل ما له صلة بعبادة العباد ليتم الربط المحكم والفاصل بعبادة رب العباد، كما عبر عن ذلك ربعي بن عامر (رضي الله عنه) سفيرالإسلام إلى قصر الإمبراطورية الفارسية في أوج قوتها وقمة سلطانها.
1-لماذا تبوك :تعمدت تسليط الأضواء التربوية والدعوية والفكرية والسياسية..على غزوة تبوك دون سواها من الغزوات، لسبعة (07) أسباب جوهرية لها علاقة مباشرة بموضوع هذه السلسلة من الأحاديث، التي تحاول أن تأخذ بيدك بأدب وثقة وتقودك برفق وسلاسة وسلامة إلى التأمل المبصر في تركيبة اجتماعية نادرة تهفو إليها أنفسناجميعا، ولكن الشقة بعيدة والعقبة كؤود إلاّ على من عقد العزم على العودة الجادة إلىالنبع الصافي (كتاب الله تعالى، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
ويمكن حصر هذه الأسباب السبعة في العناوين الكبرىالتالية :
- أحداث هذه الغزوة تعكس صورة المجتمع الإسلامي في أدق تفاصيله.
- أنها تناولت موضوع العلاقات في أوسع معانيها
- أنها كشفت خبايا النفس البشرية وأطماعها ومكوناتها وتعاطيها مع الواقع الجديد..
- أنها وضعت الأحكام النهائية لعلاقة المسلم بالله وبالناس وبالمحيط العام
- أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحح خلاها كل ماكان سائدا بين الناس من أعراف
- أن خصوم الإسلام وأعداء الحق قد كشفوا عن جميع مخططاتهم وما كانوا يضمرون ففضح القرآن نواياهم ورسم مسارات التعامل مع جميع الأصناف البشرية.
- أنها الغزوة الوحيدة التي حملت إسم العسرة و”الفاضحة” لأن كل ما كان مخبوءا تم كشفه وفضحه..وكل ما كان مستورا تمت تعريته، والذين كانوا”يخادعون الله والذين آمنوا”اكتشفوا حقيقة تلاعبهم ومصير تآمرهم وذاقوا وبال أمرهم..”وما يخادعون إلاّ أنفسهم ومايشعرون”
هذه أسباب مباشرة، وهناك أسباب غير مباشرة مازالت حية في نفوسنا، وكأننا معنيون اليوم بكل ما حدث في هذه الغزوة وكأن أحداثها الحية المتحركة لها صلة بواقعنا اليوم وأننا نحتاج أن نلتقطها بالعدسة التربوية المقربة ( زوم) ليدرك أبناء الإسلام أن الأمر جد، وأن المتراخين والمترهلين والمستلقين في ظلال دعوة..، والقائلين لإخوانهم “ذرونا نقعد مع القاعدين” لا يليق أن يأخذ عنهم الناس الإسلام الحق الذي أخذه الصحابة (رضوان الله عليهم) بالتضحية والصحبة والمكابدة وركوب الصعب في ساعة العسرة، ونقلوه إلينا صافيا عذبا زلالا كما تلقوه عن الله ورسوله، فقام اليوم من يطمع في أن يدخل الجنة بسقايه الحاج وعمارة المسجد، كما يطمع أن يعيد بناء المجتمع المسلم بإفشاء السلام، وكثرة الكلام ،وحضور مؤائد الطعام..إلخ، وينسى هؤلاء المسترخون في ظلال الخوالف أن الله تعالى جعل سلعته غالية، وجعل الطريق إليها محفوفة بالمكاره، وخاطب كل طامع في الوصول بغير زاد بقوله تبارك وتعالى : “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟”
ولأن نصر الله قريب، فإني أبادر بالقول :
لست مثاليا ولا ميئسًا ولا متشائمًا ولا متشددا في سوْق هذه المعاني، وإنما طبيعة محاولة”إعادة البناء”هي محاولة جادة وتحتاج إلى ثلاث مراحل كل مرحلة مترابطة هي أصعب من أختها :
- مرحلةهدم ما هو فاسد ومنحرف وضال..وتسمى مرحلة التخلية
- ومرحلة فرز ما اختلط وما اندس ومن اخترق الصفوف..وتسمى مرحلة التصفية
- ومرحلة إعادة ترتيب كل شيء في مكانه بمنهج واضح وخطة مدروسة ورؤية شديدةالوضوح..وتسمى مرحلة التحلية.
وهو نفس المنهج الذي صاغه الصحابي الجليل بقوله : “كان رسول الله يفرغنا ثم يملؤنا”، وعملية الإفراغ والملء ليست عملية “ميكانيكية جا”فة، لأنها متعلقة بالإنسان، وبناء الإنسان، وعواطف الإنسان ومشاعرالإنسان..وعندما نقول”الإنسان”فإننا نعني كل ما يمور في نفسه من مشاعر وعواطف وأحاسيس.. وما يدور في عقله من أفكار وتصورات ورؤى.. وما يتراكم في التركيبة البشرية من ثقافات، وما يختلج فيها من متناقضات وما يترسب في ماضيها من ذكريات وما يتشابك في لا شعورها من “عقد” ومخاوف ومجازفات..
كل هذه المعاني عرضتها أحداث غزوة تبوك وتناولتها بالدرس والتوجيه، وبالأمر والتصويب، وبالنهي والتحذير.. فأبرزتها من “الأعماق” إلى السطوح وتولى القرآن الكريم إعادة صياغتها وترتيبها وتبويبها وإصدار الأحكام النهائية بحقها، ثم تولى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إضفاء المسح النبوية اللازمة لإدراجها في سياقات تربوية نحن أحوج ما نكون إليها اليوم لتصحيح تصوراتنا وتسديد خطواتنا ورسم معالم السير نحو إعادة بناء المجتمع المسلم.
-2 تبوك تحت المجهر :في السنة الثامنة (08) للهجرة (يوم 20 رمضان المعظم) فُتحت مكة المكرمة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وكان بعض من دخلوا في هذا الدين “أفواجا” قد التحقوا بالمجتمع الإسلامي”مستسلمين”للأمر الواقع الذي فرضته طبيعة الفتح حيث بسطت فيه العقيدة الإسلامية سلطانها على النفوس والعقول، وعلى الواقع، ووجد كثير من ضعاف النفوس ومن الذين في قلوبهم مرض مصالحهم مهددة أمام زحف الإسلام على آخر قلاع الشرك، في مكة وما حولها، فكان إسلامهم ضربا من التسليم بانتظار أن تسنح الفرصة لينقضوا على الإسلام ودعوته، وقد حاولت قبيلتا هوازن وثقيف ومن معهما – كأكبر تجمع شركي بقي بعد فتح مكة - أن توقعا بالمسلمين يوم حنين ولكن الخطة سرعان ما كُشفت وبسط الإسلام نفوذه الكامل على كل ما يتحرك فوق تراب شبه الجزيرة العربية، وبدأ الإسلام يتطلع إلى خارج حدود شبه جزيرة العرب، على ضفتي فارس والروم، مرورا بإمارتي الغساسنة والمناذرة العربيتين المواليتين للإمبراطوريتين الفارسية والرومانية.
ولأن المعركة بين الإسلام والشرك لم تكن معركة توسع جغرافي بل هي معركة إعادة بناء الإنسان من داخله بإعادة صياغة نفسه وتشكيل عقله وتصحيح تصورّه تجاه خالقه وتجاه نفسه والكون والحياة..فقد اقتضى المنهج التربوي “تحرير” الإنسان أولا، ليس بنقله مكرها من ظاهر الشرك إلى “قشور الإسلام” وإنما من عبادة أرباب متفرقين إلى عقيدة التوحيد : “اعبدوا الله ما لكم إله غيره”. وعلى هذا المحور دارت كلمعارك الإسلام وفتوحاته.
ومع أن فتح مكة سمي “فتحا” إلاّ أن طبيعة بعض من تحولوا فجأة من الشرك إلى الإسلام كان بحاجة إلى غربلة وفرز، إذ لم يكن دخول الناس”في دين الله أفواجا”خيرا كله،فقد حملت موجهة التدين الجماعي فضلا عظيما وخيرا عميما.. ولكنها حملت معها كذلك بعض “ملامح” التسيب والتخلخل والانتهازية والإرجاف..وقد أثر ذلك في بناء المجتمع الإسلامي فكان لابد من “هزة” عنيفة تسقط كل الأوراق الصفراء الملتصقة بشجرة الإسلام الخضراء الوارفة.
لقد أسلم – خلال يوم الفتح وبعيده - أزيد من ألفين من قريش كان أكثرهم قد “رمى المنشفة” وسلّم بقوة زحف الإسلام رغم اعتقاده أن هذه الطريق كانت لا تزال بها كثير من العقبات ما دامت هوازن وثقيف لم تنصاعا بعد لحكم الإسلام ومازالتا تترصدان المسلمين عند كل منعرج، وكلتاهما تعلم أن بعض الذين أسلموا يوم الفتح مازالت نفوسهم تهفوا إلى الشرك، وقد تأكد ذلك يوم خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع جيش عرمرم (قومه إثنا عشر ألفا) إلى حنين، كيف أن الصف لم يكن مستويا، وأن بعض النفوس مازال بها دخن، وأن مفهوم الدينونة لله لم يترسخ بعد.. يقول أبو واقد : “خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية فسرنا معه إلى حنين، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة يقال لها ذات أنواط يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما، فرأينا – ونحن نسير مع رسول الله - سدرة خضراء عظيمة فنادينا من جنات الطريق : يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال (صلى الله عليه وسلم) : “الله أكبر..الله أكبر..الله أكبر..، قلتم،والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى لموسى : “إجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون” إنها لسنن، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة”.
ولعل هذا المثال كاف لمعرفة مستوى الإيمان الذي كان عليه القوم ودرجة اليقين التي ظلت مهتزة – في نفوس كثير من الطلقاء- طيلة المدة الزمنية الفاصلة بين يوم حنين ويوم تبوك، والتي ظل عليها مجموع من كان أسلم حديثا من الذين تم طبخ إيمانهم على نار متوهجة يوم الفتح، فلم يتم إنضاج هذا الإيمان بالقدر الكافي على نار هادئة، وتحولت النظرة الإيمانية إلى غرور وإعجاب بالكثرة ،وتحول الإيمان من النوع إلى الكم ومن القدوة إلى الأعداد الهائلة حتى قال قائلهم : “لن نُغلب اليوم من قلة” فكانت النتيجة مباغته، واضطرابا، وخلخلة صفوف، وهروبا من ساحة المعركة وبداية هزيمة ماحقه.. لولا لطف الله تعالى الذي ذكرهم بمعايير الإيمان وأسباب النصر، وأن الله هو الناصر والمعين،”لقد نصركم الله في مواطن كثيرة. ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلمتغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين”.
بهذه النفسيات المضطربة المتناقضة، وبهذه المستويات المهزوزة من الإيمان المتردد السطحي.. واجه المجتمع الإسلامي، في أخريات تشكيله، أوامر القرآن الكريم وتوجيهات الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يحضر النفوس لآخر جولة من جولات البناء من الداخل، ويكشف له الله تعالى عن دقائق خبايا النفس البشرية ويعري نوايا الذين يتحركون من داخل الصفوف ويتوغلون في النسيج الاجتماعي الإسلامي ويصلون خلف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتوزع عليهم الغنائم..إلخ، ومع ذلك ما تزال قلوبهم تحدثهم بالوقيعة بالمسلمين إذا حانت الفرص.
(يتبع)