ليست السكاكين وحدها هي التي تنحر في العراق وغير العراق ، بل إن الفكر الذي يغذي ذلك موجود في الأعماق ، وما يحصل إنما هو نتيجة ثقافة دموية كامنة تضع المقدمات للنحر المخيف. وقد تبلد حس بعض الناس رغم ماتحمله هوامش الأخبار كل يوم من مرعبات الحوادث : أربعون جثة فصلت عن رؤوسها … ثلاثون جثة مشوهة … ميتم للأطفال المتخلفين عقلياً تمارس عليهم أنواع الاعتداءات الجنسية وهم في غاية الهزال والعري .. تفجير مرقد الإمامين الهادي والعسكري عليهما السلام [عبارة سنية الأصل فلا ترتعب] .. تدمير مسجد الإمام العارف بالله الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه [عبارة شرعية مائة بالمائة فلا تخف منها] … أي غابة هذه بل أي احتقار لكرامة البشر … ووصاية همجية عليهم.
عبثاً نحاول الخروج من الأزمة ، لأن جذور تلك الثقافة وأصول ذلك الفكر موجود في الأعماق … نعم وبشكل مؤكد…. ومن يراجع العديد من الكتب والأدبيات (والمؤلف أكثرها في عهود الانحطاط الأولى، تمييزاً لها عن عصور الانحطاط الحالية) سيجد المقدمات والتحضير النفسي والفقهي والاجتماعي للنحر الذي يبدأ بالحرص والغيرة على الدين والعقيدة ، مع تنزيه النفس والنظر إليها بعين الكمال مع احتقار عمل الغير وعدم تخطئته فقط بل محاولة اقتلاعه من جذوره، وعندما تصبح الأمة في حرج ويفقد العقلاء زمام الأمور فإن التوحش يبرز بشكل مرعب متكئاً على تلك المقدمات التي زرعت في العقول خلال مئات السنين حتى غدت مكمناً (لفيروسات) توحش مذهل ، وما تسمعه في أيام الفتن والاضطرابات هو النتيجة الوحيدة لها.
الاجتثاث ليس هدفاً ولا وسيلة ولا مبدأ ولا مقصداً بل حالة متوحشة صرفة.ً وسواء كان الاجتثاث فكرياً أم عسكرياً أم ثقافياً فنتيجته واحده .. المزيد من الدماء.
الواحدية عقيمة والتعددية هي سبب التكاثر والنمو ، وكما أن الوجود المجرد لكائن ما لا يؤدي إلى التكاثر بل إلى الفناء المحتم، ولا يمكن الإنجاب الطبيعي حتى يكون هناك زوجان (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) الذاريات 49، فكذلك واحدية السياسة والثقافة والحضارة بل الفلسفة والأخلاق والأعراف … لاتؤدي إلا إلى العقم
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) المائدة، 48…. وإذا فهمنا ذلك عرفنا أن من الأسباب الرئيسة لاضمحلال الحضارات وفناء الدول وتصدع الأنظمة الشمولية مهما طال بها العمر وانقراض كثير من الفلسفات والآراء هو الواحدية التي تحمل جراثيمها ، لذا لم يكن الإسلام قادماً للاجتثاث بل للهداية والتقويم ، بل أعطى المخالف من أهل الكتاب مكانة خاصة من الاحترام ، بعد نظر منه في إبقاء مكونات مغايرة في أعماقه ترفد بعوامل النشاط والحركة والتبادل الحضاري.
يظن البعض أن إفناء الآخرين هو سبيل الاستقرار لأي مبدأ أو نظام أو عقيدة وحتى دولة … والحقيقة أنه بداية نهايتها ، لذا أعلن الإسلام أنه (لا إكراه في الدين) ، وينقض الإسلام عروة عروة من لم يعرف الجاهلية …
ممارسات الإفناء تتحرك اليوم على المحاور الثلاثة :
1- محور الهيمنة الدولية : والتي في حقيقتها هيمنة استعلائية منحرفة ومصاصة لدماء شعوب الأرض وخيراتها، ولقد شعرت بالاشمئزاز، وأنا أسمع الرئيس بوش يتحدث عن الحرية، وتوق الشعوب لها ، متناسياً أن النظام الأميركي هو أكبر قامع لحرية الشعوب (وهو بالتأكيد شيء آخر غير الشعب الأميركي الذي تعمى عليه حقائق ماتفعل إدارته) وما تفعله قواته في بلاد الله وخصوصاً البلاد الإسلامية شيء لا أظن أن البشرية سوف تغفره يوماً، بل أضافته إلى السجل المخزي والذي كتب بالدم وضم رفات مئات الملايين من الهنود الحمر الذين أبادهم التوحش الغربي، ثم النهب المنظم لخيرات وثروات الشعوب، ثم العدوان على الطبيعة والبيئة والإنسان والحيوان والنبات والحجر، وقبلها هيروشيما وناغازاكي وبعدها التوحش المرعب والإبادة المخيفة للشعب الفيتنامي ، والسكوت عن المذابح البشعة في فلسطين والعراق وأفغانستان وعصابات القتل والإجرام والأنظمة القمعية في أميركا اللاتينية ، والمليون أفريقي الذين ذبحوا بالبلطات والسكاكين بين الهوتو والتوتسي وأم العدل تتفرج … وفوق ذلك تمتلك الجرأة لتتحدث عن العدل … والحرية … والكرامة في عالم هي التي تقوده نحو الفناء الوشيك، ولا ينقص ذلك لتتم الصورة إلا لعبة صغيرة تذهب إلى (الكنيست الإسرائيلي) وتستعدي على بلدها وشعبها، وهي تظن أن هناك من تدغدغ قلبه الأحلام الأميركية بالنصر الموعود، إننا وبكل صراحة نرفض النصر الأميركي المزعوم (إذا كان نصراً حقيقة) فكيف وهو قبر لا يماري في حقيقته اثنان ولا يطمع في النزول به من له أدنى نصيب من عقيدة أو وطنية أو صدق إلا إن كان فريداً في غادريته، متميزاً في خيانته، ويمكن لأمثال هؤلاء أن يتأكدوا تماماً أن أي مواطن فيه ذرة خير لبلاده، ومهما بلغ به الضيق من النظام الحاكم، فإنه لن يمد يداً ولا عقلاً ولا قلباً للنظام الأميركي وستبقى روحه في كفه يصد الأذى ويحمي الديار. ولقد حزن البعض لتداعي دولة محمود عباس الكرتونية ، ولكنهم لم يفكروا ملياً بعواقب طلبه قدوم قوات دولية لحماية الفلسطينيين!!! لقد صار خطيراً جداً تواجد قوات دولية في جنوب لبنان وقدوم قوات دولية إلى غزة وجلب قوات عسكرية إلى الحدود السورية اللبنانية .. فالنتيجة الوحيدة هي الاحتلال الكامل للمنطقة.
ومن باب النصيحة لله فإننا نقول لإخواننا في أي خط إسلامي أن يحذروا من يتم استيعابهم ضمن المخطط القادم الذي يعدهم بتغيير أنظمة بلادهم ، وحتى لوكانت تلك الأنظمة تحاول شراء رضا النظام الأميركي، فإنها أنظمة لها أعمار محدودة ، وهي على سوئها وظلمها تكاد تكون سيئة من سيئات ذلك النظام العالمي المتوحش. والخط الإسلامي وحرصاً على سلامته الاستراتيجية لا ينبغي له أن يحمل على كتفيه إثم الخضوع لهيمنة النظام الأميركي، وإذا كانت أدبيات العمل الإسلامي تتحدث دائماً عن الفجر الآتي بعد ظلام طويل، فإن ظلمة النظام الأميركي كله إلى رحيل، وما أصبحت تكنه أمم الأرض من كراهية لذلك النظام بشارة بانتهائه القريب … فاصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
[من الحقائق المؤلمة أن الكثيرين من طلاب الجامعات والشباب يحلمون بالخروج من بلادهم لعوامل شتى ولكنهم يكرهون اليد الغريبة إلى أبعد حد ولديهم من الصدق والإيمان ما هم مستعدون معه لبذل أرواحهم دفاعاً عن دينهم وبلادهم … وهم في توقهم إلى الخروج لا يكرهون بلادهم بل يكرهون الظلم الذي صار معشعشاً فيها والذي جعل الشباب يفكرون في الهجرة بسبب ما يرافق ذلك الظلم من قلة فرص العمل والمحسوبيات وعدم تكافؤ الفرص وقلة الإتقان وغير ذلك … فضلاً عن عدم احترام الإنسان وكرامته].
المحور الثاني: محور الأنظمة القمعية : والتي أفنت طاقة بلادنا وشعوبنا، وجعلتها تعيش حياة برية بعيدة عن المدنية والحضارة، ومحرومة من حقوقها، فضلاً عن تخريب دينها وعقيدتها واستقامتها بل فطرتها وإنسانيتها ، هذا إن لم نتحدث عن نهب خيراتها واقتصادها وسوء إدارتها، ولنكن صرحاء حتى العظم : على أنظمتنا (الظالمة) أن لا تغتر كثيراً بما تقوله عن وقوفها في وجه المد الأميركي لأن وعي الشعوب لم يعد خاضعاً للمزاج العالمي ولا المحلي، ولم يعد الإسلاميون وغير الإسلاميين من الحريصين على أوطانهم براضين عن السقوط في القبضة الأميركية للنجاة من الظلم المحلي، ولكنهم في نفس الوقت لا يقبلون بحجة مقاومة الهيمنة الأميركية على العالم أن يبقوا أسرى ظلم طويل، وتحت وطأة انتقاص مفضوح لأدنى الحقوق الشرعية والإنسانية ، ولم يعد بريق شعارات النضال ملهياً لهم عن الثروات التي ينهبها أبناء البعض، ولم تعد الهتافات الثورية تمنع من إدراكهم العميق لما يحف ببعض القوانين والمحاكمات من ظلم مبين، وما تشرع له أبواب السجون كل فترة، وما سببته تلك الأنظمة من تخلف مخجل ونقل إلى البدائية عم كل سبيل.
على الذين يظلمون شعوبهم أن يعلموا أن مد الحرية قادم لا بيد الإدارة الأميركية بل بوعي الأمة التي ذاقت الذل ألواناً، ومالم تبادر تلك الأنظمة البدائية إلى الصلح مع شعوبها فإنها هي التي تدفع إلى الطوفان الذي لايريده أحد، وكل القوانين الاستثنائية، وكل الأحكام الظالمة، وكل الضمانات الأمنية، وكل الأموال المنهوبة فليس لبقائها في يد الظالمين أي ضمان وستقلبها الشعوب على رؤوس ظالميها في لحظات ..
حسنٌ يظن الظالمون أن الشعوب ستخسر وبالتالي فهي لن تقايض خسارتها بالحرية وهذا سراب يجلوه التاريخ، فالظالمون يقعون في فخ الإدمان للظلم، وهم يحاولون التمويه وإظهار العدل، وكما يتصورون هم العدل لا كما تريد الشعوب، وبالتالي فالظلم يزداد ويزداد وهم لا يشعرون حتى تأتي لحظة التحول … ومهما خسرت الشعوب فستتقدم نحو حريتها والخاسر الوحيد هو الطغيان.
أتذكر هنا الآلاف من شهداء الإسلام الذين ظن الطغاة أن وهج دمائهم قد خفت … وما خَفَتَ يوماً .. بل إن وقع أقدامهم على طريق التحرير يرتفع صوته .. يسوق الظلم إلى نهايته التي زرعها هو بيديه.
لا بل إن دماء أي مظلوم في الأرض ما كانت لتضيع، ومن الأمثلة المؤلمة في ذلك قصة (قيكتور جارا) المناضل اليساري ضد ظلم الجنرال الهالك بينوشيه في الشيلي. (نذكر قصته من باب العبرة والإنسانية المضطهدة في وجه الظلم والطغيان … مع الاختلاف الكامل في المبدأ والعقيدة).
كتب فيكتور جارا أغنية ” أتذكرك يا أماندا” عندما سمع باكتشاف السكري لدى ابنته(اماندا).
كتب الأغنية كتعبير عن حزنه، واستحضارا لروح أمه الحبيبة التي أطلق على ابنته اسمها،وسرعان ما صارت هذه الأغنية سلاحا في يد الجماهير المقهورة التي رفعت على الأكتاف سلفادور ألليندي، وحزب الوحدة الشعبية نحو قصر الرئاسة في سانتياغو دي تشيلي ، وفي صباح 12 أيلول -1973 اعتقل فيكتور جارا مع الآلاف من زملائه وطلابه في الجامعة، بعد انتهاء الاعتصام الذي جرى احتجاجا على إنقلاب بينوشيت الدموي،هناك حيث غنى جارا أعذب أغانيه..
سال الدم من أطراف أصابعه وهو يعزف على الغيتار، غنى للحب وللحرية الآتية، وغنى ضد الطغاة،غنى “هاستا سييمبري كومندانتِ” وحين انتهى الجنود من اغتيال البلد، توجهوا نحو المدينة الجامعيةونُقل الأستاذ الجامعي، فيكتور ليديو جارا مارتينيز مكبلا مع طلبته إلى إستاد تشيلي .
تم تعذيب الآلاف ومن ثم إعدامهم على يد القوات العسكرية، وبحسب شهادة الكثيرين فقد عُذب جارا بوحشية إلى الحد الذي تهشمت فيه أطرافه وقفصه الصدري .. وأثناء التعذيب، وهو ملقى على الأرض مهشم العظام طلب الضباط منه ساخرين أن يعزف أغنية لأجلهم فأنشد بشجاعة “أتذكرك يا أماندا” أنشد ابنته وأمه وتشيلي الذبيحة.
في الخامس عشر من أيلول بعد المزيد من التنكيل بجسده أطلقت النار عليه بغزارة وتوحش من الأسلحة الرشاشة وألقي جسده في العراء على تخوم سانتياغو. ويتناقل الكثيرون قصيدته الأخيرة، التي قالها في ستاد سانتياغو, وكتبت وتم تهريبها في حذاء أحد أصدقائه.ولم يطلق جارا قبل رحيله اسما على القصيدة، وهكذا بقيت القصيدة بلا اسم ، لكن الكثيرين يشيرون إليها باسم “ستاد تشيلي”
في أيلول 2003, شاهد الطاغية بينوشيت, من غرفة توقيفه في مدريد, أهالي الضحايا وهم يشعلون، للمرة الأولى الشموع علنيا على مداخل ستاد سانتياغو الذي صار اسمه ستاد فيكتور غارا.
هذه قصة حزينة من قصص المظلومين في الأرض ممن لم تضع دماؤه بين يدي أحكم الحاكمين، فكيف بدماء الآلاف المؤلفة من حملة القرآن ودعاة الإسلام، ورافعي رايات الأمة ممن غيبوا في القبور أو علقوا على أعواد المشانق .. وما كان ذنبهم إلا أن قالوا ربنا الله … حاشا لعدل الله أن تضيع معه دماؤهم .. فليفهم الظالمون وليعودوا إلى الحق قبل فوات وقت.
المحور الثالث : محور التآكل الداخلي : وهو الأخطر ولا أزال أتهيب الحديث والكتابة فيه بعمق فهو أكثر خطراً، وشائك أكثر مما قبله، وقد طلب العديدون من الأفاضل تناول الموضوع ومازلت أجد فيه صعوبة ، وسأتوسع هنا قليلاً دون أن يعني ذلك الكفاية منه ، آملاً أن يهبني الله القدرة والشجاعة على المتابعة في كلمات قادمة.
إن بذور الاضمحلال نحملها في أعماقنا أحياناً دون أن نحس بخطورتها ، ومالم يحصل موقف حازم منها فإنها ستكون العامل الأول في الضياع بل الفناء المريع، وفيما يلي مثال جلي عن ذلك: منذ بضعة عقود ظهر في الساحة كتاب لعالم ومرب وداعية رحمه الله، وأعجب الكتاب الكثيرين ، إلا أنني كنت في غاية الحذر من الغرق فيما يطرحه لعبارات وأحكام منها على سبيل المثال كلام عن السحر والسحرة والأحكام الشرعية المتعلقة به، وذكر المؤلف حكماً لبعض الفقهاء يقضي بقتل الساحرة!
نعم وماذا بعد؟ لقد قاس الكاتب المتبرجة على الساحرة. انتهى
لايلزم الإنسان الكثير من الذكاء ليعرف أن هذا تحريض باطني على القتل، ورغم الرفض الشرعي لموضوع التبرج، إلا أن الحكم عليه بهذه الطريقة مرفوض بالكلية فدماء الناس معصومة والرذائل الأخلاقية ليس حلها ولا يجوز أن يقال أن حكمها القتل … فدماء الناس (مسلمهم وكافرهم) معصومة في الأصل (من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). المائدة 32.
هناك حوادث قليلة ولكن روحها موجودة في العديد من بلدان العالم الإسلامي، وقد سمعت عن العديد من حوادث إلقاء ماء النار على وجوه فتيات متبرجات! من قبل شبان متدينين، والنتيجة هي خسارة الشباب وخسارة الفتيات .. ورغم أنني أحمل الأنظمة القمعية مسؤولية معظم الإحباط الذي قد يشعر به بعض الشبان الأغرار ممن يظنون إصلاح الأرض سبيله الوحيد هو أذى تلك الفتيات المسكينات .. إلا أنني أقول أن السبب الرئيس هو تلك الاندساسات الخفية التي تزحف في ثنايا الكتب والفتاوى … ويتعامل معها الناس بأشكال شتى ولكن هناك عينات تلتقط منها وفي ظروف معينة فكراً دموياً قابلاً لنحر الخصوم دون شفقة ولا بصيرة ولا تقوى.
لا يقتصر الأمر على كتاب معين، أو زمن خاص ، ففكر النحر للخصوم ما زال يجد سوقاً رائجة، ومن آخر ما اطلعت عليه كتاب لعالم كبير يتحدث فيه عن الإسلام في ديارالغرب ، ولذلك العالم وجهة نظر جديرة بالتفكير والمدارسة والاستفادة مما فيها، ولكنني صدمت بنحره لخصومه ومن الوريد إلى الوريد! .. والخصوم ليسوا فكرة ضبابية أو شخصيات تاريخية، بل بعض أعلام الأمة الكبار ….
ليت ذلك العالم الكبير قال أن النتائج التي وصل إليها أولئك العلماء غير صحيحة، وليته قال أن منهجهم غير دقيق، وليته قال أن تصورهم للمسائل لا تحفه الخبرة الكافية، وليته زعم أنهم لايدركون آثار فتاويهم وسلبياتها.
ليته قال كل ذلك … إذا لتحملته حقائق العلم والموضوعية التي طالما يذكرها … وبغض النظر عن بعض المقولات التي ذكرها وقررها ثم انتقد خصومه (إخوانه في الدين والإسلام) عليها بعد ذلك ناسياً انه قبل صفحات قد دعا إليها …
بغض النظر عن ذلك فقد قال في الصفحة 152 من كتابه: “فلكي يتبين لتلك السلطات الحاكمة أن الإسلام سهل لين كالخيزران، يتلوى حسب المطلوب وينسجم مع البيئة التي هو فيها أياً كانت، ويندمج مع النظام القائم، ولكي يولوا أصحاب الأنشطة الحزبية الإسلامية العون ويساندوهم في جهودهم السياسية إن في تلك المجتمعات الغربية أو في دولهم الإسلامية، يمضي أصحاب هذه الأنشطة في تلوين النظام الإسلامي والأحكام الإسلامية، بلون التبعية الدائمة [تشتهر بين الناس أسماء بعض العلماء بعض الدول الإسلامية أعطوا الأنظمة الظالمة من الشرعية ومبررات سفك الدماء ماهو أعظم بكثير مما يذكره العالم الغيور].
ويتابع: “وإبرازاً منهم لهذه الظاهرة أنشؤوا في تلك المجتمعات الغربية ما سموه المجلس الأوربي للفتوى والبحوث [جرأة عجيبة في الاتهام] ، ومما يلفت النظر أن كثيراً من أعضائه لا معرفة لهم بالفقه ولا علاقة لهم به [!!!]…. أما الهدف البعيد فهو أن ينال أصحاب هذه النظرة الإسلامية السياسية ثقة ذوي النفوذ الغربيين
[ ناقض الكاتب نفسه فقد قال في الصفحة 124: وأنا أقول: أما أن التيار الإسلامي يتنامى في المجتمعات الغربية فربما كان واقعاً وحقيقة … ولكن مما لا شك فيه أن تنامي هذا التيار يسير جنباً إلى جنب مع تنامي الثقة المتبادلة، ومع التنسيق اللازم مع الأنظمة الغربية [!!!!] والاندماج الأكثر شمولاً مع سياسة هذه المجتمعات والمصالح التي تكاد تشكل جامعاً مشتركاً بينهما، هذا مع احتفاظ الوجود الإسلامي بشخصيته ومستلزمات الإبقاء على هويته] .
ويتابع الكاتب: ” فيمكنوا لهم سبيل بلوغ الحكم في مجتمعاتهم ودولهم الإسلامية، وفرصة قيادة الحكم فيها حسب ما يقتضيه هذا الإسلام المساير المسالم المستسلم لتيارات الحداثة والتجديد على اختلافها. [اتهام دون دليل وطعن في دين ثلة من خيار الأمة ، وإطلاق في العبارات ينبغي لعالم كبير أن لا يقع فيها].
ثم يتابع العالم الكبير : “وسيراً على هذا المنهج أصدر مجلس الفتوى هذا سلسلة أحكام وفتاوى شرعية ، يعلم القائمون عليه والمديرون له أنها فتاوى باطلة اقتضتها السياسة … [تحدث العالم الكبير-145 عن ورع العلماء في الفتاوى وعن الرهبة التي كان تفيض بها أفئدة الرعيل الأول عند تصديهم للفتوى ، وكنا نرجو أن يترجم ذلك عملياً في كلامه قبل أن يذكر أحكامه القاسية على علماء لايقلون عنه إن لم يسابقه بعضهم في العلم والفضل] .
وللعلم فإن المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث يرأسه سماحة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي ، ومن أعضائه العلامة الشيخ فيصل المولوي ، والعلامة الفقيه الموريتاني عبد الله بن بيه … والعلامة الطبيب محمد الهواري وآخرون ممن يشهد لهم المسلمون في الأرض (ممن يوافقهم أو يخالفهم) بالحرص على هذا الإسلام، والعمل العنيد من أجله وبذل الوسع في مد بساطه ، وبعد ذلك هم بشر يخطئون ويصيبون، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب المقام صلى الله عليه وآله وسلم.
وحتى لا يحتار القارئ ولا يضيع وهو يبحث عن البوصلة الصحيحة فإن العالم الكبير يرشده إلى الحل: ص 155:” لعل الملاذ يكمن في البقية الباقية من العلماء الراشدين الذين عرفوا الله فوضعوا مخافته في قلوبهم ، وأيقنوا أنه وحده الضار والنافع، والمعز والمذل والمعطي والمانع فاتكلوا بصدق عليه وفوضوا أمورهم إليه ، واجتمعوا على تجديد البيعة مع الله وإعطائه العهود الصادقة أن يكونوا أمناء على شرعه حراساً لدينه ، ثم صاغوا من تلاقيهم وتعاونهم مرجعية علمية دينية، تصدع بالحق وتصحح المفاهيم الخاطئة، وتشطب على الفتاوى الدينية الباطلة، وتجيب عن أسئلة المستفتين أياً كانوا بما يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما اتفق عليه جماهير سلفنا الصالح، في غير غلو ولا شطط، مع التيسير من دون تمييع ومع الحيطة من دون تعسير… [إننا نؤكد للعالم الكبير أن من ينتقدهم في قلوبهم مخافة من الله وأنهم يعتقدون أنه هو الضار والنافع … وليته مادام ذكر المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بالاسم ومعلوم من هم فيه ومن يضم؛ ليت العالم الكبير يذكر لنا اسم هيئة علمية أو أسماء عشرة من العلماء الذين يخافون الله ويشكلون مرجعية مناسبة للأمة ، ويستوعبون ظروفها وآلامها بدل الكلام العام الذي لاينتفع القارئ له إلا بتهديم مؤسسة ولا بديل يسد جزءاً صغيراً مما تقوم به].
إن النحر لأولئك العلماء ولمجلسهم الذي عرف بهم وعرفوا به مرفوض شرعياً وأخلاقياً والطعن بدينهم وعلمهم بهذه الطريقة فيه تجاوز لا نقبله ونجل ذلك العالم الكبير عن الوقوع فيه.
فكر النحر خطير وهو من مقدمات التنازع والتشرذم ، وبداية ظاهره هو الغيرة والحرص على الدين، ولكن نهايته هو التعصب وضيق الصدر من كل مخالف وقد يتطور الأمر عند الجهال إلى التفسيق والتبديع والتضليل ثم التكفير.
كان الإمام الغزالي في غاية الفطنة ، ولم يلقب حجة الإسلام عبثاً ، فقد تصدى لفكر النحر من بداياته ووقف منه موقفاً واضحاً ، سواء في أطواره الأولى ، أو في انتشاره الوبائي التكفيري الماحق.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله (حجة الإسلام) في رسالته الصغيرة المسماة فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة أن الوجود له خمسة أنواع : حقيقي وحسي وتخيلي وشبهي وعقلي ، وأن من أقر للنبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم بواحد منها فقد خرج من الكفر (ص25-31) والشأن معه أن تقول أصاب وأخطاً أما الكفر فليس له وجه .
وقد درسها بعض طلاب العلم فدهشوا وقالوا : إن كان كلام الإمام الغزالي صحيحاً فكل مادرسناه خلال السنوات السابقة غير صحيح! لأن مايطرحه الغزالي وأمثاله من النادر تدارسه، وفكر النحر أقرب إلى الأمزجة في أزمنة التعصب والانغلاق.
وصية الغزالي “فأن تكف لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ماداموا قائلين: لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها” ص 61، “والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طبائع من يغلب عليهم الجهل” ص 66.
و”من خالف الإجماع، ولم يثبت عنده بعد [التواتر] فهو جاهل مخطئ، وليس بمكذب، فلا يمكن تكفيره، والاشتغال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير” ص72.
“ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفاً على واحد من النظار بعينه، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب، أما الكفر فلأنه نزله منزلة النبي المعصوم من الزلل الذي لايثبت الإيمان إلا بموافقته، ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته، وأما التناقض: فهو أن كل واحد من النظار يوجب النظر ويحرم التقليد، فكيف يقول: يجب عليك تقليدي، أو يجب عليك أن تنظر وأن لا ترى في نظرك إلا ما رأيتُ، وكل ما رأيتُه حجة فغليك أن تعتقده حجة، وما رأيتُهُ شبهة فعليك أن تعتقده شبه، وأي فرق بين من يقول: قلدني في مجرد مذهبي وبين من يقول: قلدني في مذهبي ودليلي جميعاً؟ وهل هذا إلا التناقض!” ص22-23.
مشكلة النحر أنه لا يصيب طرفاً دون طرف فإنك عندما تنحر غيرك فلا بد أن التوحش سوف يستيقظ في نفسه أو طائفته أو جماعته، وبالتالي فأنت هدف أساسي للنحر رداً على نحرك المسبق ..
من ينحرون لايدرون ماذا فعلوا … سواء كانوا أصحاب قوة عظمى كالولايات المتحدة، أم كانوا أصحاب أنظمة قمعية جبرية (ديكتاتورية) أم أصحاب أقلام مثل الداعية الذي قرن الساحرة بالمتبرجة ثم شملهما بحكم القتل … ولو أستطعت أن أخاطب أياً من تلك الأطراف الثلاثة لصحت بأعلى صوتي : هل تدرون ماذا فعلتم أيها المساكين… إنكم عندما بدأتم بنحر غيركم فلن تحصلوا على أية نتيجة نهائية ومضمونة لأن السكين التي تحملونها لا تنحر خصومكم بل تبدأ من أعناقكم أنتم … فالنحر للغير هو عين الانتحار .
كتبه : أحمد معاذ الخطيب الحسني