الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه الكرام والتابعين وبعد:
فقد كنت أعجب لكثرة ما تحدث بعض الكتاب عن الإمام الغزالي رحمه الله وتقصيره في الكلام عن الجهاد في سبيل الله في كتاب الإحياء رغم معاصرته لأهوال تشيب لها الولدان ، ففي عصره اجتاح الصليبيون أنطاكية ثم معرة النعمان وذبحوا فيها مايقارب مائة ألف من الناس ثم اقتحموا القدس سنة 495هـ وجرت سيول دماء المسلمين في أزقتها (وعمر الغزالي وقتها يقارب الخامسة والأربعين) ولكنه بقي مستغرقاً في عزلته ، وحاول بعض العلماء إدراك السبب فذكر العلامة القرضاوي على سبيل المثال أنه (لعل عذر الإمام الجليل أن شغله الشاغل كان الإصلاح من الداخل أولاً ، وأن الفساد الداخلي هو الذي يمهد للغزو الخارجي ….. لقد وجه أكبر همه إلى إصلاح الفرد … وهذا هو أساس التغيير الاجتماعي) ، وشن عليه آخرون حملة شعواء فذكر الأستاذ محمد يوسف موسى أن الغزالي وأمثاله كان من الأنانيين الذين يبحثون عن سعادتهم الخاصة ..و(لم يكن … يعنيه الصالح العام) ..
لسنا بصدد تحليل دور حجة الإسلام الغزالي وآثار فكره سلباً وإيجاباً ، ولكننا بدأنا نعي الحالة التي كان يعيشها فهي قريبة إلى ظروف اليوم.
أوضاع صعبة وتراجع في السيادة وهيمنة خارجية وأنواع مخيفة من الاحتلال ؛ من احتلال السوق والثقافة والعقول إلى احتلال الأرض والنفط فالماء ، والحديث عن المقاومة حديث عاطفي وتسخير معيب للمنابر من دون جذور عميقة له ولايوجد من مقدماته الحقيقية شيء.
نحن مساكين حقيقة عندما نقع تحت قبضة الظالمين سواء كانوا من الخارج أو الداخل وإذا كنا على مذهب المعتمد بن عباد من أن رعي جمال يوسف بن تاشفين أفضل من رعي خنازير الأذفونش فإننا نقول أيضاً بأن ظلم ذوي القربى أشد على النفس من وقع الحسام المهند.
ولكن لنكن صرحاء: الجهاد مع من وضد من ولماذا؟ تلك هي الحيرة التي تطوف في عقول الكثيرين! إن الأنظمة الركيكة في بعض بلاد العرب مستعدة للركوب على أي موجة عند تدارك الغرق، وهي مستعدة دائماً لإيجاد زخم عاطفي من أجل ديمومة استمرارها … ويحتار الإنسان المجرد حقيقة عندما يبحث عن رصيد حقيقي لتلك الأنظمة من أجل بناء الأمة بعيداً عن مصالح القبيلة والأسرة والآل … فلا يكاد يجد.
صارت للشعوب المسكينة مهما أعطيت من المهدئات ذكريات مريرة ومن نماذجها المؤلمة قائد إحدى الجبهات الثورية العربية الذي فر (بالبيجاما) وعلى حمار عند الكر عليه بدل أن يكون أول الاستشهاديين!
عندما تحصل حالات الرخاء تنشغل الأنظمة في البناء! لذا فليصمت الجميع لأن البناء شغال وأي محاولة لطلب حق ما إنما هي تحصيل حاصل واستعجال لخير قريب، وتمضي السنوات في عالم متسارع بشكل خطير والبناء لا يزال في غاية اللطف والتواضع ، وتأتي الأزمات فيظهر الحجم الفعلي للبناء البديع! (تبارك الله أحسن الخالقين) ، ويحاول البعض رفع الصوت مطالباً بالتغيير فتشتعل ساحة النضال الثوري حوله! وهل في مثل هذه الأوقات يكون الحديث عن حقوق الأمة والمعتقلين ومايفعله أبناء الذوات والأموال المنهوبة والاضطهاد الديني! يحتاج الأمر إلى تقوى! لنفوت الفرصة على كل طامع وغدار وماكر ومحتل!
انتهت تلك اللعبة أيها الحكام الكرام ، باختصار نريد حقوقنا … التي حرمتمونا منها دهوراً … وثقوا تماماً أننا نحن الذين نحميكم ونحن الذين سنفدي البلاد بأرواحنا ودمائنا وجهدنا وبذلنا وعرقنا ودمعنا … ولكن نرجوكم …. كفى متاجرة بنا … كفى …
إن أعمار الدول مثل أعمار البشر ، والكل إلى الفناء المحتوم! ولا غالب إلا الله رب العالمين.
من الصور المحببة إلى العوام قصة عنترة بن شداد وقد كان فارس قومه ولكنه اعتبر عبداً وقيدت حريته وعندما أغار الأعداء أمره سيده بالغارة فقال: العبد لايحسن الكر! فقال سيده: كُرّ وأنت حر .. والعبيد لايقاتلون .. والحكام الذين اعتبروا الشعوب قطيعاً من النعاج يسمنونه ليختاروا منه من يشاؤون ليعلفوه أو يحسوه مرقاً وينهشوه لحماً ويشربوه دماً … تلك الشعوب إن لم تعط الحرية فسيكون أكبر خاسر هم الحكام! فلم يبق عند الشعوب ماتخسره بعد سنوات المحق الثوري الطويل والمحكم والدقيق.
إن الحالة الراهنة لربما تدفع إلى اليأس عند البعض لعدم إدراكهم ماهو الفعل المطلوب ، فالقرارات الكبرى ليست بأيديهم ، والمؤسسات مصادرة من (بابوج إلى طربوش المجتمع) والأمور الصغيرة تافهة لن تفيد في المرحلة الخطرة والحساسة (بقايا فكر الثورة العصماء) والطريق الأقصر هو الهزيمة النفسية واليأس والانسحاب.
لنعد إلى الإمام الغزالي فلعل لديه جواباً! فهو لم يترك الجهاد كما ظن البعض وحاولوا تلمس العذر له ؛ فقد تحدث عن ذلك في كتبه الفقهية وصرح بأنه فرض عين! ولكن من غاص في إحيائه وخاصة في الكتاب التاسع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يرى كيف أدرك الغزالي أن تضعضع الأمة سببه المنكرات الداخلية العظيمة لذا فإن البدء بها هو مفتاح الثبات والقوة في المجتمعات (فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين ، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ..) ويضع الغزالي ضوابط واضحة وفقهاً دقيقاً كي يكون الأمر أداة صلاح ووقاية للمجتمع ولايكون باباً للفوضى والاضطراب ، ولكنه يأتي بأمر عجيب حقاً! فيقول: ( بل كل من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضياً به فذاك ، وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه! فكيف يُحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه) .
لقد قرر الغزالي مبدأ أن الإصلاح هو مؤسسة اجتماعية للكل حق في العمل داخلها ، وليست منحة يتكرم بها الحكام على الشعوب المستعبدة.
إن الحرية شرط لابد منه في أي عمل ، ولا تعحبني العقلية التي تبدأ بوضع الشروط قبل طلب الحرية، فإن سد الدروب هو أول آلات الظالم والمستبد، فلنبحث عن الحرية وبعدها نناقش التفاصيل.
لقد كان في كل مجتمع حي مرجعيات عفوية يلجأ إليها الناس دون إكراه وقد أدت دوراً عظيماً في الحفاظ على المجتمع ، وقد ظنت الأنظمة الثورية العربية بالمرجعيات شراً فعملت على تهديمها ظانة أنها بقية الرجعية والظلامية والورائية! والتخلف والجهل المبين حتى إذا لم تُبق في الناس كبيراً ظنت أنها قد صارت هي الكبير! غافلة عن حرمانها من أغلب مقومات الامتداد والاحترام بين الناس! ومن الطرائف في ذلك ماذكره فخري البارودي في مذكراته من أن الحكومة العثمانية ( وفي أيام احتضارها) قد فتحت محكمة تجارية لدرء المنازعات بين التجار! وبقيت تلك المحكمة ثلاث سنوات لم يدخلها شاك واحد ، فقد كان المجتمع قوياً في داخله رغم الضعف المحيط به .
ولقد انكسرت ألمانية واليابان عسكريا في الحرب العالمية الثانية ولكنها بقيت شامخة في بنيتها الداخلية وكالت الصاع لمن احتلها اقتصاداً وفعالية دولية وحركة علمية ودوراً سياسياً له ثقله في العالم.
عندما يتخلى الناس عن حريتهم فإنهم يقبرون أنفسهم ومجتمعاتهم بأيديهم ، فدعونا نحيي المرجعيات وليبدأ كل من حيث يقدر، ومن أولى المرجعيات بالإحياء المرجعية الاجتماعية حيث كان لكل عائلة أو أصحاب مهنة جلسة (من الأسبوعية إلى الشهرية) دون تكلف ولا رسميات؛ بها تتجدد نفوسهم وتتبلور أفكارهم وتتراحم أنسابهم وتنسجم أعمالهم وتُحل منازعاتهم ويكسوهم من الإيمان الفطري رداء ومن العمل الصالح نور).
ليست مقاومة الاحتلال والعدو الخارجي بالصياح ولا بالسلاح المادي وحده فطالما ارتشعت أيدي الجبناء.
من أولى مهماتنا تمتين النسيج الداخلي لمجتمعنا وتقريب الناس من بعضهم وجمعهم على الخير وحثهم على البر ببعضهم والتسامح فيما بينهم وتذكيرهم بحقوقهم وحثهم على رفض الظلم، وعندها فستتكسر سفن الطامعين على شواطئنا المحمية بالإيمان والترابط والوعي العميق.
أحمد معاذ الخطيب الحسني
1 - يوسف القرضاوي ، الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه ، ط4 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1414هـ/1994م ، ص 174.
2 - المرجع نفسه ، ص162.
3 - أبي حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، القاهرة ، المكتبة التجارية الكبرى ، 2/ص 306.
4 - المرجع نفسه ، 2/ص 315.
5 - فخري البارودي، أوراق ومذكرات، تحقبيق : دعد الحكيم ، دمشق ، 1999، 2/ص 48.